العالم اليهوديّ واهتداء شاول

المطران جوزف نفاع

قد يعتقد البعض أنّ دراسة كهذه هي محض تاريخيّة أو هي من مجرّد المقدّمات البعيدة حول عالم الرسائل البولسيّة. ولكنّ مع تطوّر علم شرح الكتاب المقدّس، إكتشف الشرّاح مدى أهميّة وضع الإطار التاريخيّ لكلّ نصّ قبل درسه، وهو ما يسمّى علميًّا Sitz im leben. هذا الإطار هو الذي يحدّد المفاهيم الأساسيّة أو المشكلات التي يعالجها النصّ.

في الواقع، نلاحظ أنّ أغلب الدراسات التي أجريت على الرسول بولس رأت فيه المبشّر المسيحيّ الأوّل ومؤسّس الكنائس. ولكنّ لطالما أغفلت أنّ بولس هو شاول الفرّيسيّ وأنّ رسالته المسيحيّة توّجهت أوّلاً إلى اليهود، إذ بشّر في مجامعهم. عمل بولس الرسوليّ هو إلى حدّ بعيد ردّ فعل على خلفيّته اليهوديّة بحسناتها ونواقصها. من هنا، فدراستنا للعالم اليهوديّ في أيّام بولس هي الدخول من الباب السليم لفهم فكر هذا الرسول العظيم ولاهوته.

نتذكّر أوّلاً أنّ بولس عاش في العالم اليهوديّ بكل أقسامه: فهو من طرسوس، أي من الشتات اليهوديّ. ولكنّه درس في أورشليم والتزم باليهوديّة الفرّيسيّة هناك. وحوكم ومات في روما، حيث شكّلت الجالية اليهوديّة واقعًا ضاغطًا حتّى على السلطة الرومانيّة نفسها. فعلينا أن نلقي نظرةً فاحصةً إلى هذه العوالم المختلفة وكيف أثّرت على شخصيّة بولس وعلى رسالته.

1- يهود الشتات

1.أ. تاريخ تكوين مجموعات الشتات اليهوديّ

1.أ.1. الشتات البابليّ

الإختبار الأوّل للشتات كان مع السبي إلى بابل، الذي دام ما بين سنة 721 وسنة 538 ق.م. لقد قرأ اليهود حدث السبي في بداياته على أنّه الكارثة الكبرى والدمار الشامل لكيان شعب الله المختار فالمملكتان اليهوديّتان قد انهارتا، مملكة الشمال ومملكة الجنوب، والهيكل قد دُمّر وعظماء الشعب أُخذوا أسرى إلى بابل. إلاّ أنّ واقع المسبيّين لم يطل كثيرًا على هذه الحال. فهؤلاء كانوا من علية القوم[1]، أي من المثقّفين والأغنياء ذوي الخبرة العالية إن في الساسية أو في التجارة وعالم الأعمال. هؤلاء المسبيّون كانوا يتكلمون لغات أجنبيّة عديدة، ومنها لغة بابل[2]، وكانوا يجيدون القراءة والكتابة والحساب وغيرها من العلوم. كلّ ذلك سمح لهم أن يجدوا سريعًا في بابل، وهي الإمبرطوريّة الكبرى في العالم القديم[3]، ظروف عمل جيّد في قصور الحكّام ولدى كبار التجّار. عملوا كأمناء سرّ وكمترجمين وضبطوا الحسابات، إلخ. وهكذا، لم يطل الامر باليهود حتّى تمتّعوا بنسبة عالية من الرخاء والإزدهار وبدأوا يشكّلون فئةً لها سيطرتها على العالم السياسيّ والماليّ في بابل. يدلّنا على ذلك، مثلاً، سفر أستير الذي يُخبرنا عن تلك الفتاة اليهوديّة التي أصبحت زوجة الملك في بابل. ويخبرنا أيضًا عن الحسد الذي دبّ في قلب وزير الدولة من مردخاي، عمّ أستير، الذي تبوّأ مركزًا عاليًا لدى السلطة والشعب. من هنا اكتشف اليهود أنّ خروجهم من أرض إسرائيل ليس بالضرورة أمرًا سيئًا، من الناحية الإقتصاديّة والإجتماعيّة؛ بغضّ النظر عن المفهوم الدينيّ لأرض المعاد. لقد اختبروا أنّ النعم ممكن أن ينالوها في أرض بابل كما نالوها في أرض إسرائيل؛ إن لم تكن في بابل أوفر وأفضل.

عندما أوعز الملك الفارسيّ قورش للقائدين عزرا ونحميا أن يعيدا الشعب الإسرائيليّ إلى أرضه، بعد أن أطلق سراحهم عام 538 ق.م.، لم يفلح هذان الأخيران في إقناع كلّ المسبيّين بترك بابل والعودة إلى أرض الوطن. فضّل السواد الأعظم منهم البقاء في بابل حيث اختبروا الرخاء والبحبوحة وحيث أسّسوا لهم بيوتًا وأعمالاً مزدهرةً. وبعد جهود مضنية في الإقناع، لم يتمكّن عزرا ونحميا من إرجاع سوى نسبة 20٪ من الجماعة اليهوديّة البابليّة. وهكذا تشكّلت أولى الجاليات اليهوديّة الإختياريّة؛ أي أنّ يهودًا اختاروا بملء حريّتهم أن يعيشوا خارج أرض المعاد.

