الزواج في المجمعين التريدنتي والفاتيكانيّ الثاني

المطران الياس سليمان

الزواج قديم قِدم البشريّة. فقد رافق كلّ الحضارات والأديان، وربط الإنسانُ الخلقَ به وعكسه على عالم الآلهة، وربط به فكرة الحياة بالذات: في بعض الديانات القديمة الحياة ثمرة تزاوج السماء والأرض، حين تطرح السماء المطر في رحم الأرض. وفي سفر التكوين يخلق الله من العدم. أمّا بشأن الإنسان، فمنذ البدء، “خلق الله الإنسان على صورته. على صورة الله خلقه، ذكرًا وأنثى خلقهما. وباركهما الله وقال لهما: “أنموا واكثروا واملأوا الأرض”، (تك 1/27-28) “… لذلك يترك الرجل أباه وأمّه ويلزم امرأته فيصيران جسدًا واحدًا” (تك 2/24)[1]. وهكذا، “في البدء كان الزواج”[2]، ومعه بدأ المجتمع منذ خصب الخليّة الأولى التي تحمل رسالة إعطاء الحياة انطلاقًا من الحبّ المتدفّق من الاتحاد الاستئثاري المطلق بين الرجل والمرأة، والذي باركه الله وكان رفيق كلّ مساره ليسكب الحياة منه في أنف كلّ إنسان (هاآداماه) آتٍ إلى العالم (راجع تك 2/7). قبل أن يكون هذا الزواج دينيًّا أو مدنيًّا، كان عائليًّا وعرفيًّا أكثر منه قانونيًّا[3]. كان المسيحيون “يتزوجون مثل كلّ الناس”[4]. ولكن مع الأيام والظروف أصبح عقدًا يحكمه القانون وتصنعه، مع الكنيسة الكاثوليكيّة، الـ”نعم” التي يتبادلها الزوجان أمام خادم السر ذي الصلاحيّة. لا ننسَ أن الزواج في الشرع الروماني كان يتمّ تحديدًا بتبادل الرضا بين الطرفين[5]. هذا ما تبنّته الكنيسة في الغرب ثم الكنيسة الكاثوليكيّة. في مجمع Vérone الإقليمي (1184) أُطلق على الزواج للمرّة الولى اسم “سر” (sacramentum[6] وفي العام 1274 فرض البابا غريغوريوس العاشر على الأمبراطور ميشيل الباليولوغ،[7] بعد مجمع ليون الثاني، أن يعلّم أن “هنالك سبعة أسرار” والزواج أحدها. وفي 1439، في مجمع فلورانس، صدر قرار للأرمن أُعلن فيه: “سبعة أسرار الشريعة الجديدة، وهي العماد، والتثبيت، والإفخارستيا، والتوبة، والمشحة الأخيرة، والدرجة والزواج”.[8] وهذا ما سوف نجده في المجمع التريدنتي حيث أصبح القانون يرعى الزواج[9]. وما هيأ للمجمع التريدنتي مباشرة هو مجمع فلورانس وما تلاه من جدالات لاهوتيّة وقانونيّة. فقد علّم هذا المجمع أن الزواج علامة اتّحاد المسيح والكنيسة؛ وأنّه مكوّن مبدئيًّا من الرضا المتبادل؛ وأن له ثلاث قيم: الأولاد، والأمانة، وبما أنّه يرمز إلى الوحدة التي لا تنفصل بين المسيح والكنيسة، اللاّإنقسام[10]، أي اللاّإنحلال.[11] هل هذه الحال كانت نفسها في المجمع التريدنتي ؟ وهل سوف تبقى بعده كما كانت فيه ؟ وما ستكون عليه في المجمع الفاتيكانيّ الثاني ؟ ما كان وضع الزواج في هذين المجمعين؟ وما فارق النظر إليه بينهما ؟

 

الفقرة الأولى : المجمع التريدنتي (1545-1563)

 

أولاً ـ ما قبل المجمع

حدث الكثير من الأخذ والردّ حول صحّة أو عدم صحّة بعض الزِّيجات، سيما أن جواب البابا نقولا الأوّل على البلغاريين، سنة 866، ثبّت ما قاله القديس يوحنّا فم الذّهب: “الرضا وحده يكفي؛ ولكن إن غاب الرضا يصبح الاتحاد الزواجي بدون قيمة”[12]. وهكذا بات الزواج “المقرّر غير المكتمل”، كما نقوله اليوم، لاغيًا للزواج، وهذا ما دفع بهينكمار دو ريمس إلى القول “إن الفعل الزواجيّ هو الذي يصنع الزواج لا الرضا.”[13] وبعد ذلك حصل الكثير من الأبحاث في هذه المجالات حتى اتّضحت ثلاث ثوابت: * رضا الخطوبة، وهو الوعد بالزواج؛ * الرضا الزواجي، وهو الاحتفال بالزواج بحسب الرضا الروماني والتقليدي؛ * إكمال الزواج وهو الرضا المكتمل باتّحاد الطرفين الجسديّ.

هنا وصل القطار إلى المحطّة الرئيسيّة وهي المجمع التريدنتي (1545-1563).

 

ثانيًا ـ الدورة الرابعة والعشرون من المجمع التريدنتي (11 تشرين الثاني 1563)[14]

عنوان الدورة الرابعة والعشرين من المجمع التريدنتي هو “عقيدة سرّ الزواج”. يشير هذا العنوان إلى أنّ آباء المجمع كانوا يعالجون الزواج من الوجهة العقائديّة واللاهوتيّة، ومن خلال النصوص التي تمّت معالجتها، يتمّ التركيز على البعدين العقائديّ والقانونيّ. فسرّ الزواج مرتبط بحياة العائلة، وكونه مرتبطًا بالواقع المعيش يعطيه الطابع الواقعيّ والعمليّ، فهو في حاجة إلى القانون لينظّمه. هنالك في الزواج بعدان: بعدٌ عموديّ وبعدٌ أفقيّ. البعد اللاهوتيّ هو العموديّ والبعد الإنسانيّ هو الأفقيّ. والقانونيّ يلامس الاثنين من حيث التنظيم والعلاقة.

عالج النصّ المجمعيّ التريدنتي مادّة سرّ الزواج بمقدّمة واثني عشر قانونًا سمّيت “قوانين حول سرّ الزواج”، وعشرة فصول تشكّل ما يسمّيه المجمع “قوانين حول الإصلاح المتعلّق بالزواج”. نحن إذًا في المجال القانونيّ المرتبط بالمجال العقائديّ. من خلال التعمّق في موادّ هذه الفقرات والقوانين نلاحظ تركيز المجمع على الجدليّة الدفاعيّة من جهة، ومن جهة أخرى على الثوابت العقائديّة الكاثوليكيّة في وجه من كانت تعتبرهم الكنيسة منشقّين أو منحرفين، وتركّز على الإصلاح في هذا المجال العقائدي ـ القانوني. الإصلاح لا يعني التجديد من دون ضوابط، وإنما التركيز على التقليد والنموّ في خطّه عبر التاريخ ليؤدّي التقليد رسالته الفاعلة، وهي الخلاص، أي إيصال الوحي حامل الحقيقة المطلقة بكلّ أمانة إلى البشريّة لتنهل منه ما تستطيع؛ ويخلّصها هذا الوحي بالحقّ، قائدًا إياها إلى المشاركة في مجد الله، ملء الحياة.

في سبيل تأسيس القوانين على الأمانة العقائديّة للوحي ترتكز المقدّمة بشكل كبير على الكتاب المقدّس بعهديه القديم والجديد: سفر التكوين (2/23) ومتى (19/5) وأفسس (5/31). ففي مقدمة “عقيدة وقوانين سر الزواج” الفاعل الأوّل هو الروح القدس، ضامن صحّة الوحي والذي بفعل وحيه تأتي القوانين، هو الذي يوحي لآدم بالرباط الدائم غير المنحلّ للزواج، بحسب القانون الطبيعيّ في سفر التكوين كنقطة انطلاق: “هذه الآن عظم من عظمي ولحم من لحمي. لذلك يترك الرجل أباه وأمَّه ويلزم امرأته فيصيران جسدًا واحدًا” (تك 2/23). ثمّ ينتقل من القانون الطبيعي مباشرة، من دون فاصل، إلى الزواج كسرٍّ منتمٍ إلى المسيح حين يورد : “لا يرتبط بهذا الرّباط ويتّحد إلاّ كائنان، المسيح ربنا علّمه بوضوح كافٍ حين ذكّر بهذه الكلمات التي قالها الله حين قال بعد هذه الكلمات، متانة الرباط الذي أعلنه آدم منذ زمن بعيد : “إذًا ما جمعه الله لا يفرّقه الإنسان !” (متّى 19/6). هذا الكلام هو كلام المسيح، مؤسّس السرّ المسيحيّ. من الواضح في المجمع التريدنتي أن الشرع الطبيعيّ يسبق السرّ المسيحي ويهيئ له. وسرّ الزواج يأتي ليعطي الشرع الطبيعيّ جذريّته القصوى دافعًا إيّاه إلى كماله، في الجذريّة التي خرج بحسبها من يد الله. ثمّ يشدّد على مفعول “النعمة التي تحمل الحبّ الطبيعيّ إلى كماله، حين تثبت أواصر هذه الوحدة التي لا تنفصم وتقدّس الأزواج. هذه النعمة التي وضعها المسيح نفسه وجعلها تحمل الأسرار المقدّسة إلى كمالها استحقّها لنا بآلامه”[15]. وهكذا فالحبّ لا يبلغ كماله إلاّ في النعمة ليصبح سرًّا. وهنا، بحثًا عن تثبيت الزواج المسيحيّ في أعماق مفهوم السرّ، يتّجه المجمع إلى بولس الرسول القائل في الرسالة إلى أهل أفسس: “أيّها الرجال أحبّوا نساءكم كما أحبَّ المسيح الكنيسة وبذل نفسه لأجلها” (5/25)، “هذا السرّ عظيم، أعني به سرّ المسيح والكنيسة” (5/32). ويتابع آباء المجمع: “بما أن الزواج في الشريعة الإنجيليّة يتخطّى بالنعمة، بواسطة المسيح، أعراس الشريعة القديمة، فبحقّ علّم دائمًا آباؤنا القدّيسون والمجامع وتقليد الكنيسة الجامعة، أنّه كان من الواجب اعتبار الزواج من بين أسرار الشريعة الجديدة.” وهنا يذكر المجمع “المنشقّين” الهراطقة وتعاليمَهم المنحرفة، بخصوص سرّ الزواج، والتي يجب أن يحرّمها لئلاّ تنتقل العدوى إلى مؤمني الكنيسة الكاثوليكيّة. يبدو أن هذه الحرومات ترتكز على البروتستانت الناشئين الجدد. نحن أمام لاهوت دفاعيّ عقائديّ وقانونيّ لا رعويّ.

