روحانيّة القدّيس بولس بحسب الرسائل

الأب جورج خوّام البولسيّ

تقوم الروحانيّة على أساس ثوابت دينيّة عليا، ترسخ عميقًا في النفس وتستحوذ عليها، ثمّ تعمل في حياة المرء عمل البوصلة في توجيه المراكب والطائرات، متوسّلة الفضائل بأنواعها. أمّا في حالة القدّيس بولس فيمكننا تلمّس روحانيّته هذه من خلال محطّات ثـلاث:

 أ- ركيزة الروحانيّة البولسيّة؛

 ب- سماتها؛

ج- متطلّباتها.

إنّها محطّات كشف عن “المُفاعل”، الذي يوقد حياة مفعمة غيرة على خدمة الله وإرضائه.

  1. ركيزة الروحانيّة البولسيّة

لم يُقبِل القدّيس بولس على كتابة اللاهوت قبل أن يغوص في بحر الله الواسع، ويكتشفه بالاختبار المتروّي. والكلام على ركيزة الروحانيّة يتقدّم، بطبيعة الحال، على بناء اللاهوت، لاحتوائه، بدون شكّ، منابت كلّ تعليم، وعقيدة، وحجاج، يمكنه أن يصدر عن صاحبه؛ لا هذا وحسب، بل يتولّى مقاليد النصح، والتوجيه، والتشريع، والدعوة، والريادة أيضًا، أي توجب الحاجة إليه البدء به، قبل الخوض في أيّ ميدان آخر من ميادين الفكر والكلام.

  1. 1. البغتة الروحيّة (في 12:3ب)

يتكلّم بولس، في هذا الموضع من الرسالة، على ما يختصّ به، دون سواه من الناس، يقول: “… إنّما أواصل السعي، لعلّي أدرك المسيح يسوع، لأنّه هو قد أدركني“. من الواضح، في هذه الكلمات، أنّ ما يتعلّق بالسعي، الذي يبدي بولس عزمه الثابت على حمل رايته باستمرار، يحثّه عليه أنّ “المسيح يسوع قد أدرك” بولس نفسه، أوّلاً، وأنّ الغاية المرجوّة من متابعة السعي هي ترجيع صدى لصوت دوّى ذات يوم في قلب بولس، ولما يزلْ صُداحه يتردّد في جنبات حياته كلّها.

اختبر بولس بوعي ما أدعوه “البغتة الروحيّة”: لقد فوجئ بعظمة الواقع، الذي تمثّل في شخص يسوع المسيح، وخُلِب ذهنه بما أتاح له اختباره من البلوغ إلى قمم الوحي الإلهيّ. ليس سوى الفجأةِ من دافع على استفاقة الوعي في الإنسان، إذ إنّها إقحام واقع لم يعتَدْه هذا الأخير في واقع حياته، بحيث إنّ معاني الواقع تنكشف بغتة، مطلّة على مدارك الإنسان. لم يكن في وسع بولس، الفريسيّ تنشئة وممارسة، والغيور على دين الآباء جبلة ومراسًا، أن تراود عقله فكرة “الالتقاء” بالربّ؛ ذلك أنّه هيهاتِ للبريّة من أن تمثل في حضرة الباري، وحذارِ حذارِ أن تدنو أقلّ شبر منه، لعظمة جلاله، وخساسة قدرها! لا، ما من إمكان التقاء البتّة، بل ما من شبه اتّصال بين الاثنين، إذ إنّ السعي المتواصل حال البريّة، فيما حال الباري الخلود إلى وضع الاستقرار والترقّب. في مثل هذه القناعات كان عقل بولس يمخر، وإيمانه يترسّخ، وغيرته تتأجّج محامية عمّا نُقِل إليها، وتساؤلاته عن السبيل إلى نيل رضى الله تزداد حيرة، ونفسه تقلق في أمر إنجاز ما لا يقوى عليه بشر، في شأن أحكام الشريعة.

