القراءات في رتبة الزواج

الخوري أنطوان عساف

إن كانت أسرار الكنيسة علامات حسيّة تحمل حقيقة غير حسيّة هي الخلاص بالمسيح، فكلمة الله في كل رتب الأسرار هي العلامة الثابتة والحسيّة ـ المسموعة بامتياز. العلامات الأخرى التي تغني الاحتفال تبقى في حاجة إلى هذه الكلمة حتى “تُمسحِنها” وتصوّب معانيها. إن كلمات الصلوات والترانيم ـ السليمة منها ـ تحمل طبعًا كلمة الله، لكنها هي أيضًا تحتاج إلى كتب العهد الجديد لتكمّلها وتوضّحها. فهذه الأخيرة هي الموحى بها، وتبقى السبيل الأول والأساس لقبول كلمة الله الحيّ، يسوع المسيح، القائم من الموت والذي يلتقيني هنا والآن ليخلّصني.

أية قراءة نختار ؟ في رتبة الزواج الجديدة ثلاثة نصوص من الرسائل وثلاثة أخرى من الأناجيل؛ إلا أن مقدمة الرتبة تسمح بانتقاء قراءات أخرى وفق المناسبات. كيف نقرأ ؟ أي كيف نفسّر ؟ هل الكلام على العريس هو كلام على الزواج ؟ الإجابة عن هذه الأسئلة التمهيديّة ضروريّة، يمكننا بعدها أن نقرأ معًا بعض النصوص النموذجيّة.

أوّلاً ـ أيّــة قــراءات ؟

تقول مقدمة الرّتبة : “أُثبتت القراءات التي تعطي المعنى الكامل لسرّ الزواج، وهو سرّ المحبة بين الرجل والمرأة، كما هو سرّ المحبّة بين المسيح والكنيسة. وتُرك المجال لاختيار قراءات أخرى من العهد الجديد، بحسب المناسبة.”

ما هو “المعنى الكامل لسرّ الزواج” ؟ كيف يمكننا الوصول إلى المعنى الكامل ؟ ما من تحديد يمكنه أن يعطي الملء ! كلّ الأقوال، حتى البيبليّة، مقاربة للحقيقة التي تفوق كل ما هو مكتوب. لذلك يعمل الشرّاح عادةً على موازاة نصوص عدّة ومقاربتها في آن معًا، للولوج إلى السرّ  بشكل سليم. وهو يبقى، رغم كلّ ذلك، أبعد من كلّ حرف وقول. إن كان المقصود أن “المعنى الكامل” هو سرّ المحبة بين المسيح والكنيسة، فسرّ المحبة هذا هو حقيقة كلّ الأسرار، بل حقيقة كلّ الإيمان المسيحي. وتاليًا هو أعمق وأوسع من كلّ زواج، فهو من جهة حاضر أيضًا في الكهنوت وبطريقة مختلفة في الافخارستيا مثلاً. ومن الجهة الثانية، إنّ في كلّ زواج أبعادًا أخرى مسيحيّة نرى صعوبة في استقائها من علاقة المسيح بالكنيسة. فعطية المسيح، المبادر مجّانًا صوب الكنيسة، لا تشبه العلاقة المتبادلة والمتساوية بين الرجل والمرأة؛ كما أنّ خروج الكنيسة أسراريًّا من جنب المسيح لا يعني خروج المرأة من جنب زوجها، بالرغم ممّا يقوله سفر التكوين. بعبارة أخرى أنا أتبنّى ما سبق لأحد الزملاء أن قاله في هذا المؤتمر، وهو أن العهد الجديد لا يتناول أبعاد سرّ الزواج كلّها. وهذا في رأيي أمر بديهيّ.

