الزواج في الديانة اليونانيّة ومفردات مار بولس والإنجيل

الدكتور مارون منصف

عندما نتحدث عن الديانة اليونانيّة فالحديث يكون بالأحرى عن الميثة (المتاهة) اليونانيّة، حتى وإن كانت هذه العبارة غير مألوفة لدى كثيرين، فإنها تبقى أكثر صدقًا من الأسطورة اليونانيّة أو الملحمة اليونانيّة، فبالعودة إلى كلمة أسطورة أجدها تعريبًا لعبارة ιστορία، وهي دائمًا يونانيّة الأصل وتعني التاريخ. فكما جاز التعريب في عبارات مثل جغرافيا أو فلسفة وكثير غيرها، لذا لا أجد مانعًا من تعريب عبارة ميثة وهي في الأصل اليوناني ،  μύθος، أي الحيلة أو المتاهة أو الخدعة، ولو كنت في هذا أسلك مسلك المحافظين على الأصل اليوناني، إلا أنّني لا أخرج عن المألوف، لأنّي أكون بهذا قد اتّخذت مسار أو حال كثير من اللغات الأعجمية التي اعتمدت هذا المفهوم وأبقت على الأصل اليونانيّ في العبارات اليونانيّة الأصل التي اقتبستها، ولو صيغت في غالبيّتها من حيث طريقة لفظها بأسلوب مختلف. لكن لا بدّ من التذكير أنّ الميثة اليونانيّة كانت قد غلبت على الطابع الفكري في بلاد الإغريق، فأضحت ما سمّيناه في عنوان هذا البحث بالديانة، لأنها أضحت تشكل وعيًا يشرح كل تلك الظواهر المبهمة عن سرّ الوجود، ولو من طريق الحيلة أو الخدعة، ما أدّى في النهاية إلى البحث عن الحقيقة،  فشكّلت عندئذ وجهًا من وجوه الفلسفة، آخذة بإسناد إله ما إلى كلّ من تلك الظواهر التي عجز العقل البشري في ذلك الحين عن شرحها. لذا لا يسعنا المضي في معالجة أيّ موضوع على علاقة بالفكر اليونانيّ، من دون إلقاء الضوء على كثير من مراحل تطوّر هذا الفكر اليونانيّ الذي عرف بدايته في الميثة، وصولاً إلى ما تركته هذه الميثة من تأثير عليه في إطار الفلسفة اليونانيّة، عليه نجــد من الضروريّ أن نعالج موضوعين أساسيّين هما  : 

أولاً ـ من الميثة إلى العقل

هذان هما، بنظرة شاملة، الحدّان اللذان كان الفكر اليوناني يترجّح مصيره بينهما، إذا تتبّعنا تبدّلات الميثة (الحيلة) في شكلها الخاص، ذي النمط اليونانيّ القويّ، والذكاء الداهي المكوّن من احتيال، ومهارة، ومكر، وخداع، وشطارة في كلّ الميادين نجدها فكرًا عمليًّا، يقوم على التخاصم مع العائق، يواجه عدوًّا في امتحان قوّة تبدو نتيجته حاسمة وغير أكيدة في آن واحد. هذه الحيلة (الميثة) جلبت لإنسانها النجاح هو الخبير والمتبصّر بآلاف الألاعيب، حتى عندما كان يبدو هذا مستحيلاً. هذا الذكاء المرتبط بالعمل يبدو أنّه كان يتقن قواعد اللعبة، أهدافها ونماذجها العملانيّة الخاصة. ومنذ العصور الأولى حتى العصر الهلينيستي، ترسم الميثة، في الثقافة اليونانيّة، جنبًا إلى جنب أو على هامش المعارف النظريّة الكبرى والفلسفة ، خطًّا قويًّا . وهذه الميثة اليونانيّة التي ينطق باسمها بطلها أوذيسي، وسواء نعتناها بالغشّ ، بالمكر ، بالمهارة ، باللباقة أو بالدراية،  فهي تتّبع طريقًا ليس إلاّ لها، لذا يبقى السؤال مطروحًا : أيعود الفكر كليًّا للميثة أم كليًّا للعقل أم لا يعود لكليهما ؟                    