تتردّد مخاطبة يسوع المضطهدَ الكبير، شاول، بدون تحريف، في الروايات الثلاث، التي ينقلها إلينا لوقا الإنجيليّ: “شاول، شاول، لمَ تضطهدني؟” (أع 4:9؛ 7:22؛ 14:26). لم يفكّر بولس يومًا، في قرارة نفسه، أنّ الذي يعترض على مسعاه سوف يعترض خطواته، وهو يوشك على إنجازه ما دبّر له مدّة طويلة! كان ظنّه ثابتًا في صواب ما يعتقده، ويجاهد بما أوتي من عزم وطاقة في سبيله. وإذا الحقيقة غير ما يحسب، بل هي على طرف نقيض ممّا يتصوّر. لم يتخيّل أنّ الربّ يمكنه أن يلتقيه، حيثما وطّن النفس أنّه هو من يرضيه، ويلتقي مشيئته! باغته الإله في قرارة نفسه، فقلب ثوابته الواهمة داخله! وفاجأه على مدخل دمشق، ففجعه، لمّا بدّد اعتداده وصلف نفسه. لم يبقَ لبولس من شاول حتى أناه، عندما التقاه الربّ، وجندله، على طريق دمشق. فقد جميع ما بناه على أساس الشرع، وكسب ما لم يحلم به، على أساس الإيمان بيسوع المسيح. وحدث هذا كلّه بفضل المباغتة، التي باغته بها الربّ، وعلى أثر قبوله الانقلاب، الذي أحدثته فيه، على مستويات عديدة.

  1. 2. البذرة الروحيّة (رو 38:8-39)

كانت المباغتة، التي تعرّض لها بولس على طريق دمشق، انقلابًا روحيًّا، بالنسبة إليه، بدّد فيه كلّ وهم توهّمه، في موضوع العبادة، وكلّ فهم فهمه أيضًا، في ما يتعلّق بهويّة الله. أتاه الاهتداء نعمة، فأذهلته مبادرة الربّ يسوع، الذي أظهر له ظلامته وضياعه، وأرست في نفسه مصباحًا لا ينطفئ، منه يغرف الدفق والنور، حتى يضيء زوايا المعرفة الحقيقيّة، والعلم الصحيح، والكلام على حكمة الله، وتدبيره الخلاصيّ. فإن كان ثمّة معجزة، في حادثة دمشق، من الجدير، إذًا، تفحُّص فعلها في الصدمة، التي وقعت لبولس هنالك، حتى جعلته ينادي: “…لأنّه هو أدركني…“. لم يقوَ عقل بولس على تحمّل وقع الظاهرة عليه لشدّة حقيقتها، ولم يمكن إدراكه استيعاب أَلَق الحقيقة، التي طرقت أفهامه، لشدّة صدق الرؤية. عرف أمرًا واحدًا لا غير، وهو أنّ الحقّ كلّ الحقّ قابع في شخص الربّ يسوع، الذي اختطّ لنفسه الحبّ منهجًا، كاشفًا به عن المنهج الإلهيّ، حتى يتمّ في ذاته ما أخبرت عنه التوراة، ونبّه إليه الأنبياء، ودعت إليه حكمة الآباء، في ما يتعلّق بمصير الشعب بخاصّة، والجنس البشريّ بعامّة. إلتقط، في برهة وجيزة، ومضة معرفة سماويّة، نزعت عن رتاج فهمه مغاليق الحجر الاشتراعيّ، أو حُجُب التفطّن للسرّ السرمديّ.

على قاعدة الانبهار هذا يرتفع صرح الروحانيّة البولسيّة، شامخًا بذروته، أبيًّا، فخورًا بندائه: “من يفصلنا عن محبّة المسيح؟” (رو 35:8). ليس في وسع أيّ من الروحانيّات، مهما تنوّعت، وتباينت، وسَمَتْ، وتعدّدت، أن تبرز بوجهها السموح الصادق، أو أن تنتثر بعَرف طريقها، العابق بشذا النفحة الإلهيّة، إذا لم يأخذ بمجامع فؤاد أصحابها هيام، ليس منه بشيء هيام العشّاق. على النفس أن تتلظّى أوّلاً، حتى تبثّ ما اندلع فيها من لهيب؛ وعلى العقل أن يُصعَق، وأن يُباغَت في جحره، حتى يبدع إن هذا. أمّا الروحانيّة فتتبع من ثمّ أمانة وإخلاصًا، إصرارًا وتشبّثًا، إغراقًا وإغداقًا، قناعة ومناعة، على كرّ الأيام وفرّها، وفي الرغد والهناء، كما في الضيق والعناء.