شكّل هذا الرفض جرحًا بالغًا في الوعي القوميّ اليهوديّ. لم يعد اليهود يشكّلون كتلةً وشعبًا متراصًّا كما كانوا سابقًا؛ بخاصّةٍ أنّ الشعب اليهوديّ قليل العدد وضعيف، مقارنةً بشعوب الممالك والإمبرطوريّات المحيطة به. وبالفعل، هذا الإنقسام اليهوديّ لن يسمح لإسرائيل العائد إلى أورشليم أن يقوم مجدّدًا كدولة أو كمملكة. وحتّى مع قيام المملكة الحشمونيّة، حواليْ سنة 128 ق.م.، وهي المملكة اليهوديّة الوحيدة بعد العودة، لم نشهد إنجازات ذات قيمة تاريخيّة أو حضاريّة تُذكر. بقي إسرائيل دومًا كيانًا ضعيفًا سياسيًّا وحتّى إقتصاديًّا. فالبلد صغير، ولم يتمكّن من أن يقاوم نكبة السبي كما يجب. عدا عن أنّ موارده الطبيعيّة هي أيضًا قليلة؛ فالبلد هو شبه صحراويّ، بخاصّةٍِ في منطقة الجنوب، حيث صحراء النقب.

1.أ.2. الشتات الإسكندريّ

هذا الواقع الأليم في أرض إسرائيل جعل اليهود، في حقبات لاحقة، يستعيدون بشكل أو بآخر إختبار بابل. أيّ أنّهم سيرتحلون طوعًا صوب أراض جديدة بحثًا عن حياة افضل. الحدث الأوّل والأبرز لهذه الهجرة كانت مع دخول الإسكندر الكبير سنة 333 ق.م. إلى الشرق واحتلاله لكلّ بلدان المنطقة، ومن ضمنها إسرائيل ومصر. بنى الإسكندر مدينة الإسكندريّة وجعل منها تحفته الفريدة وجوهرة العالم القديم. فموقعها الإستراتيجيّ، بين قارتيْ آسيا وأفريقيا وبين البحر الأبيض المتوسّط والبحر الأحمر، جعل منها مركزًا تجاريًّا فائق الأهميّة؛ بخاصّةٍ أنّ الإسكندر بنى فيها مرفأً بحريًّا مهمًّا جدًّا، شكّلت منارته إحدى عجائب الدنيا السبع. كلّ هذه المعطيات جعلت من المدينة الفتيّة مركزًا تجاريًّا ضخمًا وملتقى جميع القوافل البريّة والبحريّة. ومن الطبيعيّ أنّ أهل الإسكندريّة أصابوا من الغنى قسطًا وافرًا جدًّا.

قرب إسرائيل جغرافيًّا من مدينة الإسكندريّة، وضيق الأحوال الماديّة، شجّع اليهود على أن ينتقلوا للعيش في هذا العالم الجديد، بحثًا عن العمل هناك. ولقد نجحت الجالية اليهوديّة في إثبات ذاتها بشكل مميّز، ما جعلها تنمو وتتوسّع حتّى بلغت مشارف مدينة القاهرة. كما أتقن اليهود اللغة اليونانيّة، لغة الإسكندر، إتقانًا تامًّا، لدرجة أنّهم نسوا تمامًا لغتهم الأمّ.

لم يكتفِ يهود الإسكندريّة بتشكيل طبقة تجاريّة غنيّة، بل كان لهم التأثير الكبير على الديانة اليهوديّة نفسها. لقد أرسل بطليموس الثاني فيلدلفوس (282-246 ق.م.) إلى عظيم الكهنة أليعازر في أورشليم يطلب منه أن يرسل له علماء عارفين بالتوراة واللغتين العبريّة واليونانيّة لكي يترجموا الكتاب المقدّس إلى اليونانيّة؛ لأنّ أبناء الجالية لم يعودوا قادرين على فهم اللغة العبريّة. نفّذ عظيم الكهنة رغبة الجالية الإسكندرانيّة وأرسل لهم 72 عالمًا لإتمام العمل المطلوب، وهكذا وُلدت الترجمة السبعينيّة الشهيرة. والجدير بالذكر أنّ السبعينيّة ليست مجردّ ترجمة للنصّ العبريّ، بل قام المترجمون بإضافة نصوص وفصول وحتّى أسفار جديدة على النصّ القديم. عبّرت هذه الإضافات عن التطوّرات اللاهوتيّة التي شهدتها تلك الحقبة، بخاصّةٍ من جهة الإنتظار المسيحانيّ.

سُرّ اليهود جميعًا بإنجاز الترجمة السبعينيّة، وأكبروا ما فيها من تطوّر لاهوتيّ لدرجة أنّهم اعتبروا آنذاك أنّ النصّ الموحى هو نصّ السبعينيّة، مدوّنًا عن النصّ العبريّ. وأقاموا لها عيدًا يحجّون فيه إلى جزيرة الفيلة، حيث انجزت تلك الترجمة. وانتشر نصّ السبعينيّة في كلّ الجماعات اليهوديّة، حتّى في إسرائيل وأورشليم. أمّا النصّ العبريّ فبقي كنصّ ليتورجيّ وحسب، يستعمل في أثناء الصلوات والإحتفالات الدينيّة.

1.أ.3- توسّع الشتات وانتشاره

هذا النجاح المنقطع النظير، الذي حازته الجالية اليهوديّة أينما حلّت، جعلها تتوسّع وتنتشر في بحث دائم عن أماكن جديدة وفرص جديدة للعمل والإثراء. بادئ ذي بدء، أخذت الجاليات تتوسّع نحو المدن القريبة منها. مثلاً، توسّعت الجالية الإسكندرانيّة شيئًا فشيئًا على طول نهر النيل. وهكذا وجدنا أنّ الترجمة السبعينيّة تمّت في جزيرة الفيلة قرب القاهرة. كما أنّ البرديّات المصريّة العائدة إلى تلك الحقبات تشير إلى أنّ الجالية اليهوديّة أقامت أيضًا في صعيد مصر، وخاصّةً في منطقة الفيّوم.