 

1 ـ القوانين الاثنا عشر

تشكِّل هذه القوانين ردًّا على المعتقدات التي يراها آباء المجمع خروجًا عن الإيمان الكاثوليكي، وتأخذ شكل ضرب بالحرم. ولا بدّ من الملاحظة أنّها بعيدة عن الانتماء إلى النمط الرعويّ الذي سوف يطبع المجمع الفاتيكانيّ الثاني.

يضرب القانون الأوّل بالحرم الذين لا يؤمنون بأن الزواج هو أحد أسرار الشريعة الإنجيليّة السبعة التي وضعها المسيح، ولا بأنّه يعطي النعمة، بل يَرَون فيه بدعة كنسيّة من صنع البشر؛ والثاني يحرم السماح للمسيحيّين بتعدّد الزوجات في الوقت نفسه؛ والثالث يحرم من يرفض على الكنيسة حقّ مخالفة ما أتى في سفر اللاويّين (18/6-18) من موانع مبطلة للزواج حول القرابة الدمويّة أو الأهليّة، أو حقّها في وضع موانع أخرى إضافة إليها؛ والرابع يحرم من يقول إن الكنيسة لا تستطيع أن تضع موانع مبطلة للزواج، أو أنها أخطأت بوضعها لها؛ والخامس يحرم من يقول أنه يمكن حلّ رباط الزواج بسبب الهرطقة أو بسبب حياة مشتركة لا تُحتمَل، أو أيضًا بسبب غياب إراديّ لقرين؛ والسادس يحرم القائلين بأنّ الزواج المقرّر غير المكتمل لا يُبطَل بالنّذر الرهبانيّ العلنيّ الذي يقوم به أحد القرينين؛ والسابع يضرب بالحرم القائل بأنّ الكنيسة أخطأت حين علّمت وتعلّم، وفقًا لتعليم الإنجيل والرسول، أنّ رباط الزواج لا يمكن حلّه بزنى أحد الزوجين وأنّه لا القرين ولا الآخر، حتى البريء الذي لم يتسبّب بالزنى، لا يستطيع، ما دام القرين الآخر حيًّا، أن يعقد زواجًا آخر؛ وأنّه زانٍ من يتزوّج من امرأة أخرى بعد أن يكون قد طرد الزانية، أو التي تتزوّج من رجل آخر بعد طردها للزّاني؛ والثامن يحرم من يقول إن الكنيسة تخطئ حين تقرّر أنّ الأزواج، لأسباب عديدة، يستطيعون العيش منفصلين من دون حياة زوجيّة أو حياة مشتركة، لوقت محدّد أو غير محدّد؛ والتاسع يحرم الذي يقول إن الإكليروس الذين نالوا الدرجات المقدسة أو الرّهبان الذين أدّوا نذر العفّة العلنيّ يستطيعون أن يتزوّجوا، وبأنّ هكذا زواج صحيح بالرغم من الشرع الكنسيّ أو نذرهم، وبأن تأكيد العكس ليس إلاّ إدانة للزّواج؛ وأن كلّ من يشعرون بأن ليس لديهم موهبة العفّة، حتّى ولو نذروا نذرها، يستطيعون أن يعقدوا زواجًا؛ إذ إنّ الله لا يرفض هذه الموهبة على الذين يطلبونها كما يجب، ولا يسمح بأن نُجرَّب فوق طاقتنا؛ والعاشر يحرم من يقول إن حالة الزواج يجب أن تكون أسمى من حالة البتوليّة أو العزوبيّة، وبأنّه ليس أفضل ولا أكثر سعادة البقاء في البتوليّة أو العزوبيّة منه عقد الزواج؛ والحادي عشر يضرب بالحرم من يقول إن منع احتفاليّة الأعراس في أوقات محدّدة من السنة هو خرافة ظالمة صادرة عن خرافة الوثنيّين، أو إن حكَم على التبريكات والاحتفالات الأخرى التي تستخدمها الكنيسة؛ والثاني عشر، أي الأخير، يحرم من يقول إن الدعاوى الزواجيّة ليست من صلاحيّة القضاة الكنسيّين.

نرى هكذا أنّه قد تثبّتت في المجمع التريدنتي نظرة الكنيسة الكاثوليكيّة إلى الزواج بشكل نهائي. الزواج سرّ يعطي كلّ النِّعم المرافقة للسرّ، لكنّه يقول بلا تعدّد الزوجات من دون أن يذكر لا تعدّد الأزواج (القانون 2).

2 – الإصلاح المتعلّق بالزواج

بعد أن أعلن الضرب بالحرمان كلّ من علّم ما يناقض التعليم الكاثوليكيّ، قدّم المجمع التريدنتي الإصلاح المرتبط بالزواج في عشرة فصول. فالأول يتعلّق بالزيجات السريّة التي تمّ الاحتفال بها برضا المتعاقدين الحر. إنها زيجات صحيحة وحقيقيّة ما دامت الكنيسة لم تبطلها. لم يعد من دور للأهل في تحديد صحّة هذه الزيجات أو عدم صحّتها. فالكنيسة، لأسباب صوابيّة جدًّا، كانت تمنع هذه الزيجات. أمّا هذا المجمع فتبعًا لمجمع اللاّتران الرابع (1215) يأمر، “قبل عقد الزواج، ثلاث مرات، في ثلاثة أيّام أعياد متتالية، أن يعلن خوري الطرفين المتعاقدين بشكل علنيّ في الكنيسة، خلال الاحتفال بالقدّاس، بين مَن سوف يُعقَد الزواج. بعد هذا الإعلان، إن لم يكن من مانع شرعي، يتم الاحتفال بالزواج أمام الكنيسة، بعد أن يُسأل الرجل والمرأة”، للتأكد من رضاهما (الفصل الأول). ولكن يعود للرئيس المكانيّ، بحسب تقديره الذي يأخذه بالتروّي، الإعفاء من هذه الإعلانات التي نسمّيها اليوم “المناديات”. ويتطرّق المجمع في الفصل الأول نفسه أيضًا إلى أولئك الذين يُقدمون على عقد زواج من دون حضور الخوري أو كاهن آخر مكلّف من قبله أو من قبل الرئيس المكانيّ، وأمام شاهدين أو ثلاثة. فالمجمع يعلن عدم صلاحيّة الأشخاص في عقد هذا الزواج وتاليًا بطلان هذه الزيجات، ووجوب معاقبة هؤلاء الأشخاص من قبل الرئيس الكنسيّ. ويحثّ الزوجين على عدم المساكنة تحت سقف واحد قبل الحصول على بركة الكاهن في الكنيسة. وهذا الكاهن هو الخوري الخاص، والتفويض لكاهن آخر يجب أن يصدر عنه هو أو عن الرئيس (المكانيّ). وتلغى كلّ العادات المخالفة لهذا المبدأ. والكاهن الذي يجرؤ على مباركة الزّيجات لأشخاص من رعيّة أخرى من دون إذن خوري الطالِبَيْن يُحرَم بفعل القانون ipso jure حتى يحلّه رئيس الخوري “صاحب الصلاحيّة” بحسب تعبيرنا. ويوجب المجمع وجود السجلات التي فيها يتمّ تدوين الزيجات : أسماء الأزواج والشهود، ويوم انعقاد الزواج ومكانه. ويحضّ المجمع المقدّس الأزواج، قبل الاحتفال بالزواج أو أقلّه قبل ثلاثة أيام من إكمال الزواج، على الاعتراف الدقيق بخطاياهم والمناولة. وإن كان هنالك لبعض الأقاليم عادات أو احتفالات إضافة إلى هذه فلتبقَ. وانتهى المجمع بأن أمر كلّ الرؤساء الكنسيّين بأن ينشروا هذا القرار ويشرحوه في كنائس رعايا أبرشياتهم.

أ) في مانع القرابة الروحيّة

أمّا في الفصل الثاني فيقول الآباء إن الخبرة تعلّمهم أنّه تم الاحتفال بالكثير من الزيجات الباطلة من دون علم الأزواج أنها باطلة. في هذه الحالات، إمّا أنه لا خطيئة كبيرة في الاستمرار بهذه الزيجات، وإما لا وجود لتشكيك كبير في حال أُعلنت هذه الزيجات باطلة. لذلك يتطرّق المجمع إلى مانع القرابة الروحيّة، ويحدّد في هذا الشأن مانع القرابة كالتالي: “شخص واحد، رجل أو امرأة، أو على الأكثر رجل واحد وامرأة واحدة عرّاب أو عرّابة في معموديّة: قرابة روحيّة تحصل ما بين هذين والمعمَّد، وما بينهما وبين أبيه وأمه؛ ويحصل كذلك مانع ما بين المعمِّد والمعمَّد وأبيه وأمّه”. وعلى الكاهن أن يستعلم قبل العماد حول العرّابين وألاّ يقبل غيرهما في رتبة العماد. يدوّن اسميهما في السجل، ويعلمهما بالقرابة التي حصلت عن العماد لئلاّ يكون لهم عذر بادّعاء الجهل. وإن لمس سواهم المعمَّد لا تحصل بينهم وبينه قرابة. وإن حصل ما يخالف ذلك فليعاقّب الخوري بعقاب يقدّره الرئيس الكنسيّ. أما في قرابة التثبيت فتتحدّد بالمثبِّت والمثبَّت، وبوالده ووالدته والعرّاب أو العرّابة، والموانع الروحيّة الأخرى مع أشخاص آخرين تُلغى كليًّا.

ب) في مانع الحشمة

يلغي المجمع في الفصل الثالث مانع الحشمة العلنيّ بشكل كليّ حين تكون الخطوبة، مهما كان السبب، غير صحيحة. وحين تكون صحيحة لا يتخطّى المانع الدرجة الأولى، لأنّه في الدرجة الأبعد لا يمكن ضبط البطلان من دون ضرر.

ج) في مانع التسرّي المشتهر

وما سوى ذلك، تقوده في ذلك الأسباب نفسها وأسباب خطيرة جدًّا، يحصر المجمع المقدس المانع الآتي عن قرابة المصاهرة الحاصلة بعد تسرٍّ (fornicatione) والتي تجعل الزواج المنعقد بعدها باطلاً بالنسبة إلى الأهل في الدرجتين الأولى والثانية وحدهما. وأما في الدرجات الأخرى، فيقرّر أن هذه القرابة بالمصاهرة لا تبطل الزواج المنعقد بعدها.

د) في منح التفاسيح

يقرّر المجمع المقدّس، في الفصل الخامس، وجوب فصل من يقدمون على عقد زواج باطل وهم على علم ببطلانه عن بعضهم، وعدم منحهم إطلاقًا التفسيح لتصحيحه، وهذا يصيب بشكل أقسى من لا يكتفون بعقد الزواج بل يكمّلونه. ولكن إن كان حصل ذلك نتيجة لجهل وقد أُهملت الاحتفالات المطلوبة، يُخضع صاحب ذلك للعقوبات نفسها. ولكن إن كانت الاحتفالات المطلوبة قد أُكملت وتمّ اكتشاف وجود مانع لاحقًا، وقد حصل ربّما عن جهل، يمكن أن يُمنَحَ التفسيح بسهولة أكبر ومجانًا. أمّا في الزيجات المطلوب عقدها فلا يجوز منح أيّ تفسيح إلاّ نادرًا ولأسباب شرعيّة وبشكل مجانيّ. لا يجوز أبدًا منح تفسيح للدرجة الثانية إلاّ لمصلحة الأمراء الكبار وللصالح العام.