ومن الجدير بالتنويه به أنّ تعداد العوائق، التي يبسطها الواقع على محبّي الربّ، المتشبّثين بصداقته، يشتمل على الأشخاص الحافزين عليها؛ فالكلام على الشدّة، أم الضيق، أم الاضطهاد، مثلاً، الذي يورده بولس مورد العراقيل المحتملة، إنّما يعني، إذًا، الناهضين بها، المسبّبين لحصولها. فالشدّة، من جهة، تعني الأناس، الذين انقطعت بهم سبل النجاة والرجاء، المحبَطين على أثر تفاقم الرزايا التي نزلت بهم؛ وبولس أحد أولئك أيضًا؛ والضيق والاضطهاد، من جهة أخرى، يعنيان الأشخاص، الذين يحفزون غيرهم على العيش في خوف من انقضاض مفاجئ عليهم، وفي توجّس من شرّ متطاير قد يذهب بهم. إنّ أولئك المتجبّرين المتكبّرين المتسلّطين، الذين لا خوف لديهم من قدرة علويّة، لا يحوزون ­ في عيني بولس ­ من القوّة ما يردعه عن محبّة المسيح. وبتعبير آخر، لا يهاب بولس بأس المهوِّلين عليه، المهدّدين إيّاه، بالموت، ولا ترتعد له فريصة أمام صولاتهم، إذ إنّ حبّ المسيح أقوى فيه على زمجرة وعيدهم.

تجعل الروحانيّة البولسيّة من الإعجاب بشخص السيّد المسيح، ومن الحبّ المكنون له، ركيزتين أساسيّتين لها. في الأولى، أي الإعجاب، تحتفظ لها بوصال يغذوها على الدوام، حتى لا تفتر أو تتقاعس؛ وفي الثانية، الحبّ المكنون به للربّ يسوع، تخفق استعدادات، وبذلاً لا ينضب. من جرى الإعجاب، استطاع بولس التحليق في الكلام على ما أنجزه الله على يدي الربّ يسوع؛ ومن جرى الحبّ فاض تحريضًا، وتعليمًا، وتقريعًا، على مقتضى الحاجة والظرف. من أجل هذا، ترتسم الروحانيّة وراء ستار اللاهوت، وتكمن خلف حجاب التشريع؛ ولكنّها ليست ذاك ولا هذا. وتحتجب في عبّ العرض، الذي يفترش الرسائل، وفي قلب الحلول، التي تتناول المشكلات، من غير أن تُرصَد في خطاب دون آخر، أو أن تغيب عن ساح رؤية، ومخرج، واقتراح. تبرز جليّة للقارئ فيُحِسّ بها، عند مطالعته رسائل القدّيس بولس، وتتوارى عن محاولة حصرها في كذا أو كذا من التعابير، عند القيام بتحديدها. لذا، يغدو ملحًّا أمر البحث عن سماتها كروحانيّة تمتاز بها رسائل هذا الرجل العظيم.

  1. سمات الروحانيّة البولسيّة

يجدر بنا الكشف عن الوجوه المختلفة، التي تتبدّى من خلالها الروحانيّة البولسيّة، كأنّها مبادئ لا يرى القدّيس بولس بدًّا من الالتزام بها، حتى يتمّ خدمته، على نحو لائق بالذي دعاه، وجنّده، وأرسله كي يحمل اسمه بين الأمم، وقواعد مسلكيّة يحضّ المؤمنين على مراعاتها، وحفظها، كي يجلّوا دعوتهم، عارفين ما المجد الذي يسعون لأجل نيله.