من ناحية أخرى، توسّعت الجالية البابليّة في سائر عواصم العالم القديم القريبة منها، فوصلت إلى تركيّا واليونان وشكّلت هناك جماعات منظّمة، لها تأثيرها الكبير على الإقتصاد وعلى السياسة أيضًا. ومن الملفت للنظر أنّ اليهود توجّهوا منذ القدم إلى روما، العاصمة السياسيّة العظمى، بالرغم من أنّها ليست امتدادًا طبيعيًّا للوجود اليهوديّ القديم بين الأمم، وشكّلوا فيها جالية كبيرةً ومنظّمة. أدرك اليهود مباشرةً أهميّة هذه المدينة ومدى الإمكانات التي تتيحها للساكنين والعاملين فيها. لذلك احتلّت الجالية اليهوديّة في روما، منذ أيّامها الأولى، مركزًا لا يستهان به، ما جعل الرومان أنفسهم يتّخذون مواقف حذرة من هؤلاء الغرباء.

2- يهود أورشليم

الوضع السيّئ في أورشليم بعد العودة من السبي جعل اليهود يرحبّون بالفاتح الإسكندر ويتقبّلون حكمه بطيبة خاطر. حتّى إنّهم وجدوا في الإمبرطوريّة الهلينيّة خلاصًا من حالة الفوضى المستشرية في البلاد، بخاصّةٍ أنّ الإسكندر احترم كلّ الثقافات والمعتقدات الشرقيّة وسمح لسائر الشعوب بأن يحافظوا على حضارتهم وديانتهم؛ كما أعطى إسرائيل امتيازات خاصّة، لأنّهم فتحوا أبوابهم طوعًا لاستقبال الفاتح الجديد.

إلاّ أنّ موت الإسكندر المفاجئ سنة 323 ق.م أعاد البلاد إلى حالة من عدم الإستقرار، يتنازعها تارةً حكم البطالسة من مصر، وطورًا حكم الحشمونيّين من دمشق؛ وهما المملكتان اللتان خلفتا الإمبرطوريّة الهلينيّة في الشرق. تميّز حكم السلوقيّين بالقسوة والطغيان لدرجة أن الملك أنطيوخس الرابع أبيفانيوس وضع تمثالاً للإله زوس أوليمبيا في القدس، داخل هيكل أورشليم. هذا التصرّف أثار أهل القرى في إسرائيل فنظّموا ثورةً لتطهير الهيكل، عُرفت بالثورة المكّابيّة، سنة 164 ق.م. وكان من آثار الثورة المكّابيّة ظهور تيّار متشدّد في إسرائيل يدعو للتمسّك بالشريعة والأرض والهيكل، كما يدعو إلى مجافاة الوثنيّين وقطع كلّ علاقة بهم. وجد هذا التيّار المتشدّد أساسًا لاهوتيًّا له في تيّار عزرا ونحميا الداعي إلى تطهير إسرائيل من الغرباء. ونتج عنه بخاصّةٍ حزب الفرّيسيّين المتشدّد، على أيّام يسوع.

هذا الجوّ المشحون دينيًّا، مع واقع إسرائيل الصعب، سيؤدّيان إلى تفعيل فكرة الإنتظار المسيحانيّ بكلّ أبعادها. فالشعب في حاجة ماسّة إلى الخلاص؛ بحاجة إلى بطل يجمعه ويوحّده ويقوده نحو الإنتصار على المحتلّ الرومانيّ وعلى الظلم[4]. من هنا، ستزدهر في أورشليم فرق وأحزاب وتيّارات كلّها تدّعي التحضير للمسيح الآتي. لا بل انّ عددًا وفيرًا من “المسحاء الدجّالين” سيظهر في إسرائيل[5]. كما يُلفت انتباهنا الجماعات الملتزمة بشدّة وصرامة بالتحضير المسيحاني، بخاصّةٍ جماعة قمران الشهيرة التي تركت العالم لتسكن في الصحراء وتعيش الطهارة لتعدّ للمسيح فرقةً تساعده في “حربه” المقبلة. كما يمكننا الاكتشاف أنّ الشعب برمّته كان يعيش نوعًا ما هذا الانتظار: فمعموديّة يوحنّا قبلها الشعب كلّه[6]، ورسالة يسوع لاقت رواجًا كبيرًا بين آلاف الإسرئيليّين[7]، برغم قساوة لهجتها أحيانًا، كما أنّ التيار الفريسيّ انتشر بقوّة في الأوساط الشعبيّة إلى درجة أنّ التلمود يشير إلى أنّ عدّد أعضائه في أورشليم وحدها ناهز 6000 شخص.

تلك التيّارات اليهوديّة رأت في الهيكل الأورشليميّ رمزًا ومقرًّا أساسيًّا لها. كما أمّن هذا الهيكل المورد الماديّ الأكبر لسكّان تلك النواحي القاحلة. فالحجّاج كانوا يأتون من أقطار الأرض الأربعة إلى أورشليم في جميع الأعياد اليهوديّة[8] للعبادة ولتقديم الذبائح. أهل أورشليم اعتاشوا من هذه الحركة، إذ أمّنوا للحجّاج نوعًا من الفنادق لإيوائهم وإطعامهم. كما كانوا يؤمّنون لهم أسواقًا لشراء الحيوانات الطاهرة الصالحة لتقديم الذبائح ومراكز صيرفة لتبديل سائر العملات بعملة الهيكل، التي كانت وحدها مقبولة كتقدمة فيه[9].

