الزواج في الرتب المارونية من خلال الترجمة السريانيّة للكتاب المقدّس

القاضي إيلي بخغازي

أقرّ المجمع الانطاكيّ لكنيسة الروم الارثوذكس الانطاكية، بتاريخ 2 نيسان 1952، قانون الأحوال الشخصيّة كثمرة أولى لصلاحية المراجع المذهبيّة. وبعد نصف قرن على القانون الأوّل تمّ تعديله خلال جلسة المجمع المنعقدة بتاريخ 16 تشرين الأوّل 2003 ونُشر في الجريدة الرسمية بتاريخ 30 تشرين الأوّل 2003، والذي جاء نتيجة التغييرات في مفاهيم الحياة الاجتماعيّة والعيش المشترك. وقال عنه العلاّمة المتروبوليت جورج خضر إنّه خطوة كبيرة أكثر اتّصالاً بالعقيدة والعصر، إلاّ أنّنا لا نزال في حاجة إلى التفتيش عن الثغرات التي تستوجب الملاحظة والتطوير نحو الأفضل.

وقد تضمّن القانون الجديد أحكامًا عامّة تناولت أبوابًا في الخطبة والزواج والبائنة (الدّوطة) والهجر وانفكاك الزواج والبنوّة والتبنّي والولاية والوصاية. كما تناول القانون كيفية تشكيل المحاكم وأصول المحاكمات.

أوّلاً ـ ســر الــزواج

أكّد القانون الجديد تعريف الزواج كسرّ وشركة حياة يتعاون من خلالهما الزوجان على حمل عبء العائلة وتربية الأولاد. كما لم يسمح بالزواج إلاّ بين من نالوا سرّ العماد المقدّس، وعليه يلزم طالب الزواج أن يقدّم شهادة بمعموديّته وإطلاق حاله من مرجعه الروحيّ، وعند التعذّر فمن المرجع المدنيّ الصالح.

والجديد في ما يعود إلى الزيجات المختلطة بين الارثوذكس وسواهم من المذاهب المسيحيّة عدم إلزام غير الارثوذكسية بإبدال مذهبها بعد الزواج، وهذه الخطوة تشكّل نقلة نوعيّة وحافزًا للخروج من دوّامة الضمانات التي كانت تطلب سابقًا من الزوج غير الارثوذكسيّ.

ثانيًا ـ ثــروة الزوجيــن

أكّد القانون الجديد نظام فصل الأموال بين الزوجين، وهو النظام الساري لدى جميع الطوائف المسيحيّة، ما لم يتّفق الزوجان خطّيًّا قبل الزواج أو بعده على نظام آخر. وقد تركت المادة 29 من الفصل الخامس أمر البتّ بأيّ خلاف حول أموال الزوجين للقضاء المدنيّ المختصّ، باعتبار أن قانون 2 نيسان 1951 لم يحفظ للمراجع المذهبيّة أمر البتّ بمثل هذا الخلاف.

أمّا في ما يتعلّق بالهديّة الزوجيّة فإنّ القانون الجديد راعى في شروطها أحكام الهبة المدنيّة، إلاّ أن اختصاص البتّ بالخلاف حولها يبقى من اختصاص القضاء المذهبيّ، استنادًا إلى أحكام قانون 2 نيسان 1951.

ثالثًا ـ الهجــر ونتائجــه

توسّع القانون الجديد في شرح أحكام الهجر وأسبابه، وجعله هدفًا لإصلاح الحال بين الزوجين، تمهيدًا لإعادة الشراكة الزوجيّة إلى مجراها الطبيعي.

وجاءت المادة 45 لتفسّر الهجر بأنّه “تدبير يستقلّ فيه كلّ من الزوجين عن الآخر في المسكن والمائدة والمضجع، والهدف منه إصلاح الحال بين الزوجين”. وأعطت المادة المذكورة المحكمة أو من تنتدبه إكليريكيًّا أكان أو من ذوي الاختصاص، حقّ الإشراف على أن يرفع تقريرًا إلى المحكمة عمّا آلت إليه حالة الزوجين.