لكن هذا لا ينفي تأثّر الفلسفة اليونانيّة بكثير من ماضي هذه  الميثولوجيا اليونانيّة التي  دفعت بالفكر اليونانيّ ليخلص إلى تطوير هذه المفاهيم وصولاً إلى ما وصلت إليه الفلسفة، إن مع أرسطو، الذي توصّل إلى تحديد ماهيّة الإله الواحد، أو مع أفلاطون الذي تحدث عن ألوهية كلّ إنسان من خلال ما طرحه في عالم المثل والأنا السماويّ، وما رافق ذلك من صور ميثية. هذه كلّها، أي التعاليم الفلسفيّة، وصلت إلى ما وصلت إليه انطلاقًا وتأثّرًا مما كان سائدًا في حينه ودعت الحاجة إليه، أي إن تعدُّد الآلهة أدّى إلى فكرة الإله الواحد مع أرسطو، من دون التبصّر في نقد ما تحمله من صحة أو عدمها؛ وبالحديث عن الصور الميثية التي ذكرت آنفًا أشرح بأنه حتى أفلاطون وفلسفته التي سادت في الغرب عمومًا لم تخلُ من هذه الصور الميثية. أذكر على سبيل المثال نهر النّسيان لدى أفلاطون، وهو هذا النهر الذي كان يشرب منه المتقمِّصون كي ينسوا حياتهم السابقة، هذه الصورة الميثية تؤكِّد مدى تأثر الفلسفة من خلال أحد أهمّ أعلامها بالميثة، وما حملته من أدوات لتطوير الفكر في إطار الفلسفة.  

ثانيًا ـ بين اللغة والميثة والعقل

تطرّقنا في المقدمة إلى تعداد كثير من المواضيع المتعلّقة بتعريف كلمة ميثة كي نجهِّز القاعدة التي يقوم عليها بحثنا الحاضر. فصياغة الكلام في اليونانيّة، حتى بدءًا من الميثة وصولاً إلى العقل، لم تكن تقوم على صياغة عاديّة عابرة مبهمة، بل كانت تحمل في طيّاتها جوهر التعريف من خلال صياغة الكلمة؛ فبالعودة مثلاً إلى كلمة فلسفة التي تعني صديق الحكمة، وبالعودة إلى كلمة جغرافية التي تعني كتابة الأرض، وبالعودة إلى كلمة  νους العقل عند أفلاطون نجدها تعني في جوهر المادة، وهنا نجدنا نتوقف عند تعريب آخر إذ عرّبت هذه الكلمة أي νους بنفس في العربية، أما بالعودة إلى كلمة زواج وهي موضوع بحثنا الحاضر، فهي كلمة مركّبة من γη   و άμμος ، أي الأرض والتراب. فالقران الجيولوجي والطبيعي بين الأرض والتراب هو نفسه القران الذي سيكون بين الرجل والمرأة، قرانًا لامتناهيًا تمامًا كما هي حال هذا القران الأزليّ الأبدي بين الأرض والتراب، فلا أرض من دون تراب ولا تراب من دون أرض، علمًا أن الأرض في اليونانيّة ترمز إلى الأم والتراب يرمز إلى الإنسان الأول بحسب بروميثي؛ وهنا سأدرج بعضًا من أخبار الميثة حول موضوع الزواج مستهلاًّ بزواج الإله زفس من الفتاة إيدرا التي كانت تلقاه على ضفّة النهر عندما يكون مرسلاً من قبل والدته أفروديت لتدبّر أمر هرقل، فإذ تحابّا سأل كلاهما الإلاهة أفروديت أن تزوّجهما فتخلقهما جسدًا واحدًا، كثيرًا ما نلحظ في الميثة اليونانيّة أحداثًا كهذه دلالة على هذا الحبّ اللامتناهي، وأذكر مثلاً آخر لتعزيز ما أتيت على ذكره آنفًا عن ألأندروجين وهي كلمة يونانية مركبة من ανηρ أي رجل و γυνη أي امرأة، فهي دلالة على أولئك البشر المتحابّين، بشكلٍ لا متناهٍ، ذكرًا وأنثى، على أولئك الأزواج الذين يوجدون بعد الموت في جسد واحد نصفه رجل ونصفه الآخر امرأة، دائمًا على الصورة نفسها التي كانا عليها في إطار زواجهما الأرضيّ، فهذا يعني أن مفهوم الزواج في اللغة ينتمي إلى الميثة، فالفكر اليوناني يدلّ على هذا القران اللامتناهي المكلّل بالحب والشفافية ليغدو، إن في هذا العالم أو في عالم الآلهة، عنوانًا للحياة المشتركة أو القران اللامتناهي.