هؤلاء الحجّاج كانوا يأتون إمّا من مدن إسرئيل أو من مدن الشتات. ومن الطبيعيّ أنّ أهل أورشليم كانوا يكسبون أكثر من حجّاج الشتات لأنّهم ميسورون، قادرون على صرف الأموال بسخاء. كما أنّ الشريعة فرضت على أهل الشتات ضريبةً للهيكل تساوي نصف شاقل للشخص الواحد. كلّ هذه الأموال كانت تحرّك العجلة الإقتصاديّة في إسرائيل وتسمح لأهلها بالكسب السخيّ[10].

تجدر الإشارة، أخيرًا، إلى أنّ المجتمع الإسرائيليّ، إلى جانب هذا الإتّجاه الفريسيّ، عرف في القرن الميلاديّ الأوّل تطوّرًا لتيّار الكتبة المهتمّ بشرح الشريعة وبتأوينها. وازدهرت تاليًا في أورشليم مدرستان كبيرتان للكتبة وهما، مدرسة هيلّل المنفتحة ومدرسة شمّاي المتشدّدة. قادت هاتان المدرستان الفكر الدينيّ  وأثّرتا على الذهنيّة اليهوديّة، إن في إسرائيل أو حتّى في الشتات.

3- العلاقة بين يهود أورشليم والشتات

من الطبيعيّ أنّ الموقف الأوّل ليهود أورشليم من الشتات كان موقف الإعجاب والتقدير، إذ رأوا في هذا الوجود اليهوديّ في جميع أنحاء الدنيا إنتشارًا للدين اليهوديّ وتحقيقًا لدعوة إسرائيل أن ينشر الإيمان بوحدانيّة الله[11]. حتّى إنّهم رأوا في ذلك الإنتشار بعدًا نهيويًّا مسيحانيًّا؛ بخاصّةٍ في الكتابات الرؤيويّة المنحولة. فأناشيد السبيلاّت مثالاً تتغنى بجمال الديانة اليهوديّة، إذ لا يمكنك أن تمرّ في بلد ما إلاّ وتجد فيه مؤمنين يهودًا. من ناحية أخرى شكّل الشتات ظاهرة اعتزاز قوميّ، إذ أُعجبت أورشليم بالمراكز المرموقة التي وصل إليها يهود الشتات وبمدى تأثيرهم على السياسة والإقتصاد في سائر أنحاء الأمبرطوريّة. كما استفادت من الإعانات التي كان الشتات يقدّمها للهيكل ومن الأموال التي كان الحجّاج يصرفونها في أورشليم.

هذا الموقف الإيجابيّ العام لم يمنع مشاعر الحسد من أن تسود بين الطرفين. فيهود أورشليم كانوا يحسدون الشتات لأنّهم أحسن حالاً وأغنى منهم وأكثر ثقافة منهم. وهذا ما قاد بعض الشتات إلى التعامل بتعالٍ مع يهود إسرائيل. لذلك أخذ يهود أورشليم يتّهمون يهود الشتات بعدم الأمانة للهيكل ولإسرائيل: الشتات تركوا البلد بحثًا عن المال، أي أنّهم باعوا إسرائيل بالمال وفضلّوا الغنى على البقاء في أرض الميعاد[12]. بخاصّةٍ أنّ الله لمّا أقام عهده مع الآباء، إبراهيم واسحق ويعقوب، وعدهم بأن يعطيهم أرض إسرائيل. أي أنّ هذه الأرض هي أرض العهد. وتاليًا، من يعش خارجها لا يعيش العهد بكلّ أبعاده ولا يحقّق كيانه اليهوديّ بشكل تام. من ناحية أخرى، رأى يهود أورشليم أن الشتات لا يتمّمون واجباتهم الدينيّة بشكل كامل، إذ هم يعيشون بعيدًا عن الهيكل وتاليًا لا يتمكنّون من الحج إليه في كلّ عيد كما هو الواجب. إذًا هم يهود ولكن من درجة ثانية، لا كما يهود أرض الميعاد.

4- تأثير هذا النزاع على شاول

شاول هو من طرسوس في تركيا. إذًا هو من يهود الشتات. ويظهر أنّه عانى من شبه عقدة نقص بسبب إحساسه بعدم الأمانة للهيكل. سنرى أنّ طفولته وحداثته ستنطبع بشكل أساسيّ بهذه الأسئلة، يطرحها شاول على نفسه: هل فعلاً أنا خائن لإيماني؟ هل يحبّني الله ويعتبرني يهوديًّا، بكلّ ما للكلمة من معنى؟ كيف يمكنني أن أعوّض عن نقص ابتعادي عن الهيكل؟

من هنا، وكما نعلم، أنّ شاول “ختم الفلسفة اليونانيّة”. فهذا التصرّف لم يكن اعتياديًّا في تلك الأيّام. فالفلسفة كانت تُدرّس على يد معلّم ينتمي إلى أحد التيّارات الفلسفيّة المنتشرة في ايّامها، كالأفلاطونيّة أو الأرسطيّة أو الرواقيّة، إلخ. والتلميذ ينتسب إلى هذا المعلّم الأفلاطونيّ، مثلاً، ويلازمه فترةً من الزمن، فيدرس ويسأل ويستفسر. وفي نهاية هذه الفترة يتخرّج من المدرسة الأفلاطونيّة وينتهي الأمر. فإن كان شاول “ختم الفلسفة اليونانيّة” فهذا يعني أنّه، وبعد أن تخرّج من المدرسة الأولى، عاد وانتسب إلى مدرسة ثانيّة وتخرّج منها فانتقل إلى الثالثة، وهكذا دواليك إلى أن تخرّج من كلّ مدارس عصره، وما أكثرها في تلك الأيّام. هذا الشغف الهائل بالعلم والثقافة يدلّ على مدى رغبة شاول في بناء شخصيّته الناجحة.