وقد حدّدت المادة 46 من القانون الجديد مدّة الهجر بثلاث سنوات تحدّدها المحكمة كحدٍّ أقصى، في حين أنّ المادّة 56 من القانون القديم لم تُحدّد مدّة معيّنة للهجر. ما يعني أن المحكمة الروحيّة أصبحت الآن مقيّدة بمهلة زمنية، ولو لم يطلب الزوجان منها ذلك، ولها الحق أيضًا في أن تقرّر مقدار النفقة المتوجّبة لأحد الزوجين على الآخر، إضافة إلى مكان إقامة الأولاد ومقدار نفقتهم.

وقد ألزم القانون الزوج أيضًا، خلال فترة الهجر، تأمين المسكن الشرعيّ أو بدله لزوجته وأولادهما، وإذا امتنع تأمره المحكمة بمغادرة المنزل الزوجي، إلاّ إذا كانت الزوجة هي المسبّبة بحالة الهجر.

ولا بد أخيرًا من التوقف عند مدى النجاح في إمكان تطبيق الهجر في الكنيسة الارثوذكسية، ذلك أنّ الهجر لم يكن معروفًا في التراث البيزنطيّ الأوّل. ثمّ عاد وأُدخل كمفهومة مأخوذة من القانون الكاثوليكيّ وتنقل تباعًا من مبدإ التطبيق عُرفًا في القانون القديم إلى التطبيق واقعًا في القانون الحديث.

رابعًا ـ النفقـــة

 أوجب القانون الجديد للطائفة الارثوذكسيّة الزوج بدفع نفقة زوجيّة لزوجته ما دامت بينهما صلة زواج، ما لم تكن المرأة ناشزة. أمّا نفقة الأولاد فعلى أبيهم ثمّ أمّهم ثمّ على جدّهم لأبيهم ثمّ على جدّهم لأمّهم.

وأتبعت المادة 55 سريان النفقة على الزوج لزوجته إلى حين تنفيذ الحكم في دائرة الأحوال الشخصيّة. لكن السؤال المطروح هو: ماذا عن الحكم الصادر بفسخ الزواج أو بطلانه ؟ وهل تبقى النفقة سارية في حال التأخر بتنفيذه لدى الدوائر المختصة ؟!

خامسًا ـ فـي حضانــة الأولاد

أعطى القانون الجديد للولد ومصلحته أهميّة خاصة. وأقرّ في المادة 57 تحديد سنّ الحضانة عند الحاجة لحضانة الأمّ حتّى الرابعة عشرة للذكر والخامسة عشرة للأنثى (وهنا نعتبر أن القانون الجديد قد خطا خطوة نوعيّة بعد أن كانت سن الحضانة في القانون القديمسبع سنوات للذكر وتسع للأنثى) مع استمرار القانون بالسلطان الأبويّ للوالد.

ولا بدّ من التوقف عند نقطة إيجابية سجّلها المشترع الأرثوذكسي حين ترك في البند “أ” من المادة 85 للمحكمة تقدير الضرر اللاحق بالقاصر في حال زواج الحاضن أو الحارس، وبذلك ساوى بين الرجل والمرأة لجهة الزواج الثاني وبقي في الوقت عينه ساهرًا على مصلحة القاصر.

ثمّة تدبير آخر شكّل نقلة نوعيّة ولم يكن ملحوظًا سابقًا، هو ما جاء في المادة 59 حين منع القاصر من السفر مع الحاضن أو الحارس إلاّ بعد موافقة الطرف الآخر أو بقرار من المحكمة، وبذلك أبقى أمر مشاهدة القاصر من قبل الطرف الآخر واصطحابه حقًّا مشروعًا.

سادسًاـ انفكــاك الــزواج

تنفكّ الروابط الزوجيّة إمّا بالوفاة أو بالإبطال أو الفسخ أو الطلاق. واللافت في القانون الجديد التشدّد في عدم صحة الانفكاك لمجرد الرضى المتبادل بين الزوجين.

ولجهة إبطال الزواج، صار تأكيد عيوب الرضى والإكراه والتغرير، وتوقّف عند نقطة مهمّة، إذا تبين أن أحد الزوجين كان، بتاريخ إقامة الزواج، غير أهل لممارسة الحياة الزوجيّة.