والآن، بعد أن حدّدنا ماهيّة الزواج في الميثة أو الديانة اليونانيّة ، نعود إلى رسالة بولس الرسول إلى أهل أفسس وتحديدًا الآيات 21 إلى 33 من الفصل الخامس، لنرى مدى تأثّر فكر الرسول، وهو الملِمّ بالثقافة واللغة اليونانيتين فضلاً عن فكره الفلسفيّ الذي تأثر حتمًا بالفكر اليونانيّ فيقول ما يلي : “ليخضع بعضكم لبعض بمخافة المسيح. أيتها النساء اخضعن لأزواجكنّ كما للربّ، لأنّ الرجل رأس المرأة كما المسيح رأس الكنيسة”.

قبل أن أشير إلى المقاربة بين مفهوم الزواج في الفكر اليونانيّ ونص مار بولس في هذه الآية، أريد أن أتوقّف عند معنى الخضوع في اللغة اليونانيّة؛ الخضوع في العربيّة أوّلاً يلغي فعل الإرادة : يمكن أن أخضع لأحدهم بفعل القوّة أو الخوف وعدم إرادتي ما يريد إذ عليّ أن أفعل ما يريد، أما في اللغة اليونانيّة فالخضوع بحسب فعلυποτάσσω  المستعمل في النص في صيغة المجهول، هو فعل مركّب من υπο تحت و  τάσσω أنظم أو أشرف أي إنّ في هذا (الخضوع) تنظيمًا ما يبقي واقع المسؤولية والحرية موجودًا، فهناك تسليم لأمر لا استسلام، أمّا الخوف الذي يتحدّث عنه الرسول بولس في الآية التالية فهي (خشية) المسيح وليس الخوف بمعناه الصّرف، لذا أتوقّف عند معنى كلمة  φόβος كي أشرح مضمونها : هل الحديث هنا عن خضوع سببه الخوف الذي يعطّل مهمة العقل ويلغي قيمة الحرية ؟ هناك فرق شاسع في اللغة اليونانيّة بينφόβος   و  τρομάρια أوτρομάρα   اللتين تعنيان الخوف بحسب مفهومه السلبيّ الذي ذكرت سابقًا، فهنا لا أحد يخيف أحدًا، إنّما هناك دعوة إلى الخشية بدافع الاحترام الذي في مضمونها بحسب معنى كلمة φόβος وهو إدراك الصواب من الخطأ، وفي حال التخلف عن هذا الصواب أراني أخاف نفسي لأن الأنا يؤنّبني وليس هناك من يخيفني بداعي أنه أقوى مني وأنا لا استطيع شيئًا حياله، لذا نجد الفعل المشتقّ من هذه الكلمة أي  φόβος يصاغ دائمًا في الوسطيّ العكسيّ، أي φοβουμαι، والأفعال التي تندرج في عداد صيغة الوسطي العكسي هي محدّدة في اللغة اليونانيّة ولا يمكن أن تستعمل لا في المجهول ولا في المعلوم، أي أنا أخشى من تلقاء نفسي، فأصبح بهذا الخضوع في فعل إرادة يقوم عليه هذا الزّواج ولا أحسبه خضوعًا بل أرتضيه تسليمًا، كما سيخلص الرسول في مرحلة لاحقة بالإشارة إليه “عندما يقابل هذا الخضوع بالمسيح الذي أسلم نفسه عن كنيسته”، فيكون هذا الخضوع من بعضنا لبعض الذي استهلّ به الرسول هذا القسم من رسالته مستعملاً اسم الفاعل  υποτασσομενοι   هو نفسه بين الزوج وزوجه بخشية المسيح، أي تسليمًا للمسيح كما فعل هو بدوره مع الكنيسة وعنها، أي مع ما نحمله في ذواتنا من معرفة وتمييز