ولكنّ، بالرغم من كلّ هذ العلم الذي تمرّس به واكتسبه، نجد أنّ أهل شاول أرسلوه أيضًا إلى أورشليم ليدرس هناك الشريعة اليهوديّة. هذا التصرّف يدل بشكل أساسيّ على مدى تعلّق عائلة شاول بالدين اليهوديّ ومدى إرادتها أن تتقرّب من الهيكل تعويضًا عن النقص السابق.

عند وصول شاول إلى أورشليم، وجد نفسه أمام مدرستين للشريعة، مدرسة شمّاي المتشدّدة ومدرسة هلّل المنفتحة. أختار شاول المدرسة المنفتحة لأنّ ثقافته الفلسفيّة الواسعة لم تتناسب مع القراءة الحرفيّة التي تقيمها مدرسة شمّاي. بل فضّل الأساليب الإستنباطيّة التي تعتمدها مدرسة شمّاي. فدرس “عند قدميْ المعلّم الكبير جمليئيل”[13] تلميذ هلّل، مؤسّس المدرسة. ومن الطبيعيّ، وبسبب دروسه الفلسفيّة المتقدّمة، أنّ شاول برع في علومه الشرعيّة؛ حتّى بدأ أهل أورشليم يتوسّمون فيه معلّمًا مستقبليًّا عظيمًا. وهكذا بدأ شاول يثبت لنفسه ولله والناس أنّه أمين لإيمانه اليهوديّ، وليس خائنًا. وأراد شاول أن يقرن نجاحه الدينيّ بنجاح إجماعيّ سياسيّ، حتّى يجعل من نفسه “المواطن اليهوديّ الصالح”، فما كان منه إلاّ أن انخرط في حزب الفريسيّين، أكبر أحزاب أورشليم وأكثرها انتشارًا. ولكم افتخر شاول بما حقّقه من تقدّم في اليهوديّة، حتّى في رسائله، بعد اهتدائه إلى الدين المسيحيّ: “إنّي مختون في اليوم الثامن، وإنّي من بني إسرائيل، من سبط بنيامين، عبرانيّ من العبرانيّين. أمّا في الشريعة فأنا فرّيسيّ، أمّا في الحميّة فأنا مضطهد الكنيسة، وأمّا في البرّ الذي يُنال بالشريعة فأنا رجل لا لوم عليه” (في 3: 5-6).

بالرغم من نجاحه، بقي شاول ينتظر فرصةً مميّزةً يُثبت فيها مدى ولائه لليهوديّة؛ يثبت فيها أنّه “بطل”. وأتت حادثة قتل إسطفانوس كفرصة سانحة أمامه[14]. إسطفانوس هو، بالنسبة إلى اليهود، “خائن وعدوّ الله”. والشريعة تفرض عليه الحكم بالرجم. وهذا الحكم بحاجة إلى من يتحمّل، نوعًا ما، مسؤوليّته، بأن “يحفظ ثياب المحكوم عليه”. وافق شاول على القيام بهذا الدور، إذ، بقتل الخائن، سيظهر هو على أنّه “أمين ومدافع عن الله”. بموت إسطفانوس لم يعد شاول خائنًا. بل، لا بدّ أنّ موقفه هذا نال حظوةً واستحسانًا لدى أهل أورشليم: شاول شجاع، شاول بطل، شاول مثال اليهوديّ الصالح، شاول حبيب الله.

وهكذا، بعد أن أثلج النجاح صدر شاول، سيستمرّ هذا الشاب بتكرار “عمليّة إسطفانوس”، مرّات ومرّات: “أمّا شاول فكان لم يزل ينفث تهديدًا وقتلاً على تلاميذ الربّ” (أع 9: 1)؛ لدرجة أنّه “لمّا انتهى من أورشليم” رغب في إكمال هذه المسيرة في خارج المدينة، في مدن الشتات، من حيث أتى. سيتّجه تاليًا إلى دمشق، أولى العواصم الكبرى في دنيا الشتات؛ وكأني به متّجه رويدًا رويدًا بُغية تطهير طرسوس، مسقط رأس وموطن والديه.

من الملفت للنظر ما يخبرنا به أعمال الرسل عن شاول، إذ يقول: “فتقدّم (شاول) إلى رئيس الكهنة  وطلب منه رسائل إلى دمشق إلى الجماعات حتّى إذا وجد أناسًا في الطّريق رجالاً أو نساءً يسوقهم موثقين إلى أورشليم” (أع 9: 1-2). أوّلاً نجد أنّ علاقة شاول وصلت الآن إلى رئيس الكهنة. إذًا، توصّل هذا الشاب إلى احتلال مركز مرموق في المجتمع الأورشليميّ، كما كان يحلم. من ناحية أخرى، يطلب رسائل إلى جماعات دمشق، إذ يريد أن يعطي مهمّته صفةً رسميّةً؛ لم يعد شاول مجرّد مؤمن مدافع عن دينه، بل أصبح الآن المحامي الرسميّ عن الدين، في “أورشليم وسائر المشرق”. وأكثر ما يُلفت نظري فكرة أنّه يريد “سوق المسيحيّين موثقين إلى أورشليم”. ففي الحالات الإعتياديّة، يتوقّع القارئ أن يقتل شاول الخونة الموجودين في دمشق، لا أن يسوقهم إلى أورشليم. ما أراده شاول هو أن يقيم استعراضًا أورشليميًّا لنجاحاته. ما يريده هو أن يُثبت لليهود أنّه صالح؛ لا أن يقتل المسيحيّين[15]. ولقد أشار بولس نفسه مرارًا في رسائله إلى مدى تعلّقه بالدين اليهوديّ. أشير بشكل خاص إلى ما قاله في رسالته إلى أهل غلاطية: “فقد سمعتم بسيرتي الماضية في ملّة اليهود إذ كنت أضطهد كنيسة الله غاية الإضطهاد وأحاول تدميرها وأتقدّم في ملّة اليهود كثيرًا من أترابي من بني قومي فأفوقهم حميّةً على سنن آبائي” (غل 1: 13-14).