إلاّ أن الإبطال والبطلان، ولو عائدين إلى تاريخ إقامة الزواج، لا يؤثّران على ثمرة الزواج، أي الأولاد الذين يعتبرون شرعيين، فيزول تاليًا أيّ التباس قد يقع لجهة الطعن بشرعيّتهم.

اعتبر المشترع الارثوذكسي في المادة 66 أنّ إنجاب الأولاد ومرور مهلة زمنية (خمس سنوات) من شأنه تصحيح العيب في الرضى. وهذا الأمر يشكّل مدعاة تساؤل قانونية من أنّه لا يمكن لمرور الزمن تصحيح الرضى إذا شابه عيب ما عند انبرام العقد. 

سابعًا ـ فســخ الــزواج

عدّدت المادة 76 من القانون الجديد أسبابًا عدّة لفسخ الزواج، من اعتناق أحد الزوجين دينًا آخر، إلى محاولة أحدهما القضاء على حياة الآخر، أو الحكم على أحدهما بسبب جرم شائن بعقوبة لا تقلّ عن ثلاث سنوات، أو تعمّد أحدهما من دون موافقة الآخر عدم الإنجاب، إو إذا حكمت المحكمة بالهجر لمدة ثلاث سنوات ولم تنجح المساعي لاحقًا لإعادة ذات البَيْن.

إلاّ أنّ السبب الأهمّ الذي يُعتمد عادة في المحاكم الارثوذكسية كسبب رئيسي للفسخ هو إهمال أحد الزوجين أمر الآخر مدة ثلاث سنوات متتالية، غائبًا أكان عن محلّ إقامته أم مقيمًا معه ولم تنجح المحكمة في إقناعه بالرجوع إلى الحياة الزوجية، على أن تسري مهلة السنوات الثلاث ابتداءً من تاريخ إبلاغ أحد الطرفين لكاهن الرعيّة أو الرئاسة الروحيّة رسميًّا بنشوء الخلاف.

ثامنًا ـ الطـــلاق

انفردت الكنيسة الارثوذكسيّة الإنطاكيّة والقبطيّة الارثوذكسيّة باستعمال تعبير “الطلاق” في بعض الحالات، ومنها ثبوت الزنى.

والجديد في المادة 68 من الفصل الثالث تأكيد علّة الزنى كشرط لإعلان الطلاق، والتساوي بين الزوجين في طلب الطلاق لهذا السبب.

حدّدت المادة 69 ما هو معتبر بحكم الزنى على سبيل المثال لا الحصر، ما يسهّل إقامة البيّنة أو حتى اللّجوء إلى القرائن (إذا وجدها ثيبًا – إذا طلب منها عدم التردد إلى مكان ورفضت – إذا غافلت زوجها وباتت خارج المنزل من دون رضاه – إذا حكمت عليها المحكمة أن تتبع رجلها ورفضت – إذا أساء الزوج إلى عفّة زوجته – إذا ادّعى أنّها ارتكبت الزنى ولم يثبت ذلك – إذا طلبت منه عدم التردّد إلى مكان تغلب عليه السمعة السيئة). والجديد أيضًا في الطلاق هو إثبات الانحراف الجنسي، وإن إقامة الدليل عليه متروكة للفريق المدّعي ولتقدير المحكمة.

وأخيرًا لا تسمع دعوى الطلاق من أحد الزوجين بعد أن يصفح الآخر صراحة أو ضمنًا، إلاّ إذا كان موجب الطلاق قد حدث بعد تاريخ الصفح.

 تاسعًا ـ فـي نتائـج انفكـاك الـزواج وقضايـا أخـرى

أفردت المادة 74 حقّ أحد الزوجين بالتعويض نتيجة انفكاك الزواج، وترك للمحكمة أمر تقدير التعويض عن الأضرار اللاحقة بالزوج البريء، كما أجازت المادة المذكورة في حالة إعسار المرأة، وبغضّ النظر عن مسؤوليتها في انفكاك الزواج، إلزام الزوج بأن يدفع لها مبلغًا من المال لتواجه بواسطته وضعها الجديد.