للصواب من الخطأ، يتابع كذلك : أيتها النساء اخضعن لأزواجكنّ خاصتكنّ كما للربّ، أريد أن أركز على الضمير المستعمل وهو أزواجكنّ أو رجالكنّ. هنا استعمل بولس الرسول إحدى صفات الملكية ولم يستعمل ضميرًا منفصلاً عاديًّا وذلك للدلالة على ملكيّة المرأة للرجل τοις ιδίοις، لذا نجده يقول في موقع آخر من رسالته (1 كو 7: 4) : “لا سلطة للمرأة على جسدها، بل للرجل كذلك أيضًا لا سلطة للرجل على جسده بل للمرأة” ؛  يتابع الرسول فيقول : الرجل رأس المرأة كما المسيح رأس الكنيسة. قبل أن أشرح معنى كلمة κεφαλη   تبدأ المقاربة هنا مع ما شرحنا في الفكر اليونانيّ عن مفهوم الزواج، نجده يتحدث عن رأس أي إنّه يتحدّث عن جسد، فهو يتابع بالفعل ويقول : هو مخلص الجسد أي المسيح، ويشرح هذا الجسد بأنه الكنيسة بالرسالة إلى أهل كولوسي (1 : 18) “وهو رأس الجسد، أي الكنيسة” وذلك مؤكِّدًا أنه يتحدّث عن جسد وليس عن أيّ جسد بل عن الكنيسة أي نحن. أراني هنا أمام مقاربة تحمل في معناها الوحدة المنشودة نفسها في الفكر اليونانيّ، في ما يخص الزواج : المسيح رأس الكنيسة، ومن الناحية الأخرى الرجل رأس المرأة، ولكن يبقى الجسد الذي يرأسه ويشكله المسيح هو الغاية، والدعوة تؤول إليه من خلال ما يشكّله الرجل والمرأة من رأس وجسد، والمقصود هنا الوحدة في الزواج، بغية الامتثال والاقتداء من خلال هذه الوحدة  بالمسيح، ووحدته وجسده الكنيسة فقط، لعل الرجل هنا إذ يسمع توجّه الرسول بولس إلى المرأة بأنّ الرجل رأسها يفرح ويمدح الرسول بولس ويعجب به، لكن عليه أن يسمع ما يقول في ما بعد أيضًا يتابع الرسول مقاربته فيتوجه إلى الرجل؛ فبعد أن سأل المرأة التزامها، يسأل الرجل التزامه قائلاً “أيّها الرجال أحبّوا نساءكم كما أحبّ المسيح الكنيسة وأسلم نفسه عنها”، فهو يقابل كما ذكرت سابقًا ما سمّيناه (بالخضوع)؛ بالمسيح الذي أسلم نفسه عن كنيسته فيصبح هذا الخضوع تسليمًا كما ذكرت أعلاه، أسلم نفسه عنها، مستعملاً فعل παραδιδωμι والذي يعني حرفيًّا أعطي عن، من أجل، لمصلحة وليس بغية أو مقابل. مرةً جديدة أجدني أمام مقاربة مثالها الأعلى دائمًا المسيح، ولكن الدعوة موجهة إلى الرجال هذه المرة وليس إلى النساء، فكأن قواعد هذا الهرم قد اكتملت : الرجل والمرأة ورأسهما المسيح، فالسؤال يكون من يفرّقهما ؟ إذا كان هذا خضوعًا فهل نرى خضوعًا مثل هذا ؟ أو هل ما تزال نرى في هذا “الخضوع” خضوعًا أم تسليمًا ؟ فالرسول يقول مستعملاً فعل  υποτάσσω نفسه كما تخضع الكنيسة أو كما هي خاضعة للمسيح. أفنسمّي هذا خضوعًا أم تسليمًا ؟ فبعد أن عمل المسيح ما عمله من أجل كنيسته، أفنسمّي هذا ضعفًا أم خوفًا أم محبـة ؟