ولقد أُعجب رئيس الكهنة جدًّا بهذا المشروع، حتّى إنّه لم يكتفِ بإعطاء الرسائل المطلوبة لشاول بل أعطاه أيضًا فرقةً من الحرس[16]. أصبح شاول قائدًا عظيمًا. من المؤكّد أنّ المشاعر كانت تتدفّق في قلب شاول، فملأه زهوًا وافتخارًا وحماسةً دينيّةً ما بعدها حماسة. ولمّا اقترب من دمشق، ارتفع ضغط الحماسة في قلب شاول إلى أعلى مستوياته: ها إنّني أقترب من الهدف المنشود، من تحقيق الحلم. ها إنّني أتلمّس بيديّ مواضع القداسة إذ أدافع عن ربّي، إذ أخدمه لا كما خدمه الآخرون، إذ أفتح له الفتح المُبين.

وها الربّ نفسه يأتي إلى ملاقاة شاول: “فبغتةً أبرق حوله نور من السّماء” (أع 9: 3). هو الله. لم يشكّ شاول لحظةً بشخصيّة ذلك القادم؛ فهو يعرف من التوراة والأسفار المقدّسة أنّ الله لطالما ظهر لشعبه على هيئة نور. لموسى، ظهر الله بالعليقة المحترقة[17]. وسار مع شعبه 40 سنةً في عمود النار. و نزل على محرقة إيليّا بنار آكلة[18]. ويؤكّد بولس نفسه معرفته بشخص القادم إليه، إذ يسقط إلى الأرض ساجدًا أمامه. وهذا هو الموقف الطبيعيّ للمؤمن أمام الظهور الإلهيّ[19].

ماذا يتوقّع شاول الآن؟ إنّه بالطبع ينتظر المديح من الله والثناء عليه وعلى حميّته وعلى إيمانه ونشاطه وحبّه لله وللدين. وبالفعل، يفتح الله فمه ليكلّم شاول: “وسمع صوتًا قائلاً له: شاول شاول” (أع 9: 4). نعم يا ربّ. تكلّم يا ربّ فإنّ عبدك الأمين يسمع ويطيع. وتأتي الكارثة. سؤال كالصاعقة: “لماذا تضطهدني؟”. يفقد شاول صوابه؛ هو الذي أفنى عمره للتقرّب من الله ولاكتساب مرضاته وليظهر لكلّ اليهود أنّه الأمين “محبّ الله”. يأتي الله بذاته الآن ليتّهمه، أو بالأحرى ليحكم عليه: إنّك “مضطهد الله”. عانى شاول طوال حياته من إحساسه بالبعد عن الله وعن هيكله، فما هو إحساسه إذا ما اكتشف أنّه يضطهد الله؟ والأدهى أنّ الربّ لم يلمه لأنّه “يضطهد المسيحيّين” وهو ذاهب ليعتقلهم. لا، هو يضطهد الله نفسه. الله العليّ السرمديّ يجعل نفسه مسيحيًّا. ولكنّ دراسة الشريعة أفهمت شاول أنّ المسيحيّ هو عدوّ الله! هل المسيحيّ هو الله أم هو عدوّ الله؟ ضاعت كلّ مفاهيم شاول. لذلك يسأل: “من أنت يا ربّ ؟” (أع 9: 5).

تكمن قداسة شاول في هذا السؤال. شخص عاديّ في مكانه. وأمام صدمة هائلة كالتي تلقّاها شاول كان من البديهيّ أن ينهار أو أن يثور أو على الأقلّ أن يفقد عزيمته وينطوي في أذيال الخيبة والحسرة. أمّا شاول، فرغم كلّ الألم الذي كان يعتصر قلبه، قبل أن يعود إلى الصفّ الأوّل في مدرسة “معرفة الله”: “من أنت يا ربّ ؟”. إنّه السؤال الأوّل في كتاب التعليم الدينيّ. يتّخذ شاول موقف الطفل بين يديْ الله. يقبل أن يتخلّى عن كلّ علومه السابقة، الفلسفيّة منها والشرعيّة. يتخلّى أيضًا عن مركزه كمعلّم في إسرائيل وكقائد يملك الحقّ والحقيقة.

لو لم يكن شاول مغرمًا بالله لما تمكّن من أن يُحرز هذه القفزة النوعيّة في حياته. حبّ الله المتّقد في قلبه شكّل له الضمانة الوحيدة من الإنهيار. كم هو جميل موقف شاول إذ يقول لله: أنا أحبّك أكثر من الفلسفة والشريعة والفريسيّة والقيادة، أنا أحبّك أكثر من كلّ شيء. ومستعدّ أن أتخلّى عن كلّ شيء بغية أن أتعرّف إلى وجهك الكريم. فها أنا ساجد بين يديك ورأسي مطمور في التراب وكلّ ما أترجّاه منك أن تقول لي “من أنت يا ربّ ؟”.