أيّة قراءات إذًا ؟ هناك نصوص تعالج موضوع الزواج مباشرة. وهذا ما فهمه جيدًا التقليد المارونيّ. ففي الرتبة السابقة قراءتان لا غير. الأولى من أفسس 5 والثانية من متى 19، نعود إليهما فيما بعد بشكل موسّع. لكن هل يجب حصر القراءات بالتي تتناول موضوع الزواج ؟ إن مفاهيم كثيرة في الإيمان المسيحيّ تساعد الزوجين على العيش كما يريد الرب: الغفران سبعين مرّة سبع مرّات، كان كل شيء بينهم مشتركًا، كلما اجتمع اثنان يكون المسيح الثالث بينهما، ما من حبّ أعظم من أن يبذل الإنسان نفسه في سبيل أحبّائه، أثبتوا فيّ لتثمروا ويبقى ثمركم، ليكون فرحكم كاملاً، الرجل العاقل يبني بيته على الصخر، السهر والاستعداد لأنّ الآتي لا يكون دومًا في الحسبان، … نرى بعضًا من هذا التوجّه في الرتبة الجديدة وقد أغنيت ببعض القراءات عن المحبّة، إضافة إلى نصّ عرس قانا الجليل، لكنّ تفسير هذا الأخير في حاجة ماسة إلى توضيح !

ثانيًا ـ كيــف نقــرأ ؟

لا أتحدّث هنا عن طريقة الإلقاء وهي أمر مهمّ، فهي لا تخضع لتقنيّات العالم والمهنة وحسب، بل لأسس لاهوتية أيضًا. ما أقصده هنا هو التفسير، أي كيف نفهم ما نقرأه. المثال الأفضل الذي يقودنا هو نصّ عرس قانا الجليل. أيتكلّم على الزّواج أم على المسيح والزمن المسيحاني والساعة التي فيها يتجلّى مجد يسوع ؟ قد يرتبط هذا النص بالزواج لكن بطريقة غير مباشرة. فقبل الكلام السريع والمتسرّع على العرس والزواج وعلى حضور المسيح فيه مع أمّه مريم، يمكننا أولاً الإشارة مثلاً إلى أنّه مع المسيح ابتدأ زمن الفيض، الأجرار الكبيرة المملوءة، وذلك بنعمة حضور المسيح بيننا، هذا هو العرس الحقيقيّ، الله يسكن وسط شعبه. وهوذا العريس الحقيقيّ، ابن الله. أمّا العريس الآخر فكان آخر من يعلم ! هل كان المسيح يبارك بحضوره زواج العروسين، وكل العرائس ؟ هل هو هنا لإنقاذهما من “جرصة” نفاد الخمر ؟ الحمد لله أنّ أمّ يسوع كانت حاضرة وأنّها، كونها أمّ العائلة، لفتت نظر ابنها إلى حاجة أولادها… وإلاّ لبقي الناس من دون خمرة، وهل يمكن أن يكون الزواج صحيحًا من دون خمر ! ألا يرتبط هذا النص بالأحرى بآلام يسوع وبالإفخارستيا ؟ تقودنا هذه الآية الأولى إلى قمة الإنجيل، ومن هناك، من أعلى الصليب ومن الإفخارستيا، نعود إلى كلّ الحياة المسيحيّة وإلى كلّ الأسرار ومنها سرّ الزواج، وحينها كم تكون قراءتنا سليمة وغنية.

ما أريد قوله هو أن لا حاجة بنا لأن نرى في كلّ الأناجيل تعليمًا عن سرّ الزواج بحصر المعنى. يزخر إيماننا بمقوّمات تساعد المؤمن كي ينمو في كلّ حالاته، ومنها الزواج. تؤمّ احتفالاتنا جموع من الناس لا نراهم في أيّام الآحاد. أتراها مناسبة نستغلّها لنذكّر الناس بغنى إيماننا، علّنا نسمح لإلهنا بأن يغويهم من جديد ؟ من دون أن ننسى طبعًا أن لغة الصليب ستبقى عثرة وحماقة في عيون كثيرين من أبناء هذا الدّهر. والزواج المسيحيّ ليس بغريب عن هذه الحماقة، بل هو لها خير شاهد.