،  أنظروا المبالغة في المحبّة التي أظهرها المسيح بمحبّته للكنيسة والتي يدعو الرسول بولس الرجل إلى الاقتداء بها : “أتريد أن تطيعك امرأتك كما تطيع الكنيسة المسيح؟ اهتم بها كما اهتم المسيح بالكنيسة. وكما يقول في هذا المجال القديس يوحنا الذهبي الفم: “إن لزم الأمر أن تتقطّع آلاف المرات تحمّل واصبر ولا ترفض، لأنك مع كل هذا لن تكون قد فعلت شيئًا مساويًا لما فعله المسيح من أجل الكنيسة”.  أعود لأشرح كلمة κεφαλή التي تعني الرأس، كي يتسنى لي ربط الأمور على القاعدة التي يألفها نسيج هذا النص، والتي تشتق منها العبارة العلميّة للدماغ أو العقل والتي تعني εγκέφαλος ، أي إن هذا الرأس ليس مجرد رأس لا يعقل أو لا يعي، إنّما هو مصدر تفكير وحرص وانتباه وحواس. فهو الذي يوزّع المهمّات على الجسد ويشكل وحدة لامتناهية معه. أما في الآية 25، كما ذكرنا سابقًا، فالدعوة موجّهة إلى الرجال “أيها الرجال أحبّوا نساءكم كما أحبّ المسيح الكنيسة وأسلم نفسه عنها”. سأتوقّف عند معنى كلمة αγάπη   المركّبة من άγω  أقود، ومن από، أي إن المعنى الصحيح الفيلولوجيّ اللغويّ هو الانقياد تجاه الآخر من الداخل. فتاليًا لا يسعنا الامتثال لهذه المحبّة التي أحبّ المسيح كنيسته بها إلاّ إذا أسلمنا أنفسنا لهذا الآخر نجدنا مرّةً أخرى نبرهن موضوع التسليم، فالفعل المستعمل في اليونانيّة هو فعل  παραδίδωμι   الذي، كما ذكرت سابقًا، يعني حرفيًّا أعطي عن، من أجل، لمصلحة وليس بغية أو مقابل أي أسلم نفسه عن، وهذا ما حصل فعلاً. إن المسيح أسلم نفسه بدلاً من الرسل أي الكنيسة أي عنا نحن جميعًا، والدعوة نفسها موجهة، إلى الرجل في إطار محبته لامرأته أو بالأحرى في إطار هذا الانقياد تجاه امرأته، لكنّ الرسول بولس يتابع ويشرح أمر هذا التسليم، كما ذكرنا في مستهلّ البحث، أو المحبّة كما ذكرنا آنفًا، فيقول ما ترجمته الفعلية هي التالية : “كي يقدّسها (أي الكنيسة) مطهّرًا إيّاها”. هنا سأتوقّف لأشرح مضمون هذه الآية وهي تحديدًا الآية 26 من الفصل الخامس. أغلب الترجمات أعطتنا ما يلي : ليقدّسها ويطهرها بماء الاغتسال وبالكلمة؛ أما إذا صحت الترجمة فلا بدّ أن تكون على هذا النحو : كي يقدّسها مطهّرًا إيّاها بغسل (بحمي) الماء في الكلمة. أولاً غالبًا ما لاحظت في مختلف الترجمات، إن في العربية أو في الأعجمية، عدم دقة في تحديد أزمنة الفعل في اليونانيّة، لكنّي أستطيع أن أفهم السبب فهذه الأزمنة لا مرادف لها في هذه اللغات. ففعل αγιαση مستعمل في صيغة النصب اللحظي الذي يعادل في العربية نون التوكيد للدلالة ومراعاةً مع لحظية أو صدقيّة حدوث الفعل، كما أن اسم الفاعل καθορίσας