هـ) في مانع الخطف

أما في الفصل السادس فالمجمع المقّدس يقرّر أنّه لا يمكن عقد زواج ما بين خاطف ومخطوفة ما دامت هذه المخطوفة تحت سلطة الخاطف. إن كانت المخطوفة، بعد فصلها عن خاطفها ووضعها في مكان آمن وحرّ، قبلت به كزوج، يحصل عليها الخاطف كزوجة له؛ وإلاّ فالخاطف وكلّ الذين قدموا له النصيحة والمساعدة والمعونة يُحرمون بموجب الشرع (ipso jure) ويُعلنون بشكل دائم شائنين، ويُحرمون من كلّ أهليّة لقبول الرُّتب الكنسيّة. وإن كانوا إكليريكيين تُخفض رتبتهم. وما عدا ذلك فعلى الخاطف، بحسب حكم القاضي، أن يدفع للمرأة التي خطفها مهرًا، سواءً أتزوجها أم لم يفعل.

و) في زواج الرحّل

في الفصل السابع، نظرًا إلى كثرة المتجوّلين من مكان إلى آخر ولا مسكن لهم، بخاصّ’ الرجال الفاسدين الذين تركوا زوجتهم الأولى وما تزال على قيد الحياة، وتزوّجوا زوجة غيرها أو أكثر في أماكن مختلفة، ينبّه المجمع المقدّس كلّ المعنيّين، طلبًا لمعالجة هذا الشرّ، ألاّ يعقدوا زواجهم بسهولة على مثل هؤلاء الرجال المتجوّلين. ويحثّ كلّ القضاة المدنيّين على قمعهم بقسوة. ويأمر الخوارنة بألاّ يحضروا زواج أمثال هؤلاء الرجال إلاّ بعد أن يجروا بحثًا مسبقًا وجادًّا، وبعد أن يحوّلوا القضيّة إلى الرئيس الكنسي وينالوا الإذن منه بالقيام بهذا التدبير.

ز) في التسرّي

أتى في الفصل الثامن : إنها خطيئة كبيرة أن يكون للرجال غير المتزوجين سرارٍ، وهي خطيئة كبيرة جدًّا مُرتَكَبة بازدراء، خاصة لهذا السر العظيم. كذلك حين يعيش رجال متزوجون هذه الحالة المُدانة ويتجرّأون على إعالتهنّ والاحتفاظ بهنّ أحيانًا في بيوتهم في الوقت نفسه مع زوجتهم. لذلك، ومعالجةً لهذا الشرّ الكبير، يقرّر المجمع المقدّس أن أولئك المتسرّين، متزوجين أكانوا أم عازبين، مهما كانت حالتهم أو مرتبتهم أو موقعهم، بعد أن يحذّرهم الرئيس الكنسيّ ثلاث مرات بأنّهم إن لم يطردوا سراريهم ولم يتخلّوا عن كلّ علاقة معهنّ، يجب ضربهم بالحرم. ولن يحلّوا منه ما لم يتراجعوا عن مسلكهم. وإن استمرّوا في التسرّي لمدّة سنة من دون أخذ الحرم في الاعتبار، يتصرّف الرئيس الكنسيّ بقسوة حيالهم بحسب خطورة غلطتهم. أما النساء اللواتي يعشن علنًا مع زناة أو متسرّين، متزوجات أكنّ أم عازبات، فإن لم يُطِعن بعد التحذير لثلاث مرات، تجب معاقبتهنّ بقسوة بحسب غلطتهنّ، من قبل الرؤساء المحليّين. يجب طردهنّ خارج المدينة أو الأبرشيّة، وإن رأى الرؤساء ذلك حسنًا لجأوا إلى الذّراع الزمني. والعقوبات الأخرى المختصّة بالزناة والمتسرّين تحتفظ بقوّتها.

ح) في الإكراه والمنع

يشكو المجمع المقدس من أنّ الانجذابات الأرضيّة والجشع تُعمي أبصار روح الأسياد الزمنيّين والقضاة فيقودون، بالتهديد والوعيد، رجالاً ونساء يعيشون تحت ولايتهم، بخاصّة الأغنياء أو الذين ينتظرون ميراثًا كبيرًا، إلى عقد زواج على أولئك الذين يأمرهم (هنّ) هؤلاء الأسياد أو القضاة بالزواج. لذلك فالمجمع المقدس في الفصل التاسع، يقول بأنها جريمة أن تُنتهَك حريّة الزواج وأن يُرى أنّ الظلم يأتي من قبل الذين يُنتَظَر منهم العدالة، لذلك فهو يأمر الجميع، أيًّا تكن درجتهم أو مرتبتهم أو وضعهم، تحت طائلة الحرم بحسب الشرع (ipso jure)، أنّه لا يحقّ لهم، بأية طريقة ، بشكل مباشر أو غير مباشر، أن يحرموا مرؤوسيهم أو أيًّا كان من أن يعقد زواجًا بحريّة. 

ط) في أزمنة منع الزواج الاحتفالي والسماح به

وفي الفصل العاشر، يأمر المجمع المقدّس الجميع بأن يحافظوا بدقّة على المنع القديم المتعلّق بالأعراس الاحتفاليّة في زمن انتظار ربِّنا يسوع المسيح حتى يوم الدّنح (الغطاس)، ومن يوم أربعاء الرّماد حتى أسبوع الفصح ضمنًا. فهو يسمح بأن يتمّ الاحتفال بالأعراس في الأزمنة الأخرى. على الأساقفة أن يسهروا على تطبيق هذه التدابير بالتواضع والنّزاهة الملائمين. “الزواج شيء مقدس ويجب أن يُعامَل بقداسة”.

 

 

الفقرة الثانية : في المجمع الفاتيكانيّ الثاني

يركّز المجمع الفاتيكانيّ الثاني على سرّ الزواج في الدستور الرعوي الكنيسة في عالم اليوم، وهذا يعني أن الزواج قد تمّت معالجته من زاوية خاصّة رعويّة ووراءه يختبئ البعدان العقائديّ والقانونيّ. وهذا ما يشير إلى أن الكنيسة لم يكن همّها الأول الإصلاح في المجال العقائديّ أو القانونيّ إنّما في العلاقة بين الكنيسة والعالم، كما هو عنوان الدستور الرعويّ. هل نظرتها الجديدة إلى الزواج تقتصر على إيصال ما في جعبتها إلى العالم؟ أليس هنالك تغيير تأقلميّ في ما بين يديها، ولها السلطة عليه ليصبح أكثر ملاءمة مع روح العصر، فيكون وسيلة خلاص ناجعة تعطي ما يقبله العالم من أجل تفعيل أكبر لمعطيات الوحي الإلهي الثابت مع متطلّبات العالم والعصر، من أجل أن يكون الخلاص فعّالاً في تعابير يتقبّلها العالم وتقود هذا العالم إلى الخلاص؟

في القسم الثاني من الكنيسة في عالم اليوم، الحامل عنوان “في بعض المشكلات الأشدّ إلحاحًا” أتى أنّ “المجمع، بما له من قوّة مُستمدّة من نور الإنجيل وخبرة الناس، يلفت انتباه الجميع إلى بعض مشكلات عصرنا الملحّة، بصورة خاصّة تلك التي تبلغ من الجنس البشري كلّ مبلغ؛… ومن بين تلك الموضوعات المتعدّدة التي تثير اهتمام الجميع، يسترعي انتباهنا، بخاصّة، الزواج والعائلة والثقافة، والحياة الاقتصاديّة والاجتماعيّة، والحياة السياسيّة…” (رقم 46).

ما يلفت انتباهنا هو تطرّق المجمع المقدّس إلى الزواج من باب “المشكلة الملحّة”، لا من باب العقيدة والقانون؛ ثمّ أنّه أتى ذكره ما بين العائلة والثقافة والاقتصاد والاجتماع والسياسة، إلخ. واضح أن الطابع الرعويّ البحت يشغل آباء المجمع المقدس، لا الطابع العقائديّ أو القانونيّ. ويتمّ بخاصّة التطرّق إلى الزواج ككرامة ومرتبطًا دائمًا بالعائلة. صحيح أنّ الزواج والعائلة لا ينفصلان من حيث المنطق الاجتماعيّ والرعويّ، ولكن الزواج، من حيث القانون، سرّ وله الحقّ في أن يُعالَج كخير عام عقائديّ وقانونيّ في حدّ ذاته، من دون أن يكون تابعًا إلى قيمة أخرى، بغضّ النظر عن رفعة هذه القيمة وسموّها. ففي هذا الباب هنالك فارق شاسع ما بين المجمع الفاتيكانيّ الثاني والمجمع التريدنتي.

كيف تطرّق المجمع الفاتيكانيّ الثاني إلى الزواج ؟

 

أولاً ـ في تعزيز كرامة الزواج والعائلة

يتطرّق الفصل الأول في القسم الثاني من الكنيسة في عالم اليوم إلى “تعزيز كرامة الزواج والعائلة”. يوضح العنوان محاولة ردّ اعتبار الزواج والعائلة اجتماعيًّا ورعويًّا. وكأننا في بعد خلاصيّ من مجال مرتبط بعلم الاجتماع. وهذا ما يؤكّده الرقم 47 المُعنون “الزواج والعائلة في عالم اليوم”. القيمة السَّميا تحت هذا العنوان هي “أن صحّة الشخص والمجتمع البشريّ والمسيحيّ مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بحالة ازدهار الجماعة الزوجيّة (communitatis coniugalis) والعائليّة” (رقم 47، الفقرة 1). يتمّ تعريف الزواج كجماعة زوجيّة وعائليّة، وهذا التعريف هو اجتماعيّ ـ رعويّ لا عقائديّ وقانونيّ، كما يتعامل معه المجمع التريدنتي. يتابع النصّ المجمعيّ بوصف الزواج أنه “جماعة حب واحترام الحياة تساعد الأزواج والوالدين في رسالتهم السامية.” نحن هنا أمام تعابير أقلّ قانونيّة وأكثر إنسانيّة في المجال الرعويّ والاجتماعيّ والخلاصيّ. إن بقينا على نظرتنا القانونيّة إلى الزواج كما هي، لا نستطيع تحديد الزواج كـ”جماعة حب واحترام الحياة تساعد الأزواج والوالدين” فحسب، وإلاّ إن انتفى أحد هذه المقوّمات عند الاحتفال به بات هذا الزواج باطلاً أي غير موجود من أساسه. ولكن لا يمكن رصد كلّ من هذه القيم الثلاث منذ نشوء الزواج. فالحبّ يمكن رصده عند تبادل الرضا، أما احترام الحياة فبعده، وخاصّة عند حصول الحمل، أما في تساعد الزوجين والوالدين، فلا يمكن رصده إلاّ في أثناء الحياة الزوجيّة المشتركة. وتاليًا نحن أمام معضلة قانونيّة، لأن القانون الصالح في حاجة إلى وضوح في تحديد معنى التعابير العمليّ لتكون معالجة موضوعه القانونيّة ممكنة. من تزوجا بلا حبّ بينهما هل زواجهما باطل ؟ ما الذي يحدّد وجود الحبّ ؟ ما هو مقدار الحبّ الكافي ليصبح الزواج صحيحًا ؟ هل من الممكن سبر هذه القيم والمقادير؟ أمّا في ما خصّ احترام الحياة وتساعد الأزواج والوالدين فيجب العودة إلى نيّة المتعاهدين في أثناء نشوء الزواج. وهذه النيّة لا تنجلي إلا من خلال الحياة الفعليّة المشتركة بين الزوجين. هذا يقودنا إلى إحدى ثمار المجمع الفاتيكانيّ الثاني، لا سيّما مجموعة قوانين الكنائس الشرقيّة (الكاثوليكيّة) وفيه بخاصّة القانونان 776، البند 1 وعبارة “خير الزوجين” و818 الفقرة 3 و”تولي موجبات الزواج الأساسيّة لأسباب ذات طابع نفسيّ”. ومن الصعب جدًّا تحديد عبارة “خير الزوجين” بدقّة قانونيّة؛ وكذلك صعوبة في تعليل الفقرة 3 من القانون 818 وإثباتها “لأسباب ذات طبيعة نفسيّة”.