ثالثًا ـ “أيتها النساء اخضعن لأزواجكن” (أف 5/ 18 – 33)

هذا النص “الكلاسيكي” لرتبة الزواج المارونية جرى تصحيحه في الرتبة الجديدة. كان الشماس يبدأ القراءة من الآية 22 معلنًا للنساء أنّ عليهنّ الخضوع لرجالهنّ كما للربّ ! وتلقّى القديس بولس نتيجة ذلك تهمًا واعتراضات لا تُحصى. وممّا لا شكّ فيه أن الشرّاح والوعّاظ كانت لهم مسؤولية كبيرة في تفسير أقلّ ما يقال فيه أنّه ذكوريّ. أمّا في الرتبة الجديدة فالنص يبدأ من الآية 18 ليقول في الآية 21 ما هو أشبه بعنوان للنص : ليخضع بعضكم لبعض بمخافة المسيح.

يعطي الكاتب في هذا الموضع من الرسالة قواعد بيتيّة، بين الأزواج، بين الأهل وبنيهم، بين الأسياد والعبيد. وحين يتكلّم على الأزواج يطلب الخضوع المتبادل. يكتب منذ حوالي ألفي سنة طالبًا ما يرفضه بعض رجال عصرنا. أي ثورة على العادات ! هو يقول في موضع آخر إنّ في المسيح خلقًا جديدًا، فلا فرق بين يهوديّ ويونانيّ، وبين عبد وحرّ. يقول إذًا بأن نخضع بعضنا لبعض بمخافة المسيح. ثم يشرح : أيّتها النساء اخضعن لأزواجكنّ كما للربّ. لكنّه حين يصل إلى الرجال لا يقول اخضعوا لنسائكنّ، وهذا أمر ما كان ليكون مقبولاً أبدًا، فعيب الرجال الخاضعين كان ليقع أيضًا على النساء المتسلّطات. لذلك يلجأ الكاتب إلى كلمة أخرى تعبّر بطريقة أخرى وبقوّة عن معنى الخضوع : أيّها الرجال أحبّوا نساءكم كما المسيح أحبّ كنيسته وبذل نفسه من أجلها. يذكّرنا هذا بفيليبي 2/ 3 : “فليتواضع كلّ واحد منكم ويعتبر غيره أفضل منه”.

يهدف النص أيضًا إلى أبعد من ذلك. هو يترك الأخلاق البيتيّة بين الرجل والمرأة ليتكلّم على علاقة المسيح بالكنيسة، ليس على سبيل الاستطراد، بل هو يستعين بعلاقة الزوجين الّلذين يصيران جسدًا واحدًا ليشرح علاقة المسيح بالكنيسة، “لأننا أعضاء جسده من لحمه وعظامه”. فيصبح اتّحاد الزوجين صورة لاتّحاد المسيح بالكنيسة. ثم يستعين بالرّباط الثاني ليشرح الأول. لا يشبه الرجل المسيح، ولا تشبه المرأة الكنيسة، بل إنّ ارتباط المسيح بالكنيسة يشبه ارتباط الرجل بالمرأة. فكلاهما من أبناء الكنيسة وقد ارتبط فيهما المسيح، اتحادًا نهائيًا. كيف لهما أن يعيشا الحبّ الحقيقي إن لم يعرفا أن الله أحبّهما أوّلاً.

“إن هذا السرّ لعظيم”. السرّ في رسائل بولس هو سرّ تدبير الله لأجل خلاص البشر، الذي كان مكتومًا قبل الدهور، والذي كُشف لنا في الأزمنة الأخيرة. يسمو هنا الكلام لينقلنا النص إلى أعلى قممه. فاتّحاد المسيح بالكنيسة جسده، والذي يغذّي ارتباط الرجل بالمرأة هو تجلٍّ لهذا السرّ العظيم.