قد استعمل في الماضي التامّ αόριστος الذي يدلّ على أن حدث الفعل قد تم في الماضي وانتهى في الماضي، أي إنّ عملية التطهير قد تمت فعلاً وليست مرجوّة الحدوث، كما توحي بعض الترجمات. لذا أراني في هذه الآية كقارئ في اليونانيّة أمام معمودية جديدة بغسل الماء وتحديدًا بحمي الماء للطهارةλουτρος  بالكلمة. فهذه النّعم في الزواج قد تلاها الرب نعمًا عن الكنيسة حين أسلم نفسه عنها ليخلص وليقيمها مجيدة لنفسه، فلم يشعر باشمئزاز منها بسبب قباحتها أو خطيئتها. وهنا يقول الرسول بولس للدلالة على هذه البشاعة أو القباحة “كنتم قبلاً ظلمة وأنتم الآن نور بالرب” (أف 5 : 8). يتابع فيقول في الآية 27 من خلال فعل παρατιθημι الذي يعني أقيم إلى جانبي، ففي معظم الترجمات ترجم هذا الفعل ليحضرها (أحضر) فالترجمة ليقيمها إلى جانبه لا عيب فيها ولا غضاضة أو أيًا من هذا، وهنا يريد الرسول إحداث هذه المقاربة تمهيدًا للوحدة التي سيعلنها في الآية التالية، داعيًا الرجال إلى التمثّل بها تجاه نسائهم كما كان قد دعا أصلاً النساء للتمثّل بها حيال رجالهم، فيتابـع القول : بل كي تكون مقدسة وبلا دنسάμωμος ، يتابع على الرجال أن يحبّوا نساءهم. إن حرف الجر “على” لا يفي بالمعنى المقصود لأنّ الفعل هو οφείλω  أنا مُلزم، أو مَدين حتّى، فالدعوة للرجال هنا إلى التزامهم حبَّ نسائهم كحبِّهم لأجسادهم، ألا نرى في هذا الوحدة المنشودة نفسها أو المعتمدة في مفهوم الزّواج في الفكر أو الميثة اليونانيّة، إذ يعود مباشرة فيحدث المقاربة من أحبّ زوجته أحبّ نفسه ولا يقول هنا “جسده” للدلالة على الوحدة الروحيّة بينهما هما الاثنين أوّلاً، أي الرجل والمرأة، فيعود الرسول ليؤكّد هذا القول مستعملاً الطباق في اليونانيّة، وهنا يتحدث عن الجسد بمعنى اللحم. كان يتحدث عن الحب، ونجده الآن يتكلّم على الكره، فأراني أتوقّف مرة جديدة لأشرح معنى الكراهية في اليونانيّة μισώ  المركّبة من ισος المثليّة الموازاة وأداة النفي  μη لا، أي في الكره لا مساواة إذ هناك انفصال، يتابع فيقول لكنّه يقوتها ويربيها كما المسيح للكنيسة. سأتوقف عند فعل εκτρέφω علمًا أن في اليونانيّة فعل τρέφω الذي يعني أغذي أو اطعم، لكنّ الفارق بين الاثنين الذي لم يحترم في بعض الترجمات هو أن حرف الجر εκ الذي يُركب الفعل يجعل معناه، الذي يغذّيها من ذاته، لأن الرسول في كل هذا الفصل وضع رأس الهرم في كل مقاربة قام بها ليقول في هذه الآية: كما أنّ المسيح لم يكره الكنيسة بل أحبّها وهو يغذّيها من ذاته ويرعاها، كذلك في الزّواج أيّها الرجال، فليكن مثالكم المسيح في كلّ هذا، ليعود فيؤكد أنّ سلامتكم قائمة وعنايتكم جيدة