عاشرًا ـ تشكيـل المحاكـم وأصـول المحاكمـات

يتكوّن القضاء الروحيّ الارثوذكسيّ من محاكم الدرجة الأولى أو المحاكم الابتدائيّة، ومن محكمة الدرجة الثانية أو المحكمة الثانية أو المحكمة الاستئنافيّة، ولاحظت المادة 3، الفصل الأوّل من القسم الثاني للقانون الجديد لجهة تشكيل المحكمة الابتدائية الروحية تمييزًا في تأليف هذه المحكمة بين الأبرشيّات. فيترأس هذه المحكمة في مركز كلّ أبرشية من أبرشيات الكرسيّ الإنطاكيّ راعي الأبرشية بصفته قاضيًا منفردًا، وله أن يعيّن نائبًا عنه لترؤّس المحكمة. أمّا في أبرشيات بيروت وطرابلس وجبيل والبترون فتؤلّف الغرفة الابتدائية من راعي الأبرشية رئيسًا ومن عضوين.

يعيّن راعي الأبرشية عضوَيْ محكمته الأصليّين وعضوين ملازمين، كما له أن يعيّن نائبًا عنه لترؤس المحكمة مع العضوين المختارين، ويرفع أسماء هؤلاء القضاة إلى المقام البطريركيّ وإلى وزارة العدل والوزارات المختصّة لتكون على علم بالأسماء وبنموذج تواقيع القضاة والأختام المعتمدة في المحاكم.

والجديد اللافت في القانون الجديد، وخاصة في المادة 8 منه، إشراك العلمانيين في المحاكم الروحيّة من دون تفريق في الجنس، وأن يكونوا من حملة الإجازة في الحقوق وقد مارسوا المحاماة أو عملوا مدة خمس سنوات في الأقل، وأن يكونوا قد أتمّوا الثلاثين من عمرهم.

يتولّى البطريرك تشكيل محكمة الاستئناف من رئيس ومستشارين، ويعيّن معهم رئيسًا رديفًا ومستشارين ملازمين.

وتتكوّن المحاكم الاستئنافيّة من غرف يحدّد عددها ونطاق عملها بقرار من البطريرك، على أن تكون من هذه الغرف غرفة أولى في مقرّ مركز البطريركيّة، وغرفة ثانية مقرّها في لبنان. 

الحادي عشر ـ أصــول المحاكمــات

بشكل عام، إن قانون أصول المحاكمات المدنية المعتمد أمام المحاكم المدنيّة هو الذي يطبّق أمام المحاكم الروحيّة الارثوذكسيّة. إلاّ أنّ قانون الأحوال الشخصيّة الجديد عُدِّلت بعض مواده في الفصل المتعلّق بأصول المحاكمات، فحدّد في المادة 16 الصلاحية المكانية للمحكمة الارثوذكسيّة التي يجب أن يُرفع النزاع أمامها، فتكون محكمة الأبرشيّة التي أقيم فيها الزواج أو المحكمة التابع لها سكن الزوجين المشترك قبل نشوء النزاع.

والجديد في أصول المحاكمات ما جاء في المادتين 17 و 18 لجهة حصر حقّ تقديم الدعوى بالزوجين وحدهما، ومنع أحد الزوجين بعد وفاة الآخر من إقامة الدعوى لإنهاء الزواج أو لإبطال حكم قطعي بإنهاءه بهدف ترتيب النتائج الماديّة على ذلك.

إضافة إلى أن المادة 20 أوجبت حضور محامٍ في الاستئناف مسجّل على الجدول العام في نقابة المحامين (غير المحامين الكنسيين) في المرحلة الاستئنافيّة، وتكليف كاهن رعية أو شخص ثالث (خبير معتمد لدى المحاكم العدليّة) للقيام بالتحقيقات.

كما أناطت المادة 28 برئيس المحكمة الابتدائية مهمّات قاضي الأمور المستعجلة في المواد الداخلة ضمن اختصاص المحكمة، على أن ينظر بها وفقًا للأصول المحدّدة في القانون المدنيّ، مثل القرارات الرجائيّة التي تتعلق بتدابير احترازيّة مؤقّتة، كمنع سفر أو مشاهدة الأولاد واصطحابهم وتسليم أغراض شخصية.