ويتابع النصّ المجمعيّ عرض مبتغاه من خلال تحديد المشكلة في قول آبائه إن “كرامة هذه المؤسّسة لا تسطع في كلّ مكان بالضياء نفسه، لأن الشعوب تعاني، جراء تعدّد الزوجات ووباء الطلاق وما يسمّونه بالحبّ الحرّ، ومن سائر الانحرافات. أضف إلى ذلك أن الحبّ الزوجيّ غالبًا ما تنتهكه الأنانيّة واللذّة والعادات غير المشروعة التي تحول دون ولادة البنين.” (رقم 47، الفقرة 2). ويشكو المجمع من أنّ الأوضاع الاقتصاديّة والاجتماعيّة والنفسيّة والمدنيّة القائمة أدخلت على العائلة تشويشات خطيرة. فكلّ هذه الشؤون شجون رعويّة واجتماعيّة لا قانونيّة ولا عقائديّة، بالرغم من أهميّتها البالغة، ولو كان المجمع التريدنتي لضرب بالحرم من يخالفون العقيدة الكاثوليكيّة ولأوضح الحلّ وفرض العقاب.

“يتوخى المجمع، مُظهرًا قصده، بإيضاح بعض نقاط تعليم الكنيسة، أن ينير المسيحيّين ويشجّع كلّ أولئك الذين يحاولون أن يحافظوا على كرامة الحالة الزوجيّة الأصيلة وعلى قيمتها المقدسة المميّزة ويعملون على إعلاء شأنها”. (رقم 47، الفقرة 3). التعابير رعويّة، تعابير تشجيع وحثّ لا تعابير قانونيّة جازمة وحاسمة، كما كانت الحال في المجمع التريدنتي. هل من تعريف ما للزواج ؟

 

ثانيًا ـ قداسة الزواج والعائلة 

1ـ الزواج بين “العقد” و”العهد”

هنالك بعض التعابير التي سوف تُدخل بعض التغيير الهام على العالم القانوني، في ما يخص الزواج. كان الشرع الشرقيّ القديم، وليد المجمع التريدنتي، يعرّف الزواج كـ”عقد”[16] (contractus)، أما المجمع الفاتيكانيّ الثاني، فيقول “أن الشركة العميقة في الحياة والحب في الزواج، التي أسّسها وجهّزها الخالق بشرائعها الخاصّة، تقوم بالعهد الزواجي (foedere coniugii) أي بالرضا الشخصيّ الذي لا يُنقَض” (رقم 48 الفقرة 1 من الكنيسة في عالم اليوم). نجد هنا مرجع القانون 776 من مجموعة قوانين الكنائس الشرقيّة (م ق ك ش) في عبارة “عهد الزواج” (matrimoniale foedus) التي حلّت محل عبارة “عقد” في القانون الشرقيّ القديم (في الزواج ق 1، البندان 1 و2). مشكلة “العقد” أنّه لا ينطبق على الزواج بمقوِّماته الجوهريّة أي بتساوي الأطراف، وأحدهم هو الله، لإمكان إجرائه بشكل متكافئ وحرّ، وخضوعه لحريّة المتعاقدين التوافقيّة وقرارهم في استمرار العقد وإنهائه متى شاؤوا. لكن ما يرفع العقد المرتبط بالزواج إلى مقاييس أخرى أسمى من العقد المدنيّ هو ارتباطه الحتميّ بالسرّ (في الزواج الشرقي القديم، ق 1، البند 2) الذي يحافظ فيه على جذريّة الوحدة واللاإنحلاليّة، وعلى كلّ مقوّمات الزواج الكاثوليكي في مثاله الأعلى، ألا وهو “علاقة المسيح بالكنيسة” (أفسس 5/32). أما “العهد”، ذو البعد الكتابيّ، فهو علاقة شخصيّة بين الأطراف، موضوعه ليس شيئًا ما كالعقد، وإنّما الأشخاص أنفسهم هم موضوع العهد؛ ولا يمكن حلّه إن كان أحد أطرافه الضامنة هو الله، مع أنّ العهد من الممكن أن يكون أطرافه غير متساوين في الدّرجة، ولكن على الحريّة التي تضمن الرضا الشخصيّ أن تكون فاعلة فيه لصحّته. وهذه النظرة تصحّ في الزواج، كما ورد في النصّ المجمعيّ. هنا نحن أمام بعد لاهوتيّ وكتابيّ أعمق من البعد القانونيّ القديم وأكثر إيحاء، مع أن للعقد وضوحًا قانونيًّا أكبر من العهد، فالقانون لا يستطيع أن يحدّد العهد بوضوح العهد كما العقد. والعقد هو فعل قانونيّ ـ ممكن أن يكون صحيحًا أو باطلاً بحسب توافر مقوّماته ـ لا العهد.

هذا العهد الزواجيّ وضعه الخالق وجهّزه بشرائع خاصّة به، وقد وصفه آباء المجمع بـ”الشركة العميقة في الحياة والحب الزوجي Intima communitas vitae et amoris conjugalis“. ويقول الآباء إنّ هذه الشركة تقوم بالعهد الزواجيّ على الرضا الشخصيّ الذي لا يُنقَض، فتضع الرضا كمحور أساسيّ للزواج، على خط المجمع التريدنتي الذي حافظ على مفهوم الشرع الرومانيّ. لكن هذا الرضا هو شخصيّ، فلا أحد يستطيع أن يعطيه بدلاً من صاحب العلاقة ولو كان والديه، وحتى لو كان أيضًا قاصرًا. وحين يقول الآباء إنّه “لا يُنقَض” يكونون قد ركّزوا على صفته كسرّ، لا كمجرّد عقد. وهنا نجد معنى العهد الذي “لا يُنقَض” مثل العهد الذي وضعه الله بينه وبين شعبه. هذا ما يعطيه صفة الديمومة واللاّإنحلاليّة كسرّ. كلمة “عقد” تحتاج إلى كلمة “سرّ” لتعطيه بُعد الديمومة المطلقة، أما تعبير “عهد” فيحمل في ذاته الديمومة المطلقة كون أحد أطرافه هو الله، والعهد الذي يدخل فيه الله ليتعهّده لا يُنقَض.

2 ـ الزواج فعل بشري وتدبير إلهي

ويُظهر آباء المجمع بعدي الزواج حين يقولون إنه “من الفعل البشري الذي به يعطي كلّ من الزوجين ذاته للآخر ويقبل منه ذاته. تنشأ مؤسّسة، بموجب تدبير إلهيّ، ثابتة حتى أمام المجتمع البشريّ؛ وبالنظر إلى خير الزوجين والأولاد وكذلك المجتمع، لم يُترَك هذا الرباط المقدّس لهوى الإنسان. فالله نفسه صانع الزواج الذي ينعم بخيور عديدة ويخضع لغايات متعدّدة…” (رقم 48، الفقرة 1). نحن أمام نصّ رعائيّ واجتماعيّ ليس له شكلٌ قانونيٌ. يظهر هذا في ما يلي، حين يتابع الآباء : “إن كلّ هذا بمنتهى الأهميّة، بالنسبة إلى دوام الجنس البشريّ والتقدّم الذاتيّ والمصير الأبديّ لكلّ عضو من أعضاء العائلة، ولكرامة واستقرار وسلام وازدهار هذه العائلة والمجتمع الإنسانيّ بكامله.” نحن هنا أمام أبعاد لاهوتيّة واجتماعيّة وأخلاقيّة أكثر منّا أمام نصّ قانونيّ مقتضب وصارم، من دون زخرفة. لكن المجمع يتابع كالآتي : “لمؤسسة الزواج والحب الزوجيّ بخصوصيّتهما الطبيعيّة واجب إنجاب البنين وتربيتهم، هذا الواجب الذي يشكّل بشكل ما القمّة والتتويج.” يعطي المجمع المواد القانونيّة بقالب رعويّ أكثر منه بقالب قانونيّ. وهذا هو هدف المجمع الفاتيكانيّ الثاني الملقَّب بالرعويّ، والذي يأخذ في الاعتبار كلّ كيان الإنسان في سائر أبعاده، في ضوء العلوم الإنسانيّة الحديثة. نجد هذه المعطيات في القانون 776 من م ق ك ش. لم يعد القانون الكنسيّ، بعد هذا المجمع المقدّس، على ما كان عليه في القانون القديم حيث كان “للزواج غاية أوليّة هي ولادة البنين وتربيتهم، وغاية ثانويّة هي التعاون المتبادل ومداواة الشهوة”. (ق 2)

ويتابع المجمع في الرقم 48، الفقرة 1، أن “هذا الاتّحاد العميق، كعطاء وقبول متبادل بين شخصين، كما خير الأولاد، يتطلّب أمانة الزوجين الكليّة، ويفرض وحدتهما التي لا تنحلّ”. وفي كلّ هذا نجد أنفسنا أمام القانون 776 من م ق ك ش. هنالك تداخل كبير في النصوص بين الرعويّات واللاهوتيّات والاجتماعيّات التي يُستخلَص منها القانون، ولسنا أمام نصوص ذات شكل قانوني[17].