رابعًا ـ “لأجل ذلك يترك الرجل أباه وأمّه ويتّحد بامرأته” (متى 19/ 3 – 6 وأف 5/ 31)

لقد عولجت نواحٍ عدّة من النص خلال هذا المؤتمر، لذلك أكتفي بالتعليق على هذه العبارة الغنية من دون سواها.

الزواج واجب على الإنسان تجاه والديه، فهو بذلك يعطيهما ذرّية. لا يترك الرجل أباه وأمّه بل على العكس هو يتزوج لأجلهما؛ إلاّ أنّ سفر التكوين يعطي صورة مغايرة، فهو يدعو الرجل إلى أن يلزم امرأته تاركًا والديه. الزواج في نظر قصة الخلق هو للمرافقة والاتّحاد بين الرجل والمرأة قبل أن يكون لأجل الذريّة. يصبحان زوجًا وزوجة قبل ان يكونا والدين، وبعد أن يكون قد تمّ انفصالهما عن عائلتيهما.

الربّ يسوع والرسول بولس يذكّران بقول سفر التكوين، وهما لا يلمّحان إلى الأولاد، ويوصيان بترك الأهل. فعندما يُسأل يسوع عن الزواج لا يستشهد بـ”إنميا واكثرا” بل بـ”يترك الرجل أباه وأمّه”. هذه الأولويّة المعطاة للزوجين على حساب العائلة، للحب المتبادل على حساب إنجاب الأولاد، سيكون لها تأثير كبير فيما بعد. تكفي الإشارة إلى أنّ الأزواج الذين لا يرزقون أولادًا يبقى زواجهم قائمًا وقيّمًا؛ كما الإشارة إلى أنّ الكنيسة دافعت عن الخيار الحرّ في الزواج، وأوصت ببطلان كلّ زواج يتمّ تحت الإكراه، حتى من الأهل.

الزواج هو إذًا خروج وترك، والكلمتان متجذّرتان في اختبارات شعب الله. يترك الإنسان حين يتخلّى عمّا هو محبَّب إلى قلبه. ترك ابراهيم أرضه وعشيرته لينتقل إلى الأرض التي يريه الربّ إيّاها. وخرج الشعب من مصر ليدخل إلى أرض الموعد. والرجل إذ يترك أباه وأمّه إنّما يترك عاداته وانتظاراته ليدخل في موعد مع الربّ متّحدًا بامرأته. عادة يترك الإنسان حينما ينضج، وترك الأهل علامة لهذا النضج. إلاّ أن الكتاب لا يوصي بالتخلّي عن الأهل لأجل حريّة الفرد وقوّة شخصيّته، بل لإدخاله في مشروع حبّ واتحاد، وبهذا يكتمل نضجه. ولكي يلتقي حقيقةً امرأته، عليه أن يتخلّى عن صور المرأة التي رآها في منزل والديه. يخبر علماء النفس كم إنّ صورة الأمّ تؤثّر في اختيار الرجل لزوجته. الزوجة كائن حرّ جديد، جدّته يكتشفها الرجل بفعل الحبّ حتى الاتّحاد، تاركًا ما يعيقه.

خلاصــة

إن هذا السرّ لعظيم ! كلّ محبّ مولود من الله ويعرف الله. إن الربّ لا يدعونا عبيدًا لأن العبد لا يعلم ما يعمل سيّده، هو دعانا إلى معرفته بابنه الذي أحبّنا وبروحه الذي يدفعنا لكيّ نحبّ ونولد من جديد. المحبّة الحقيقية تتطلّب أيضًا التخلّي. أن نترك أشكال المحبّة الناقصة لندخل في سرّ المحبة التي من الله. إن لكلمة الله دورًا حاسمًا في هذه الدعوة المدهشة. ينعم الله علينا بكلمته رفيقًا لنا وهاديًا. نسمعها ونعلنها. ندرسها من دون خوف، نستقي منها ونعلّمها، لا كأساتذة أسياد، بل كخدّام من خزف، لتكون الحياة الذين يعطينا الله أن نخدم إيمانهم وحياتهم.