  1. 1. في ميدان الرسالة

يوجز القدّيس بولس الخطّة الرسوليّة، التي رسمها لنفسه، منذ أن أخذ على عاتقه الانطلاق إلى الأمم، من أجل التبشير باسم يسوع، فيقول: “إذ كنت حرًّا من الجميع، عبّدت نفسي للجميع، لكي أربح الأكثرين” (1كو 19:9). الغاية التي يتطلّع إليها القدّيس بولس: “… لكي أربح الأكثرين“، هي ما يجب علينا الوقوف عنده بشيء من التأمّل.

يلاحَظ، أوّلاً، في هذا الهدف، عدم موازاته الوسيلة المستخدمة من أجل تحقيقه، من حيث الكمّ والتوقّع: إنّ الاستثمار ـ إذا استوى لنا الكلام بلغة الربح ـ يعظم جدًّا المحصِّلةَ المتوخّاة، بحيث إنّه يسوغ الكلام على عمليّة خاسرة. مَن مِن الناس يرغب في خوض عمل خاسر منطقيًّا؟ يستثمر بولس خضوعه للجميع، ولكنّه يجني من فعله هذا ربحًا، لا قِبَل له بأن يشمل جميع من عبّد نفسه لهم. هناك فريق من الأشخاص يستفيد من مغامرة بولس، من غير أن يردّ عليه بالمقابل ثوابًا ما. إنّ الأكثرين، ممّن يرمق الرسول كسبهم بجهد لاهث، جلُّ ما يتطلّع إليه، وغاية ما يخطّط له، ومنتهى ما يودّه؛ وهو يبذل في سبيلهم، وفي سبيل الحصول عليهم، ثمنًا باهظًا، إذ إنّه يرضى أن يكون عبدًا لدى الجميع، وأن يقبل بتأدية خدمته إيّاهم قبولاً مجانيًّا، طارحًا دونه اعتبار نفسه. ما هو أكيد رَهْنُه نفسَه لخدمة الجميع؛ أمّا جنى ذلك فقدر جزئيّ، ونصيب يسير.

وممّا تمكن ملاحظته، ثانيًا، في الهدف المنشود وجهته: إنّ هذه مصوَّبة حصرًا نحو الإنجيل (18:9)، بحيث إنّ بولس يخرج صفر اليدين، لو تكلّمنا ثانية كلام تجارة، لدى تمام العمليّة. يبذل نفسه حتّى يجني ما لا ينتفع به. ليس إطار قولنا هذا الثواب الذي تصيبه نفس بولس، بعد أن تعود إلى جابلها، بل هو حدود النفس المباشرة، عند قيامها بعمليّة البذل. يجعلها بولس في خدمة الجميع، كي يفيدوا ممّا تقدّمه لهم، على مختلف الأصعدة: المعرفيّة والحياتيّة والروحيّة والعائليّة، إذ يجنون لأنفسهم ربحًا تعب بولس في تأمينه لهم، من غير أن ينال قسطًا من جرى ذلك كلّه لنفسه، لا على مستوى المعرفة، ولا الحياة، ولا العائلة. أمّا على المستوى الروحيّ فإنّ ثمرة أتعابه عظيمة عظيمة، ولا قياس لها!

يمكن ملاحظة أمر ثالث في الهدف، الذي يبتنيه بولس لدعوته كمبشّر بالإنجيل. إنّ مجرّد التفكير في العمل مع الناس، بقصد ربحهم إلى الإنجيل، ينطوي على مخاطرة جسيمة، لما يكمن في مثل هذا المشروع من إعداد مضنٍ، وكفاءة مقدام، وجهوزيّة صامدة، وثقة راسخة، وروحانيّة لا تنضب. لا ينبغي قطّ الحطّ من قدر سموّ الهدف المروم، بالاستخفاف بمتطلّباته، أو ببخس البذل المرصود له حقَّه من الاعتبار. ليس ربح الأكثرين هدفًا للتغنّي به، على مسامع أهل كورنثس، بل هو تحدٍّ شريف، تجدر به مجابهة الصعوبات، بصلابة وإيمان. ومن يثبّته مرمى لحياته يعرف كم يفرض عليه من تضحيات ومعاناة، ومن عمل دؤوب، وكدّ جادّ ورصين. ليس ربح الأكثرين وطرًا مثيرًا، حتّى يرغب فيه كلّ مبتغٍ متحمّس، وكلّ داعية ذي نخوة وغيرة، إذ إنّه يفرض على الآخذ به جملة من الفضائل، وحشدًا جمًّا من الخصال الحميدة.