لأنّنا كلّنا نشكّل أعضاء في جسده هو المسيح، أتوقّف لأشرح معنى كلمة   ωμος  الأكتاف على الأكتاف أي الهامة” و σαρξ اللّحم؛ ما دمنا أعضاء في هذا الجسد من لحمه ونحن بخير؛ سأتوقف أيضًا عند فعل الكون في المتكلّم الجمع لأشير إلى أنّ هذا الفعل يشير إلى ديمومة الحدث وليس إلى لحظيته كما هي الحال مع فعل γινομαι أي أصير أصبح لمرحلة معيّنة. ففعل الكون بمعناه يشير إلى الوحدة الدائمة كوننا أعضاء في جسد المسيح؛ أي إنّ هذه الوحدة ليست لحظيّة أو خياريّة بل هي ميثاق دائم،  مرّةً جديدة أسأل من يفرِّقنا ؟ فالرسول يعرض لنا صورةً قويةً جدًّا، ومثالاً حيًّا، يقودنا أيضًا في الوقت نفسه إلى الالتزام لكي لا يقول أحد إنّ “ذاك كان الله فما عساني أفعل ؟ هو سلّم نفسه”، هل أستطيع أن أفعل مثله ؟ لذلك يقول (يجب) فهو لا يتحدث لا عن موهبة أو عطيّة بل عن دَيْن. عندما قال الرسول أحبّوا نساءكم كأجسادكم لأن لا أحد يبغض جسده بل يغذّيه ويربّيه أو لا يتساوى معه، أي يكرهه؛ لذا نقرأ في التكوين أنّه عندما نهض آدم ورأى المرأة التي خلقها الله من جنبه قال “هذه الآن عظم من عظامي ولحم من لحمي (تك 2:22) كما أنّ الربّ يهتمّ بالكنيسة، بحنان، أي يهتم بنا جميعًا لأننا أعضاؤه، من لحمه وعظامه وعلى صورته كمثاله، هكذا ملزمٌ هو الرجل الاهتمام بامرأته لأنها خلقت منه وهي جزء من جسده (لا نرى أن المقاربة تختلف حتى مع الفكر اليهوديّ عن الفكر اليونانيّ في هذه النقطة من مفهوم الزواج)، يقول الرسول متّى الإنجيلي : “الذي خلق من البدء خلقهما ذكرًا وأنثى” (متّى 19 : 4) فهو يتكلّم مع الاثنين كأنه يتكلم مع واحد فلا يقول “خلقه ذكرًا وخلقها أنثى” ؛ إذًا بقدر ما تحبّ نفسك أنت ملزمٌ أن تحب امرأتك ليس لأنّ الرجل والمرأة لديهما الطبيعة نفسها وحسب، بل لسبب آخر أهمّ، أي لأنهما جسد واحد وليسا جسدين منفصلين، والرجـل هو الرأس والمرأة هي الجسد ، كما يقول الرسول بولس في رسالة أخرى له : “رأس كلّ رجل هو المسيح وأمـا رأس المرأة فهو الرجـل ورأس المسيـح هو الله” (1 كولوسي 11 : 3) فالسؤال كيف يقول إن رأس المسيح هو الله؟ إننا كما نحن جسد واحد مع المسيح، هكذا هو المسيح مع الآب، فالآب تاليًا هو رأسنا.   فيخلص إلى الآية 31 ليقول، ما أقمنا عليه بحثنا الحاضر : “لهذا يترك الرجل أباه وأمّه وسيكون متّحدًا (ملتصقًا) بامرأته فيصير كلاهما جسدًا”، أي الوحدة اللامتناهية على غرار الأندروجين أو زفس وإيدرا بحسب الفكر اليونانيّ، أتوقّف عند فعل προσκολληθήσεται المستعمل في المستقبل المجهول والذي يعني الالتصاق في  من προς   و κολλω الالتصاق في الآخر، فهو يعطينا مثلين : واحدًا عن