3 ـ الرباط بين الزواج والعائلة

تركّز الفقرة 2 من الرقم 48 على الأمانة وعلى صفة الزواج الجديدة، وهي “العهد”. فمرجعيّة الحبّ الزوجيّ هي الحبّ الإلهيّ، كما في العهد بين الله وشعبه وبين المسيح والكنيسة.[18] في الزواج بين معمّدين يأتي الحبّ الإلهيّ إلى الحبّ البشريّ ليجعله سرًّا بفعل فداء المسيح للكنيسة (راجع أفسس 5/25). يفتح المجمع سرّ الزواج على سرّ العائلة : الأبوة والأمومة[19]. نكاد لا نجد في هذا الرقم 48 تعبير “زواج” إلا مرفقًا بالعائلة. عند التعمّق في نهج المجمع الخاص بالزواج نجد أنّ العائلة رفيقة الزواج الدائمة، وهذا من روائع النظرة الرعائيّة المجمعيّة المرتبطة بمبدإ العهد. للزواج ثمرة حتميّة وغائيّة هي العائلة. هل من زواج من دون عائلة ؟

يركّز المجمع المقدّس على أنّ الزواج مكان خلاص مميّز حيث عمل المسيح والروح القدس في الإيمان والرجاء والمحبّة يقود إلى الكمال الشخصيّ والقداسة المتبادلة بين الزوجين، وتاليًا يعملان معًا على تمجيد الله. وفي هذا الجوّ يشمل المجمع أهل الزوجين وأولادهما لتكون العائلة برّمتها مكان صلاة وطريقًا “إلى الإنسانيّة والخلاص والقداسة” (رقم 48 الفقرة 3). لقد خرج المجمع من تقشّف المنهجيّة القانونيّة ودخل في فيض سرّ العهد بين الله والإنسان، ورفع الإنسان إلى لقاء الله في سموّ حياته الإنسانيّة المخلَّصة في المسيح والسائرة نحو القداسة. وفي الفقرة الرابعة يأتي دور الأولاد في العائلة كمساهمين في تقديس والديهم… يختلط القانون باللاّهوت والروحانيّة والاجتماعيّات والأخلاقيّات والبعد الإنسانيّ وغيرها بشكل لا يعيب النصّ المجمعيّ إلاّ في عين البحّاثة الذي يهمّه بالدرجة الأولى المنهجيّة العلميّة المركّزة والتعابير القانونيّة الواضحة. كأنّنا في النصّ المجمعيّ أمام حديقة متنوّعة فيها الزهور والورود والأشجار المثمرة والأعشاب التي تضفي على المنظر سحرًا مجانيًّا يغدق على الكلّ جوًّا رومنطيقيًّا يزعج العقل الباحث عن منطق غائيّ لهذه الحديقة. هل هي للزهور أم للأثمار أم للأعشاب المرجيّة؟ هذا لا يشغل عامّة الناس. والنصّ المجمعيّ ليس للباحث وحده، فهو في بعده الرعويّ لعامّة الناس.

عند عودتنا إلى م ق ك ش نجد الكثير من القوانين تحمل البعد الروحيّ واللاهوتيّ والإنسانيّ نفسه، أي الرعويّ ـوهنا نفهم أن الحق القانونيّ ثمرة المجمع الفاتيكانيّ الثانيـ؛ لا نجد النهج القانونيّ البحت وحسب. هذه القوانين هي إجمالاً تلك التي تفتتح الأبواب والفصول وغيرها. فيها الكتاب المقدّس والعقيدة واللاهوت والرعويّات.

 

4 ـ الحبّ الزوجي

يركّز آباء المجمع في الرقم 49، الفقرة 1، على العفّة في الحبّ ، أكان في أثناء الخطوبة أم خلال الحياة الزوجيّة. لغة النصّ المجمعيّ رعويّة وأخلاقيّة، ونهجها وصفيّ وتحليليّ وتفسيريّ وحَثّي (exhortatif). هي ليست قانونيّة في الشكل. إنّ المجمع يعطي قيمة شموليّة للحبّ الذي يطاول الشخص البشريّ بكلّ كيانه، نفسًا وجسدًا. ويصف الحياة بـ”الصداقة الزوجيّة” (conjugalis amicitiae). في هذا الحبّ  يجتمع البعدان الإنسانيّ والإلهيّ ليدفعا الزوجين إلى عطاء حرّ ومتبادل لذاتيهما تشهد عليه المشاعر وأعمال الحنان ليتغلّل في كلّ حياتهما. هكذا نجد أنفسنا أمام نصّ عميق في رعويّة العائلة وأخلاقيّتها الإنسانيّة والإيمانيّة. ويعبُرُ هذا النصّ في الفقرة الثانية إلى القول إن هذا الحبّ يكتمل بخاصّة في اكتمال العمل الخاص بالزواج؛ وهو الاتّحاد الجسديّ العفيف الذي هو شريف وكريم وإنسانيّ. في هذا العمل يتمّ العطاء المتبادل. وتاليًا يذكّر النصّ المجمعيّ أن هذا الحبّ فيه التزام متبادل يقدّسه سرّ المسيح، فهو بأمانة لا تقبل الانحلال في الجسد والفكر، يتنافى مع الزنى والطّلاق. كلّ هذا تحت عنوان “الحبّ”. في هذا الحبّ تظهر في الزواج الوحدة التي يثبتها الربّ. هذا الحبّ مبني على الصلاة. في كلّ هذا لم تُذكر كلمة حبّ بين الزوجين إلاّ نادرًا في المجمع التريدنتي، وحين عاد إلى رسالة بولس إلى أهل أفسس (5/25).

5 – خصب الزواج

فالزواج والحبّ الزوجيّ، في المجمع الفاتيكانيّ الثاني (الرقم 50)، هما موجّهان بطبيعتهما إلى إنجاب البنين وتربيتهم. “فالأبناء هم عطيّة الزواج الأكثر سموًّا.” وهذا يعني أن هنالك عطايا أخرى للزواج مثل الحبّ والوحدة والأمانة والتعاون والعطاء والقبول المتبادلة بين الزوجين بكل ذاتيهما نفسًا وجسدًا وغيرها. وفي الفقرة الثانية يشجّع آباء المجمع الزوجين على التعاون مع الله و مشاركته في الخلق عن طريق إنجاب العديد من البنين. ويستدرك المجمع في الفقرة الثالثة أنّ الزواج ليس بمجرّد إنجاب البنين، بل كونه “بطبيعته عهدًا لا ينحلّ”، فللحبّ المتبادل بين الزوجين مكانته الخاصّة به. “لذلك، يقول آباء المجمع، حتى لو لم يأتِ الأولاد، برغم الرغبة الشديدة فيهم، يبقى الزواج تعاونًا واتّحادًا يشمل الحياة كلّها ويحتفظ بقيمته وعدم انفصامه”. هذه الثوابت في الكنيسة الكاثوليكيّة لا تكفّ المجامع والسلطة الكنسيّة عن التذكير بها والتشديد عليها. وفي مجال الخصب، أتى في الدستور العقائديّ الكنيسة، رقم 41، الذي يذكر الأزواج والأهل ودورهم في تربية الأولاد المسيحيّة والعمل فيها “بأخويّة محبّة” كشهود، هم “المعاونون لخصب الأم الكنيسة كعلامة للمشاركة في الحبّ الذي أحبّه المسيح لعروسه وبذل نفسه دونها.”

6 ـ الحبّ الزوجيّ وعلاقته باحترام الحياة البشريّة

الرقم 51 من النصّ المجمعيّ يعالج بمنهجيّة أخلاقيّة مسألة الإجهاض وقتل الأطفال. هو يمنع هذه الممارسات التي تحرّمها الكنيسة وكلّ ما يتعلّق بها من وسائل تنظيم الولادات التي لا تسمح بها السلطة الكنسيّة. حتى الطريقة التي يعالج بها المجمع هذه المسائل الخطيرة يغلب عليها الطابع الرعويّ لا طابع الحرمان والتهديد الدفاعيّ الذي يتبعه المجمع التريدنتي العقائديّ والقانوني.

7 ـ تقييم الزواج والعائلة منوط بالجميع

يتطرّق آباء المجمع في الرقم 52 إلى الزواج من خلال تركيزهم على العائلة التي هي كمدرسة إنسانيّة منشرحة (épanouie). محور نجاح العائلة هي شراكةٌ بالروح ملأى عطفًا، وحوار مشترك بين الزوجين وتعاون دقيق بين الأهل لأجل تربية الأولاد. فلحضور الأب الفاعل إفادة كبيرة لهذه التربية، وعلى الأم أن تستطيع تأمين العناية بالبيت التي يحتاج إليها الأولاد، بخاصة الأصغر سنًا، من دون إهمال التعزيز الاجتماعيّ المشروع للمرأة. هنا نجد آباء المجمع يحترمون توق المرأة إلى العمل ووجوب القيام بدورها التربويّ تجاه الأولاد، من عناية وحنان وسهر عليهم. فعلى تربية الأولاد أن تقود الآباء والأمهات إلى تحمّل المسؤوليّة واختيار دعوتهم في الحياة بما في ذلك الدعوة الدينيّة، وإن اختاروا الزواج “يستطيعوا أن يؤسسوا عائلتهم الخاصّة في ظروف أخلاقيّة واجتماعيّة واقتصاديّة ملائمة” (الفقرة 1). يشجع المجمع الأهل على مرافقة أولادهم في تأسيس عائلاتهم بالنصح والإرشاد، ولكن لا يجوز لهم أن يمارسوا عليهم الضغوط المباشرة أو غير المباشرة، أكان في الالتزام بالزواج أم في اختيار شريك الحياة (الفقرة 1). نحن أمام نصوص رعويّة وأخلاقيّة في العلاقات العائليّة بشكل عامّ، ولكننا نستطيع أن نستخلص منها قانونيًّا وجوب احترام الأهل لحريّة الاختيار عند أولادهم، لكي يكون رضاهم الزواجيّ غير منتقص، ما يتسبّب بحصول زواج باطل إن تمَّ الاحتفال به تحت وطأة الضغط والإكراه، وهذا ما يسمّيه القانون، في ظروف كهذه، “الخوف الاحتراميّ”.

يتوجّه آباء المجمع إلى فئات المجتمع كافّة، التي على علاقة بالعائلة. فهم يطالبون أولاً أصحاب التأثير الاجتماعيّ والسلطة الزمنيّة بالمساهمة في تعزيز الزواج والعائلة من خلال الاعتراف بطبيعتهما الحقيقيّة وحمايتهما وتنميتهما والسهر على الأخلاق العامة والتشجيع على ازدهار العائلات. ويطالبونهم أيضًا بالحفاظ على حق الأهل بإنجاب البنين وتربيتهم في العائلة؛ وحماية من لا عائلة لهم ومساعدتهم (الفقرة 2).

ثم يطالب آباء المجمع المسيحيّين بالعمل على تعزيز خيور الزواج والعائلة في شهادتهم الحياتيّة، وفي العمل مع كلّ الناس ذوي الإرادة الحسنة. وحين تبتعد الصعوبات يعملون على سدّ حاجات العائلة ويوفّرون لها المنافع الملائمة للأزمنة الحديثة. ولبلوغ هذه الغاية، فحِسُّ المؤمنين المسيحيّ واستقامةُ الضمير الأخلاقيّ عند الناس، وأيضًا حكمةُ الذين يُكبّون على العلوم المقدسة وكفاءتهم ستكون عونًا كبيرًا لهذا البلوغ (الفقرة 3).