لقد عرفت الحقبة التي عمل فيها بولس نشاطًا “رسوليًّا” محمومًا، كان يقوم به دعاة من اليهود. فنهض فريق من المتهوّدين، ممّن أخذت الدعوة المسيحيّة بمجامع قلوبهم، وأحكم الولاءُ للناموس القبضَ على عواطفهم، حتّى حال دون انحرافهم عنه قيد حرف واحد. لم ينقصهم من الجدّ والغيرة ما لدى بولس؛ ولم تضعف حججهم مقابل حجج بولس، حتى استطاعوا أن يجتذبوا إليهم العديدين، ممّن كانوا قد ساروا على طريقته. في 2كو 5:4، يلجأ بولس إلى نزاهة المبشّر، وإلى إخلاصه في العمل، حتى يدحض مزاعم أولئك، ويعتق الدعوة المسيحيّة من إسار التبعيّة اليهوديّة، ومن وصايتها المتجبّرة عليها، يقول: “لأنّا لا نكرز بأنفسنا، بل بالمسيح يسوع، الربّ. أمّا نحن فعبيد لكم، من أجل يسوع”. إنّ الروحانيّة، التي تنبعث من هذه الكلمات، تردّد صدى ما فاه به بولس في 1كو 19:9؛ ولكنّها تضيف عليها ما يناسب الظرف الجديد، الذي طرأ على الجماعة في كورنثس، بعد تسلّمها الخطاب السابق (1كو): “لا نكرز بأنفسنا”.

تتطلّب الكرازة باسم يسوع، إذًا، النهوض بثلاثة أعباء، والاستقامة في الاضطلاع بها: تعليم فحوى الإيمان، على حسب ما انجلى منه في ظهور الربّ يسوع على الأرض؛ والتجنّد التامّ للقيام بذلك في كلّ وسط؛ والتجرّد الكامل، الذي لا يبغي منفعة. في هذه الثلاثة تكمن روحانيّة القدّيس بولس في ميدان الرسالة.

  1. 2. مبدأ العلاقة الأخويّة 

من سمات الروحانيّة البولسيّة، كذلك، العلاقة المتبادلة بين الأعضاء المنتمين إلى الفريق المسيحيّ، الذين يحيون على وفق الإيمان الواحد عينه. فما سبق يسوع إلى رسمه، وتوصية رسله به، في شأن المحبّة، التي يجب عليهم أن يتبادلوها في ما بينهم (يو 17:15)، يدعو بولس الرومانيّين، كذلك، إلى التمسّك به (رو 10:12أ)، كما حضّ غيرهم، من قبلُ (1كو 14:16؛ أف 2:5؛ كول 14:3 إلخ)، على الأمر نفسه. ولكنّه يبادر إلى إضافة إرشاد عمليّ، على فريضة المحبّة، في رو 10:12ب: “… وليحسب كلّ واحد الآخرين خيرًا منه”. ليس منظور التفضيل على الذات بلفتة عابرة عند بولس، ما دام يدعو إليه أيضًا في رسالته إلى أهل فيليبّي (4:2). وليس مبعثُه روحانيّةَ المحبّة الأخويّة حسب اليهوديّة، التي تمرّس في تطبيق مبادئها؛ وإنّما اختراق روحيّ عبر به إلى سرّ الله، وإطلالة على اكتناه عمله تعالى، الذي عمله بواسطة الابن.