الجسد وآخر عن المسيح، لذلك يذهب الرسول إلى أنّ الرجل والمرأة سيصيران جسدًا واحدًا، وتاليًا نجده يتحدّث عن سرّ μυστηριον، هذا السرّ أو هذه العبارة التي تعني ما لا يعيه العقل ـ ولكن هذا السرّ يتابع الرسول : “أنا أقوله في المسيح والكنيسة” (أف 5 : 32) يتناول علاقة المسيح والكنيسة، لأن المسيح أيضًا ترك أباه وظهر كإنسان على الأرض، واتّحد مع عروسه ـ الكنيسة أي معنا وصار روحًا واحدة معها ومعنا، بما أنّه، كما يقول الرسول في رسالة أخرى له، “من التصق بالربّ فهو روح واحد” مستعملاً الفعل نفسه  κολλω (1 كورنثوس 6 : 17)، وهو لسرٌّ عظيم لأن الإنسان يترك أباه وأمّه من ربّياه وماذا يفعل ؟ يلتصق، يرتبط بامرأة عرفها منذ وقت قريب فلا يحزن الأهل، إنه فعلاً لسرّ، بل يفرحون، فينتهي الرسول مستعملاً πλην، فضلاً عنكم ليحبّ كلّ واحد منكم امرأته كنفسه، ليشملهم بهذا السرّ قائلاً لهم : إن الدعوة مفتوحة لكم إذا شئتَ أيّها الرجل وإذا شئتِ أيّتها المرأة، فهذه الوحدة المنشودة بين المسيح وكنيسته هي أيضًا وحدتكم معه، فيعود ليطلب من جديد المحبة والخشية أي الاحترام، فهذا التناغم مع كلّ امتداده الروحيّ والخلقيّ يجب أن يُحافَظ عليه فلا يفتخرنّ الرجل بكونه الرأس فيحتقر المرأة، وعلى الجسد أي المرأة ألا تنقضّ على الرأس فتعانده، لأنه ما نفع الجسد من دون الرأس، وما نفع الرأس من دون الجسد؟ أخيرًا أقرأ لكم ما ترجمته عن القديس يوحنا الذهبيّ الفم في هذا السياق ” هكذا حدّد الله أن تخضع المرأة أن (تسلّم المرأة للرجل لكي) يعمّ السلام والوئام بينهما، لأنّه لا يمكن أبدًا أن يعمّ السلام حيث توجد رئاسات كثيرة، لذا يجب أن يكون الرئيس واحدًا، وهذا نلاحظه في كلّ مكان. على أيِّ حال، حيث الناس الرّوحيون فهناك يعمّ السلام أيضًا. على سبيل المثال، مسيحيّو أورشليم الأوائل كانوا خمسة آلاف إنسان، لكن كان لديهم قلب واحد ونفس واحدة. لا أحد كان يعتبر أنّ شيئًا من ممتلكاته كان له، لكنّ الواحد كان يخضع للآخر، الأمر الذي يدلّ على العقل والتقوى (انتهى الاقتباس).

إذًا يقول الرسول بولس : جسد المرأة وجسد زوجها خطابان من داخل كيانهما وعلى صلة مباشرة بين روحين وعقلين حتى يصيرا كيانًا واحدًا، كما يرى الرسول في هذا الفصل. الجسد هو أحد هذه الأمكنة الثلاثة التي تتمّ فيها الحركة الإنسانية القائمة على الحبّ الزوجيّ، وإذا انقطعت الصلة بين العناصر الثلاثة نكون مع روح محض وعقل محض وجسد محض. ولكن إذا تمّ التواصل بصورة سليمة تكون الوحدة الزوجيّة في الرضا الإلهيّ وصحة الوحدة البشريّة المبنيّة على العلاقات متكاملة، بحيث ينسكب الحبّ في الجسد والجسد في الحبّ.