ويأتي الجواب هائلاً على بساطته؛ كلمة واحدة لا غير: “أنا يسوع”. لكنّها كلمة تشفي من كلّ علّة. كلمة تتدفّق بكلّ معرفة. هذه الكلمة، قد تظهر مجرّد “اسم علم” في عينيّ الجاهل. أمّا لشاول فهي اللاهوت كلّه. شاول الذي أمضى حياته في الدرس والبحث والتمحيص قادر على فهم سرّ هذا الإعلان المسيحانيّ: “أنا يسوع”. وسيتفاعل مع هذا الإعلان على مستويين:

  • إذا كان من يكلمّني هو يسوع؛ وهو أيضًا الله، لأنّه نور. إذًا يسوع هو الله. وما يبشّر به الرسل قائلين أنّ يسوع هو ابن الله هو أمر حقيقيّ. من ناحية أخرى، إن كان يسوع ابن الله فالله حقًا قد تجسّد، لأنّ اليهود رأوا يسوع الإنسان وعاشوا معه. هذه الكلمة البسيطة “أنا يسوع” أفهمت شخصًا عالمًا كشاول كلّ سرّ التجسّد.
  • وأيضًا، إذا كان المتكلّم معي هو يسوع، فهو إذًا حيّ. ولكنّ اليهود صلبوه وقبروه ودفنوه ووضعوا حرّاسًا على قبره. إذا كان حيًّا فالرسل إذًا لم يسرقوه، كما يدّعي رؤساء اليهود. إذا كان يسوع المصلوب حيًّا فهو حتمًا قام، قام من بين الأموات، حقًا قام. كلمة واحدة “يسوع”، أدخلت شاول في عمق سرّ القيامة والخلاص.

“أنا يسوع” أقوى من كلّ كتب الكتبة ومن تعاليم الفريسيّين ومن قرارات السنهدرين وإدّعاءات رؤساء الكهنة. يسوع هو المعلّم الأسمى. إنّه المعلّم الإلهيّ.

ولكن مع عظمة هذا التعليم وسموّه، يعود يسوع ليؤكّد الحقيقة المرّة: “أنا يسوع الذي أنت تضطهده” (أع 9: 5). كم هو عظيم خجل شاول. إنّه يشتهي أن تنشقّ الأرض وتبتلعه.

وها كلمة الخلاص تأتي. أمام هذا الإنكسار الشاوليّ، يُكمل المعلّم الإلهيّ رحمته العظمى ويقول له: “قم” (أع 9: 6). كلمة أخرى هائلة تحمل ملء الخلاص. إنّها القيامة؛ بفعل أمر “قم”. يقول له: يا شاول لم آتِ إلى أبواب دمشق لأذلّك أو أضربك أو أقتصّ منك. أتيت لأخلّصك ولأرفعك من الضلال الذي أنت فيه. وإن أظهرت لك خطيئتك العظيمة: أنّك تضطهد الله، فذلك لأن أخلّصك منها. قم يا شاول، أنا هو الربّ إلهك الذي مات من أجلك ليقيمك من بين الاموات.

تبدأ الآن مسيرة تربويّة تقود شاول صوب عيش الإيمان: “قم وادخل المدينة”. لا تراجع مع الله بل سير دائم إلى الأمام، مهما كانت العقبات والأخطاء. لا ترجع مخذولاً إلى أورشليم بل اذهب وحقّق انتصارك في دمشق؛ لكنّه انتصار من نوع آخر، إنتصار المسيحيّ.

وهكذا يبدأ هذا الإنتصار: “فيُقال لك ماذا ينبغي أن تفعل”. شاول، معلّم الشريعة، الذي كان دومًا يُسأل فيجيب، عليه الآن أن يسأل هو فيتعلّم من أولئك الذين كان عازمًا القضاء عليهم. إذًا، أوّل شرط للمسيحيّ هو أن يتّخذ موقف التلميذ؛ مهما كان علمه ومهما بلغت درايته، فأمام عظمة سرّ المسيح هو تلميذ، لا بلّ تلميذ صغير. وأجمل ما في الأمر أنّ يسوع سيرسل “حننيا” ليعلّم شاول. من هو حننيا؟ لا نعلم؛ ولا ذكر له مجدّدًا لا في الكتاب المقدّس. ليس من الرسل ولا من أوائل المؤمنين. رجل مغمور؛ إلاّ أنّه مغمور أيضًا بالنعمة الإلهيّة، وهذا هو الأهمّ. تتلمذ شاول على يديْ مؤمن صغير. فالروح القدس الحالّ فينا بواسطة العماد هو يتكلّم في كلّ منّا؛ وهو الذي “يُفهمنا كلّ شيء”، كما قال لنا المعلّم قبل صعوده إلى السماء[20].

كما يقدّم يسوع درسًا رائعًا عن التسامح المسيحيّ: أولئك الذين ذاقوا الموت من يديْ شاول هم من سيقدّمون له كأس الحياة. هذه هي الكنيسة، سفينة الخلاص لكلّ البشر. و”السماء تفرح بخاطئ واحد يتوب أكثر من التسعة والتسعين الأبرار”[21].

خاتمة

شاول إبن بيئته. تأثر بكلّ عناصرها وتفاعل معها. أحبّ أهل الشتات فأراد أن يطهّرهم. وأحبّ أورشليم فتكرّس للدفاع عن هيكلها. أحبّ الله فبحث عنه في كلّ مكان، حتّى لو كان رأسه مغروسًا في تراب أبواب دمشق. وهكذا أحبّ يسوع فبنى له الكنائس تلو الكنائس وتوّجها بأن يُقطع رأسه المرفوع بعزّة يسوع القائم من الموت.