وبعد ذلك يتوجهون إلى الاختصاصيين في العلوم، خاصّة العلوم البيولوجيّة والطبيّة والاجتماعيّة والنفسانيّة، مطالبين إيّاهم بالعمل الكثير في سبيل الزواج والعائلة وسلام الضمائر، ويحثّونهم على تنسيق دراساتهم في سبيل توضيح أكبر لمختلف الظروف تنظيمًا للنسل البشريّ بشكل صحيح (الفقرة 4).

ثمّ يتوجّه آباء المجمع إلى الكهنة، مذكّرين إيّاهم أن من واجبهم مساندة دعوة الأزواج في حياتهم الزوجيّة والعائليّة، مستعينين بمختلف الوسائل الرعويّة، كالوعظ وكلمة الله والعبادة الليتورجيّة والمساعدات الروحيّة الأخرى، بأن يشدّدوهم برفق وصبر عند الصعوبات ويشجّعوهم بالمحبّة ليكوّنوا عائلات فعلاً يشرق منها النور (الفقرة 5).

وبعد ذلك يتوجّهون إلى الحركات المختلفة، بخاصّة الرابطات العائليّة، ليجتهدوا بالتعليم والعمل على تثبيت الشبّان والأزواج وتنشئتهم على الحياة العائليّة والاجتماعيّة والرسوليّة (الفقرة 6).

ويتوجّهون أخيرًا إلى الأزواج أنفسهم، حاثين إيّاهم على “الاتّحاد بالحبّ عينه والتفكير عينه والقداسة المتبادلة، هم المخلوقون على صورة الله الحيّ والمُقامون في نظام أشخاص أصيل، بشكل أنّهم باتّباعهم المسيح، مبدإ الحياة، يصبحون، بالأمانة لحبّهم في أفراح دعوتهم وتضحياتها، شهودًا لسرّ المحبّة التي أظهرها الرب للعالم بموته وقيامته” (الفقرة 7).

ثالثًا ـ خاتمة حول المنهجيّة القانونيّة

في الحقيقة أعطى المجمع الفاتيكانيّ الثاني، في الزواج، نصوصًا رعويّة ولاهوتيّة واجتماعيّة رائعة، استخلصَ منها المشرّع نصوصًا قانونيّة تعاني بعض تعابيرها عدم الوضوح القانونيّ. ومن خلال هذا نجد أن نصوص هذا المجمع لم يكن هدفها المنهجيّة القانونيّة بل التأويل الرعويّ. وهذا لم يكن حال المجمع التريدنتي الذي وضع، في الزواج، قوانين وعقائد بكل ما لهذين العلمين من تركيز ووضوح وتقشّف في التعابير، بالرّغم من لغة “الحرم” التي كانت مألوفة في زمانه.

فالمجمع الفاتيكانيّ الثاني يستعمل الكثير من التعابير المصوّرة والتشابيه وغيرها، ممّا لا جدوى منه في منطق النهج القانونيّ المتقشّف والمقتضب، الذي يكتفي بأقلّ كميّة من الكلمات لأكثر قدر من المعاني. على سبيل المثال تعبير “خير الزوجين” غير الواضح المدلول في القانون. هو صعب الاستعمال في الدعاوى الكنسيّة التي تحتاج إلى تعابير عمليّة يمكن تطبيقها على حالات محدّدة، وتحديدها قانونيًّا لأجل استخدامها العمليّ والعلمي. فخير الزوجين يشمل كلّ الزواج! ولا يُعرَف له حدٌّ قانوني.

إن نصوص المجمع الفاتيكانيّ الثاني غنيّة جدًّا في محتواها اللاهوتيّ والأخلاقيّ والاجتماعيّ والإنسانيّ والعقائديّ والخلاصيّ، وكلّ معانيها التي تحترم سامعيها، لكنّ منهجيّتها القانونيّة العلميّة تعاني من الجديّة الخاصّة بها. من هذا الباب كان المجمع التريدنتي أكثر حزمًا ووضوحًا قانونيًّا. ولكن هذا المجمع كان موجّهًا نحو تحديد التعابير ووضوح المدلولات في وجه الذين كان يسمّيهم “المنشقين”. كان ملتفتًا صوب الدفاع عن الداخل ضدّ الخارج. من هذا الباب كان توجّه المجمع الفاتيكانيّ الثاني مغايرًا في نهجه، لأنّه كان يركّز على الانفتاح والتوجّه إلى الناس ليدعوهم إلى الخلاص والتعرّف إلى المسيح كنبع للخلاص. ومن دون أن ينتقص من جذريّة الحفاظ على سلامة العقيدة، لم يكن همّ هذا المجمع الكبير المنهجيّة العلميّة بما يخصّ الزواج. كانت تتداخل فيه المجالات كافة في النصوص ذاتها : العقائد واللاّهوت والروحانيّة والأخلاق والاجتماعيات وعلم الإنسان والقانون والتنظيم الكنسيّ والعائليّ والتربويّ وغيرها. وهذا ما يربك بعض الشيء الباحث العلمي!

التفت المجمع التريدنتي إلى الكنيسة ليثبّتها، والمجمع الفاتيكانيّ الثاني ذهب هو والكنيسة إلى العالم ليأتي به إلى المسيح. هذا هو العمل الرعويّ الذي كان يشغل آباء المجمع. لكن ألم يكن قادرًا على الحفاظ على المنهجيّة العلميّة، مع الاحتفاظ بسموّ هدفه ونبله الخلاصي، الذي تحتاج إليه الكنيسة في عالم اليوم؟

 

ملحــق

أرى من المفيد أن أعرِّب، شخصيًا، نصوص المجمع التريدنتي المتعلّقة بالزواج والتي استخدمتها في هذه المحاضرة، تسهيلاً لاستخدامها من قبل القارئ الكريم، وقد اعتمدت اللغة اللاتينيّة والفرنسيّة معًا في هذا المجال.

الدورة الرابعة والعشرون

في 11 تشرين الثاني 1563

عقيدة سرّ الزواج

بوحي من الروح القدس، أعلن الأب الأول للجنس البشري، رباط الزواج الدائم والذي لا ينحلّ حين قال: هذه الآن عظم من عظمي ولحم من لحمي. لذلك يترك الرجل أباه وأمه ويلزم امرأته فيصير الاثنان في جسد واحد[20].

لا يرتبط ولا يتّحد بهذا الرباط إلاّ كائنان، المسيح ربّنا علّمه بوضوح كافٍ حين ذكّر بهذه الكلمات التي تلفّظ بها الله وقال : لذلك هما لم يعودا اثنين ولكن جسدًا واحدًا، وثبّت مباشرة بعد هذه الكلمات، متانة هذا الرباط الذي أعلنه آدم منذ زمن بعيد: إذًا، ما جمعه الله لا يفرّقه الإنسان (متى 19/6؛ مر 10/8-9).

النعمة التي كانت لَترفُّع هذا الحبّ الطبيعيّ إلى كماله، ولَتثبّت هذه الوحدة التي لا تنحلّ، ولَتقدّس الأزواج، المسيح نفسه الذي وضع الأسرار المكرّمة ورفعها إلى كمالها، استحقّها لنا بآلامه. هذا ما يلمّح إليه الرسول بولس حين يقول لنا: أيّها الرجال أحبّوا نساءكم كما أحبّ المسيح الكنيسة وبذل نفسه لأجلها (أفسس 5/25)، وأضاف مباشرة: هذا السرّ لَعظيم، أقولها في المسيح والكنيسة (أفسس 5/32).

بما أنّ الزواج في الشريعة الإنجيليّة يتخطّى بالنعمة، بواسطة المسيح، أعراس الشريعة القديمة، فبحقٍّ علّم دائمًا آباؤنا القديسون والمجامع وتقليد الكنيسة الجامعة، أنّه كان من الواجب اعتبار الزواج من بين أسرار الشريعة الجديدة. في توجّههم ضد التقليد، هنالك أناس كافرون من هذا الدهر يفكّرون بجنون، لم يكن لهم فقط آراء خاطئة على هذا السر الكريم، ولكنهم، كعادتهم، مُدخلين تحرّر الجسد تحت غطاء الإنجيل، كتابة وشفاهًا، راحوا ينشرون الكثير من العناصر الغريبة عن شعور الكنيسة الكاثوليكيّة والأعراف الموافَق عليها منذ أيام الرسل، وهذا يتسبّب بضرر كبير للمؤمنين. إذ يريد المجمع المسكونيّ المقدّس أن يقف في وجه جسارة هؤلاء الأناس، رأى أنّه يجب القضاء على الهرطقات وعلى الأخطاء المهمّة للمنشقين المذكورين لاحقًا، لئلاّ تجذب إليهم تعاليمهم الهدّامة عددًا كبيرًا. كذلك هو يصدر ضدّ هؤلاء الهراطقة وأخطائهم الحرمانات التالية.

 

قوانين حول سر الزواج

1 – إذا قال أحد إن الزواج ليس حقيقةً وحصرًا أحد أسرار الشريعة الإنجيليّة السبعة التي وضعها المسيح ربّنا، ولكن تمّ ابتكاره في الكنيسة من قبل البشر، وإنه لا يعطي النعمة، فليكن محرومًا.

2 – إذا قال أحد أنّه مسموح للمسيحيّين أن يكون لهم في الوقت نفسه زوجات عدّة، وإنّ هذا لم يكن ممنوعًا من قبل أيّة شريعة إلهيّة، فليكن محرومًا.

3 – إذا قال أحد إنّ درجات القرابة الدمويّة والأهليّة وحدها التي أتت في سفر اللاويين (18/6-18)، تستطيع أن تمنع عقد زواج وتجعل باطلاً ذلك الذي عُقِدَ، وأن الكنيسة لا تستطيع أن تفسّح من أيّ منها ولا أن تقرّر أن عددًا أكبر يكون سببًا مانعًا ومبطلاً (للزواج)، فليكن محرومًا.

4 – إذا قال أحد إن الكنيسة لم تستطع أن تضع موانع مبطلة للزواج، أو إنها أخطأت بوضعها لها، فليكن محرومًا.

5 – إذا قال أحد إنّه يمكن حلّ رباط الزواج بسبب الهرطقة أو بسبب حياة مشتركة لا تُحتمَل أو أيضًا بسبب غياب إراديّ لقرين، فليكن محرومًا.

6 – إذا قال أحد إنّ زواجًا مقرّرًا غير مكتمل لا يُبطَل بالنّذر الرهبانيّ العلنيّ الذي يقوم به أحد القرينين، فليكن محرومًا.

7 – إذا قال أحد إنّ الكنيسة تخطئ حين علّمت وتُعلّم، وفقًا لتعليم الإنجيل والرسول[21]، أن رباط الزواج لا يمكن حلّه بزنى أحد الزوجين، وأنّه لا القرين ولا الآخر، حتى البريء الذي لم يتسبّب بالزنى، لا يستطيع، ما دام القرين الآخر حيًا، أن يعقد زواجًا آخر؛ وإنّه زانٍ من يتزوّج من امرأة أخرى بعد أن يكون قد طرد الزانية والتي تتزوّج من رجل آخر بعد طردها للزاني، فليكن محرومًا.

8 – إذا قال أحد إن الكنيسة تخطئ حين تقرّر أن الأزواج، لأسباب عديدة، يستطيعون العيش منفصلَيْن من دون حياة زوجيّة أو حياة مشتركة، لوقت محدّد أو غير محدّد، فليكن محرومًا.

9 – إذا قال أحد إنّ الإكليريكيين الذين نالوا الدرجات المقدسة أو الرهبان الذين أدّوا نذر العفّة العلنيّ يستطيعون أن يتزوّجوا، وأن زواجًا كهذا هو صحيح، بالرغم من الشرع الكنسي أو من نذرهم، وإنّ تأكيد العكس ليس إلاّ إدانة للزواج؛ وإنّ كلّ من يشعرون بأن ليس لديهم موهبة العفّة (حتى ولو نذروا نذر العفّة)، يستطيعون أن يعقدوا زواجًا، ليكن محرومًا؛ إذ إنّ الله لا يرفض هذه الموهبة على الذين يطلبونها كما يجب، ولا يسمح بأن نُجرَّب فوق طاقتنا (راجع 1 كور 10/13).

10 – إذا قال أحد إن حالة الزواج يجب أن تكون أسمى من حالة البتوليّة أو العزوبيّة، وبأنّه ليس أفضل ولا أكثر سعادة البقاء في البتوليّة أو العزوبيّة منه في عقد الزواج، فليكن محرومًا.

11 – إذا قال أحد إن منع احتفاليّة الأعراس في أوقات محدّدة من السنة هو خرافة ظالمة صادرة عن خرافة الوثنيّين، أو إن حكَم على التبريكات والاحتفالات الأخرى التي تستخدمها الكنيسة، فليكن محرومًا.

12 – إذا قال أحد إنّ الدعاوى الزواجيّة ليست من صلاحيّة القضاة الكنسيّين، فليكن محرومًا.

 

قوانين حول الإصلاح المتعلّق بالزواج

الفصل الأول

حتمًا لا يجوز لنا أن نشك في أنّ الزيجات السريّة، التي جرت برضى المتعاقدين الحرّ هي زيجات صحيحة وحقيقيّة، ما دامت الكنيسة لم تعلنها باطلة؛ كذلك أيضًا يجب أن يُحرَموا، كما يضربهم المجمع المقدس بالحرم، أولئك الذين ينكرون أنّ هذه الزيجات حقيقيّة وصحيحة ويؤكدون، بغير صواب، أن الزيجات المعقودة من قبل أولاد العائلة، من دون رضا أهلهم، هي باطلة ويستطيع الأهل أن يجعلوها صحيحة أو باطلة. إلاّ أنّ كنيسة الله المقدّسة، لأسباب صوابيّة جدًا، كانت تنظر بكراهية إلى هذه الزيجات ومنعتها. ولكنّ المجمع المقدّس يستنتج أنّ هذا المنع عاد لا يجدي نفعًا بسبب معصية البشر؛ هو يَزِنُ خطورة الخطايا المتأتية من هذه الزيجات السريّة، بخاصّة إزاء أولئك الذين يقبعون في حالة دينونة عندما يعقدون زواجًا علنيًّا مع أخرى، بعد تركهم للزوجة الأولى التي عقدوا معها زواجًا أوّل سريًا، ويعيشون معها بزنى مستديم؛ الكنيسة التي لا تحكم على الأشياء السريّة، لا تستطيع أن تأتي بعلاج لهذا الشر إلاّ بالتجائها إلى علاج أكثر فعاليّة. لذلك، لكل هذه الأسباب، سائرة في إثر المجمع اللاتراني الذي عُقد برئاسة إينّوسان الثالث (اللاتراني الرابع، ق 5)، يأمر المجمع بما يأتي : في المستقبل، قبل انعقاد زواج، لثلاث مرات، ثلاثة أيّام أعياد متتالية، يعلن خوري الطرفين المتعاقدين في الكنيسة، خلال الاحتفال بالقدّاسات، بين مَن يجب أن يُعقَد الزواج. بعد إجراء هذه الإعلانات، إن لم يكن من عائق شرعيّ، يُباشر بالاحتفال بالزواج أمام الكنيسة، بعد أن يُسأل الرجل والمرأة؛ وحين يفهم الخوري بالتأكيد وجود رضًا متبادل من جهتهما، يقول: أنا أوحّدكما بالزواج باسم الآب والابن والروح القدس؛ وإلاّ يستخدم تعبيرًا آخر بحسب الطقس المتوارث في كلّ إقليم. إن كان من شك محتمل في أنّ الزواج ممكن أن يكون ممنوعًا عن سوء نيّة، وقد سُبِقَ بهكذا إعلانات؛ إمّا لا يُجرى إلاّ إعلان واحد، وإما يتمّ الاحتفال بالزواج بحضور الخوري وشاهدين أو ثلاثة؛ ثم، قبل إكمال الزواج، تُجرى الإعلانات في الكنيسة حتّى، إذا كان هناك موانع ما، يتمّ كشف هذه الموانع بشكل أسهل، إلاّ إن رأى الرئيس الكنسيّ نفسه ملائمًا إلغاء الإعلانات المذكورة سابقًا. هذا ما يتركه المجمع المقدّس لحرصه ولحكمه.

أمّا بالنسبة إلى أولئك الذين يبادرون إلى عقد زواج من دون حضور الخوري أو كاهن آخر حصل على إذن من قبل الخوري أو الرئيس الكنسي، وأمام شاهدين أو ثلاثة، يجعلهم المجمع المقدّس غير صالحين بشكل مطلق أن يعقدوا بهذه الطريقة، ويقرّر أن عقودًا كهذه هي غير صحيحة وباطلة، كما هي الحالة بالنسبة إلى هذا القرار الذي فيه يجعلهم غير صالحين ويبطلهم. أكثر من ذلك، يأمر المجمع أن يُعاقَب الخوري والكاهن الذي كان يجب أن يكون حاضرًا عقدًا من هذا النوع، والشهود الذين كانوا حاضرين، في غياب الخوري أو الكاهن، والأطراف المتعاقدة نفسها بعقاب صارم يعود لحكم الرئيس الكنسي. وبغير ذلك، يحثّ المجمع المقدس نفسه الأزواج على ألاّ يتساكنا في المنزل نفسه قبل البركة الكهنوتيّة التي يجب الحصول عليها في الكنيسة. ويقرّر أن تُعطى هذه البركة من قبل خوريهم الخاص، وأنّ السماح بإعطاء هذه البركة لا يمكن أن يُمنحَ من قبل أيًّ كان، ولكن تحديدًا من قبل الخوري نفسه أو الرئيس الكنسيّ : هذا، بالرغم من كلّ امتياز أو كلّ عادة، حتى قديمة العهد، يجب أن تُسمّى مغالاة. إذا تجرأ خوري ما أو كاهن آخر، راهب أو أبرشيّ، حتى لو ادّعى أن ذلك مسموح له عن طريق امتياز أو عادة قديمة العهد، أن يوحّد بالزواج أو يبارك أزواجًا من رعيّة أخرى من دون إذن خوريهم، يبقى مربوطًا بحكم القانون (ipso iure) حتى يُحَلّ من قبل رئيس الخوري الذي كان يجب أن يكون حاضرًا في الزواج، أو (رئيس) من كان يجب أن تُنالَ منه البركة. يملك الخوري كتابًا يحتفظ به عنده بعناية، يدوّن فيه أسماء الأزواج والشهود وكذلك يوم انعقاد الزواج ومكانه.

وأخيرًا، يحثّ المجمع المقدّس الأزواج، قبل عقد الزواج أو أقلّه ثلاثة أيّام قبل إكماله، على الاعتراف بدقّة بخطاياهم وعلى الاقتراب بتقوى من سرّ القربان الفائق القداسة. إن التجأت بعض الأقاليم لأجل ذلك إلى عادات أخرى واحتفالات ممدوحة، إضافة إلى تلك التي ذُكرت، يرجو المجمع المقدّس بحيويّة أن تتم المحافظة عليها كلّها. يأمر المجمع، لئلاّ تفوت هذه التدابير الخلاصيّة جدًّا أحدًا، كلّ الرؤساء الكنسيّين بالسهر، متى استطاعوا ذلك، على أن يُطبَعَ هذا القرار ويُشرَحَ في كلّ من كنائس أبرشيتهم الرعائيّة؛ وذلك يتمّ بقدر الإمكان خلال السنة الأولى، ثم في كلّ مرّة يرون ذلك ملائمًا.

وغير ذلك، يقرّر المجمع أن يدخل هذا القرار حيّز العمل في كلّ رعيّة بعد ثلاثين يومًا تبدأ من أول يوم تمّت فيه طباعته في الرعيّة نفسها.

 

الفصل الثاني

تعلمنا الخبرة، غالبًا جدًّا، بسبب عدد كبير من الموانع، أن الزيجات تمّ عقدها في جهل الحالات الممنوعة. عندئذ، إمّا أن يكون الاستمرار في هذه الزيجات من دون خطيئة كبيرة، وإمّا أنها (هذه الزيجات) تُعلَن باطلة من دون تشكيك كبير. لذلك فالمجمع المقدس، إذ يريد أن يعالج هذه السلبيّة، وإذ يبتدئ بمانع القرابة الروحيّة، يقرّر أنّه، كما كانت قد وضعت القوانين المقدّسة، شخص واحد فقط، رجل أو امرأة، أو بالأكثر رجل واحد وامرأة واحدة يكونون عرّابًا وعرابة في عماد ما: قرابة روحيّة تحصل بين هؤلاء والمعمَّد، وكذلك مع أبيه وأمه؛ وكذلك الشيء نفسه ما بين المعمِّد والمعمَّد وأيضًا أبيه وأمّه.

قبل الاحتفال بالعماد، يستعلم الخوري بدقّة، عند من يعنيهم الأمر، من هو أو من هم الذين تمّ اختيارهم ليأخذوا باليد العماد في جرن المعموديّة. لن يقبل في هذه المسؤوليّة إلاّ هذا أو هذه. يكتب اسمهم في كتاب ويُعلمهم بالقرابة التي حصلت، لكي لا يحتجّوا بأيّ جهل كعذر. إن لمس المعمَّد آخرون غير الذين تمّ تعيينهم، لا تسري عليهم أية قرابة روحيّة، بالرغم من كلّ التدابير المعاكسة. إن تمّ شيء مخالف لهذا بسبب غلطة الخوري أو إهماله، يعاقَب هذا (الخوري) بما يرى ذلك الرئيس الكنسيّ مناسبًا. القرابة التي تحصل بسبب التثبيت تتحدّد من جهة بين المثبِّت ومن أخرى المثبَّت وبين أبيه وأمه، والعرّاب أو العرابة؛ كلّ الموانع الروحيّة الأخرى مع أشخاص آخرين تُلغى كليًّا.