علّمتني خبرة شاول أن من يحبّ الله لا يخشى الزلل. فما من خطيئة أعظم من “اضطهاد الله”. ولكن، لم يتخلَّ الله عن قلب شاول المحبّ، بل آثره بحبّ أعظم من حبّه وبقوّة فاقت كلّ الحدود.

وتعلّمت أيضًا أن العلم والفكر هما الأرضيّة الأصلح للإيمان. فلو لم يكن شاول على هذا المقدار من الثقافة لما فهم الرسالة الموّجهة إليه. وها هو النصّ يؤكّد أنّ ظهور يسوع لم يكن أمرًا فرديًّا اختصّ به شاول من دون سواه، بل نجد أن الجنود المرافقين له هم أيضًا عاشوا هذا الإختبار، إلاّ أنّهم لم يفهموا شيئًا: “أمّا الرجال المسافرون معه فوقفوا صامتين يسمعون الصوت ولا ينظرون أحدًا” (أع 9: 7). سمعوا ولم يعوا؛ لأنّ قلوبهم كانت مغلقة.

وأنا أيضًا، اليوم وكلّ يوم، يأتي الربّ معلنًا لي سرّ الخلاص، قائلاً: “أنا يسوع”. ولكن مرارًا عديدةً لا أسمع ولا أرى ولا أفهم. لأنّ قلبي مشغول عنه بأمور كثيرة، والمطلوب واحد. “ها أنذا واقف على الباب أقرع، فمن يفتح أدخل إلى بيته وأتعشّى عنده”[22].

 

 

 

 

 

 

 

لائحة المراجع

– الفغالي بولس، بولس الرسول بعد ألفيّ سنة، دراسات بيبليّة 36، الرابطة الكتابيّة، بيروت 2008، 7-52.

– BEER M., “Babylonian Judaism”, in ABD, CdR.

– BETZ H.D., “ Paul (person), in ABD, CdR.

– BORGEN P., “Judaism in Egypt”, in ABD, CdR.

– FRAADE S.D., “Palestinian Judaism”, in ABD, CdR.

– “Galout”, in WIGODER G., Dictionnaire encyclopédique du judaïsme, Cerf ­ Robert Laffont, Paris 1996, 383-385.

– KUNG H., Ebraismo, passato presente futuro, Biblioteca Universal Rizzoli, Milano 1999, 119-139.

– LOHSE E., L’ambiente del Nuovo Testamento, Paideia, Brescia 19932, 112-152.

– Michel QUESNEL – Philippe GRUSON, La Bible et sa culture, Jésus et le Nouveau Testament, II, Desclée de Brouwer, Paris, 2000, 159 – 185.

– OVERMAN J.A. – SCOTT W., “Judaism in the Greco-roman period”, in ABD, CdR.

[1] لم يسبِ البابليّون العامّة من الناس، بل أفراد الطبقات العليا وحدهم. هدف السبي هو إفراغ البلد المهزوم من القيادات، حتّى لا يتمكّن من النهوض ثانيةً. أمّا سبي العامّة فكان سيشكّل عبئًا ماديًّا كبيرًا على البلد السابي؛ من أجل إطعام هؤلاء الفقراء.

[2] والدليل على ذلك ما قاله يومًا قادة اليهود لموفد سنحاريب الأشوريّ: “كلّم عبيدك باللغة الآراميّة، فإنّنا نفهمها” (2مل 18: 26).

[3] إلى جانب الإمبرطوريّة الفرعونيّة طبعًا.

[4] يذكر التلمود وجود زهاء 360 حزب وفرقة في أورشليم في تلك الفترة.

[5] وقد حذّر يسوع نفسه منهم مرارًا. راجع مثلاً مت 24: 23؛ مر 13: 21.

[6] راجع لو 3: 21.

[7] راجع مثلاً يو 6: 1-14.

[8] راجع أع 2: 9-11.

[9] نجد ذكرًا لهذه الحركة التجاريّة المزدهرة في خبر “طرد الباعة من الهيكل”. راجع مت 21: 12-17.

[10] من هنا نفهم صدمة اليهود عندما أعلن يسوع أنّه سيهدم الهيكل؛ راجع مت 26: 60. ومن الواضح أنّهم لم يفهموا قصده من هذا الكلام.

[11] تجدر الإشارة إلى أنّ عددًا وفيرًا من اليونانيّين ومن الشعوب الأخرى كانوا يدخلون في الديانة اليهوديّة وكانوا يسمّون “نيوفيتي”، أي المؤمنون الجدد.

[12] وكما أشرنا سابقًا، رأى يهود أورشليم أن رفض الشتات العودة إلى إسرائيل أدّى إلى إضعاف الدولة لدرجة أنّهم لم يتمكّنوا أبدًا من إعادة بناء المملكة الداوديّة.

[13] راجع أع 22: 3.

[14] راجع أع 7: 54-60.

[15] أنا أعتقد أنّ اضطهاد المسيحيّين، بالنسبة إلى شاول، كان الوسيلة ولم يكن الهدف.

[16] راجع أع 9: 7.

[17] راجع خر 3: 2.

[18] راجع 1 مل 18: 38.

[19] راجع مثلاً يش 5: 14؛ مت 4: 9؛ 1 قو 14: 25، إلخ.

[20] راجع أع 1: 4-8.

[21] راجع مت 19: 13.

[22] راجع رؤ 3: 20.