 

الفصل الثالث

يلغي المجمع المقدّس مانع الحشمة العلنيّة بشكل كلّي حين تكون الخطوبة، مهما كان السبب، غير صحيحة. وحين تكون صحيحة لا يتخطّى المانع الدرجة الأولى، لأنه في الدرجات الأبعد لا يمكن ضبط منع كهذا من دون ضرر.

 

الفصل الرابع

وما سوى ذلك، تقوده في ذلك الأسباب نفسها وأسباب خطيرة جدًّا، يحصر المجمع المقدس المانع الآتي عن قرابة المصاهرة الحاصلة بعد تسرٍّ (fornicatione)، والتي تجعل الزواج المنعقد بعدها باطلاً بالنسبة إلى الأهل في الدرجة الأولى والثانية وحدهما. وأما في الدرجات الأخرى، فيقرّر أنّ هذه القرابة بالمصاهرة لا تبطل الزواج المنعقد بعدها.

الفصل الخامس

إن تجرّأ أحد وعقد زواجًا في الدرجات الممنوعة، وهو على علم بذلك، يجب أن يُفصل ويُمنَع من كلّ أمل بالحصول على تفسيح؛ وهذا يصيب بشكل أقسى مَن يجرؤ، ليس على عقد زواج وحسب، ولكن أيضًا على إكماله. إن كان فعل ذلك في الجهل، وقد أهمل الاحتفالات المطلوبة عند عقد الزواج، يُخضع للعقوبات نفسها. بالفعل، لا يليق بأن يُعامَل (المرء) بشكل سهل بإحاطة في الكنيسة التي ازدرى بخفّة وصاياها الخلاصيّة. ولكن إن اكتُشف لاحقًا، بعد إكمال الاحتفالات، أنه كان ثمّة مانع ربّما كان يجهله، يمكن أن يُمنَحَ التفسيح بسهولة أكبر ومجانًا. أمّا في الزيجات المطلوب عقدها فلا يُمنح أيّ تفسيح، وإلاّ نادرًا ولأسباب شرعيّة وبشكل مجانيّ. لا يُمنَح أبدًا تفسيح للدرجة الثانية إلا لمصلحة أمراء كبار وللخير العام.

 

الفصل السادس

يقرّر المجمع المقدّس أنّه لا يمكن عقد زواج ما بين خاطف والتي خطفها، ما دامت هذه تحت سلطة الخاطف. إن كانت التي خُطفت، بعد فصلها عن الخاطف ووضعها في مكان آمن وحرّ، قبلت به كزوج، يحصل عليها الخاطف كزوجة. وإلاّ فالخاطف وكلّ الذين قدموا له النّصح والمساعدة والدعم يُضربون بالحرم بحكم الشرع (ipso jure) ويُعلنون بشكل دائم شائنين وغير أهل لقبول كلّ رتبة. وإن كانوا إكليريكيين تُخفض رتبتهم. وما عدا ذلك فعلى الخاطف، بحسب حكم القاضي، أن يدفع للمرأة التي خطفها، سواءً أتزوجها أم لم يفعل.

 

الفصل السابع

كثيرون هم الذين يذهبون من مكان إلى آخر ولا مسكن ثابتًا لهم، كرجال فاسدين، بعد أن تركوا زوجتهم الأولى والتي ما تزال على قيد الحياة، يتزوّجون من أخرى وغالبًا عديدات، في أماكن مختلفة. ينبّه المجمع المقدّس أبويًّا، طلبًا لمعالجة هذا الشرّ، كلّ الذين يعنيهم ذلك ألاّ يقبلوا بسهولة للزواج مثل هؤلاء الرجال الشاردين. ويحث أيضًا القضاة المدنيّين على قمعهم بقسوة. ويأمر الخوارنة ألاّ يحضروا زواج هؤلاء الرجال إلاّ بعد أن يجروا بحثًا مسبقًا وجديًّا وبعد أن يحوّلوا القضيّة إلى الرئيس الكنسيّ وينالوا الإذن منه بالقيام بهذا التدبير.

الفصل الثامن

إنها خطيئة جسيمة أن يكون لرجال غير متزوجين سرارٍ. هي خطيئة كبيرة جدًا مُرتَكَبة بازدراء خاصة لهذا السرّ العظيم. كذلك حين يعيش رجال متزوجون هذه الحالة المُدانة ويتجرّأون على إعالتهنّ والاحتفاظ بهنّ أحيانًا في بيوتهم وفي الوقت نفسه مع زوجتهم. لذلك، ولتأمين العلاجات الملائمة لهذا الشرّ الكبير، يقرّر المجمع المقدّس أن أولئك المتسرين، متزوجين أكانوا أم عازبين، مهما كانت حالتهم أو مقامهم أو موقعهم، بعد أن يحذّرهم الرئيس الكنسيّ ثلاث مرات بأنهم إن لم يطردوا سراريهم ولم يتخلّوا عن كلّ علاقة معهنّ، يجب ضربهم بالحرم. ولن يُحلّوا من هذا الحرم ما لم يطيعوا فعليًّا التحذير المُقام. وإن استمرّوا في التسرّي لمدّة سنة من دون أخذ الملامات في الاعتبار، يتصرّف الرئيس الكنسيّ بقسوة حيالهم بشكل يتناسب وخطورة فعلتهم. أما النساء اللواتي يعشن علنًا مع زناة أو متسرّين، متزوجات أكنّ أم عازبات، يجب معاقبتهنّ بقسوة بحسب فعلتهنّ، من قبل الرؤساء المحليّين، إن لم تُطِعن بعد تحذيرهن ثلاث مرات، وذلك من باب المنصب، من دون أن يكون قد قُدِّم طلب ضدّهنّ. يجب طردهنّ خارج المدينة أو الأبرشيّة، وإن رأى الرؤساء الكنسيّون حسنًا باللجوء، إلى الذراع الزمني، إن احتاج الأمر. والعقوبات الأخرى الصادرة بحق الزناة والمتسرين تحتفظ بكل قوّتها.

 

الفصل التاسع

انجذابات أرضيّة وجشع تعمي بشدّة أبصار روح الأسياد الزمنيّين والقضاة، حتى يدفعوا بالتهديد والوعيد، رجالاً ونساء يعيشون تحت ولايتهم، بخاصّة أولئك الأغنياء أو الذين ينتظرون ميراثًا كبيرًا، إلى عقد زواج على أولئك الذين يأمرهم (هنّ) هؤلاء الأسياد أو القضاة بالزواج. لذلك، كم هي جريمة أن تُنتهَك حريّة الزواج وأن يُرى الظلم يأتي من قبل الذين يُنتَظَر منهم العدالة، يأمر المجمع المقدّس الجميع، من أية درجة أو مرتبة أو وضع كانوا، تحت طائلة الحرم بموجب الشرع (ipso jure)، أنّه لا يحق لهم، بأي شكل من الأشكال، مباشرة أو بشكل غير مباشر، أن يحرموا مرؤوسيهم أو أيًّا كان من أن يعقد زواجًا بحريّة.

الفصل العاشر 

يأمر المجمع المقدّس الجميع بأن يحافظوا بدقّة على الموانع القديمة المتعلّقة بالأعراس الاحتفاليّة في زمن انتظار ربّنا يسوع المسيح حتى يوم الإبيفانيا (الدّنح)، ومن أربعاء الرماد حتى أسبوع الفصح ضمنًا. فهو يسمح بأن يتمّ الاحتفال بالأعراس الاحتفاليّة في الأزمنة الأخرى. ولكن على الأساقفة أن يسهروا على أن يتمّ ذلك بالتواضع والنزاهة الملائمين. الزواج بالفعل شيء مقدس ويجب أن يتمّ التعامل معه بقداسة.

[1] راجع : مجموعة قوانين الكنائس الشرقيّة، ق 776 البند 1.

[2] Th. Rey-Mermet, Ce que Dieu a uni… Le mariage chrétien hier et aujourd’hui, Le Centurion, 1974, p. 7.

[3] نفسه : ص 8.

[4] Lettre à Diognète, V, 16, Collection Sources Chrétiennes 33, éd. Cerf, 1951, p. 63.

[5] راجع : Th. Rey-Mermet, Ce que Dieu a uni, op. cit. p. 46-50

[6] راجع : Denzinger, Enchiridion Symbolorum, Cerf, 1996, n° 761.

[7] نفسه : رقم 860.

[8] نفسه : رقم 1310.

[9] راجع : Th. Rey-Mermet, Ce que Dieu a uni, p. 121

[10] Denzinger, Enchiridion Symbolorum, n° 1327 : « On assigne un triple bien au mariage. Le premier est d’avoir des enfants et de les élever en vue du culte de Dieu. Le deuxième est la fidélité que chacun des époux doit garder envers l’autre. Le troisième est l’indivisibilité du mariage, pour la raison qu’il signifie l’union indivisible du Christ et de l’Église. Et quoique, pour motif de fornication, il soit licite de faire la séparation de lit, il n’est pourtant pas permis de contracter un autre mariage, puisque le lien du mariage légitimement contracté est perpétuel ».

[11] Th. Rey-Mermet, Ce que Dieu a uni, p. 201-202.

[12] Denzinger, Enchiridion Symbolorum, n° 643.

[13] Th. Rey-Mermet, Ce que Dieu a uni, p. 129-130.

[14] إن نصوص المجمع التريدنتي المتعلّقة بالزواج في اللغتين اللاتينيّة الأصليّة والفرنسيّة تعود إلى كتابG. Alberigo (dir.), Les conciles œcuméniques, 2** Les décrets. De Trente à Vatican II, Cerf, Paris 1994, pp. 753-759. ؛ ما نستشهد به في العربيّة هو من ترجمتنا.

[15] مقدمة ما يتعلّق بسر الزواج.

[16] Léon XIII, dans son encyclique Arcanum divinae sapientiae, du 10 février 1880, écrit que « dans le mariage chrétien, le contrat n’est pas dissociable du sacrement, et que, dès lors, il ne peut exister de contrat vrai et légitime qui ne soit par le fait même un sacrement. » ; la citation est prise de Denzinger, Symboles et définitions de la foi catholique, Cerf, Paris, 1996, n° 3145.

[17] في هذا المجال نحن أمام مادّة مهمّة لدراسة أطروحة دكتوراه تمحيصيّة ودقيقة بالبعد القانونيّ في تعابير هذين المجمعين المحوريّين في حياة الكنيسة الكاثوليكيّة.

[18] Au même n° 48 § 2 les Pères du Concile disent : « L’authentique amour conjugal est assumé dans l’amour divin et il est régi et enrichi par la puissance rédemptrice du Christ et l’action salvifique de l’Église, afin que les époux soient conduits efficacement à Dieu, et qu’ils soient soutenus et affermis dans leur sublime mission de père et de mère. »

[19] Idem.

[20] تك 2/23-24؛ راجع متى 19/5 وأفسس 5/31.

[21] راجع : خاصة متى 5/32؛ 19/9؛ مر 10/11-12؛ لو 16/18؛ 1 كور 7/11.