في رو 32:8، يقول: “هو الذي لم يُشفِق على ابنه الخاصّ، بل أسلمه عنّا جميعًا…”، أي أنّ الله لم يكن ليشفق علينا نحن أيضًا، وأنّه كان ليرضى عن أن نُسلَم للموت؛ ولكنّه تعالى سلك بحسب مبدإٍ آخر، إذ جعل ابنه، وحيده، يموت بدلاً عنّا، مظهرًا بذلك الحظوة المحفوظة لنا عنده، وإيثاره الجليل لنا مقابل ابنه، خاصّته. لقد حسب الله، إذًا، الآخرين جميعًا خيرًا منه، لا لحلية فيهم، أو فضيلة، أو اعتبار ما ـ ها هو يقول أيضًا في 8:5: “وأمّا الله فقد برهن على محبّته لنا بأنّ المسيح قد مات عنّا ونحن بعد خطأة” ـ وإنّما لفرط محبّته، القائمة على بذل الذات. لقد فقه بولس سياسة الله، حُسْن تدبّره أمر الكون وما فيه، واستبطن حكمته الخلاصيّة، التي استجلى حقيقتها لدى الأنبياء، وفي تاريخ الآباء، فأخذ بها على نحوه. عرف أنّ قصد الله لا أن يهلك الإنسان، بل أن يحيا؛ وأيقن أنّ عظمة الله تتجلّى لنا في شخص يسوع المسيح، صورة الله، من حيث إنّه “أخذ صورة عبد، وصار طائعًا حتى الموت، بل موت الصليب” (في 7:2-8). فالتجسّد، إذًا، وحده تعبير عن التدبير الاستثنائيّ والأزليّ، الذي كشف عنه الله ذاته، عندما أرسل ابنه يسوع إلى العالم، لأنّ في التجسّد اعتبارًا للإنسان، وفيه رحمة به مذ قبل أن يأثم، وغاية ثابتة لم يُقدِم الله على التفكير بها بعد زلّة آدم وحوّاء.

حمل اكتشاف بولس هذا السرّ في شخص يسوع على المناداة بالمبدإ الإلهيّ، الذي أعطى الخلاص مجراه إلى التاريخ. لقد تمكّن من مشاهدة الخطّة، التي يسير بها تحقيق الوعود، وتيقّن من نجاحها، وصدق منطوقها. فلم يتوانَ عن السير بموجبها، أوّلاً، ولم يبطئ في حثّ المؤمنين، ثانيًا، على الأخذ بها. عندما اضطرّ إلى الدفاع عن بعثه رسولاً لدى الأمم، أمام جماعة كورنثس، أضاف على حججه مقياس الودّ الذي يكنّه للكنائس، يقول: “من يضعف ولا أضعف أنا!” (2كو 29:11). وعندما كتب إلى الغلاطيّين مؤنّبًا ومعاتبًا، لم يخفِ عنهم غيرته المتّقدة عليهم، فذكّرهم كيف جاءهم يبشّر بالإنجيل: “وأنتم تعلمون أني بجسد عليل بشّرتكم بالإنجيل للمرّة الأولى” (غل 13:4). لا يعبأ بنفسه، وهو يرفل في القيود، قابعًا في السجن، عندما يبلغه أنّ منافسين له في البشارة قد تنفّسوا الصعداء، لعلمهم بما انتهت إليه الأمور بشأنه، وراحوا يكرزون على هواهم، في وسط جماعة فيليبي، فيقول: “حسبي أنّ المسيح يُبَشَّر به، على كلّ وجه” في 18:1). لم يُقِم بولس، في هذه الحالات كلّها، اعتبارًا لنفسه، أوّلاً؛ بل جعل اهتمامه ينصبّ على جماعة المؤمنين، لكونه رسولاً. لم يثقّل على أحد منهم (2كو 9:11؛ 1تس 7:2)، ولم يُبالِ بإهانة، أو بغبن لحق به (2كو 5:2)؛ وإنّما سلك حياته كلّها، جاعلاً نصب عينيه المبدأ الذي اكتشفه في قصد الله الخلاصيّ: “… ليَحسِبْ كلّ واحد الآخرين خيرًا منه”.

حشد بولس في مديح المحبّة الجوانب العمليّة، التي ينطوي عليها هذا المبدأ الإلهيّ، فبيّن بذلك للمؤمنين الطريق التي تؤدّي إلى الحياة المسيحيّة (1كو 4:13-7). ما لا ريبة فيه البتّة أنّ المحبّة لا تعرف سبيلاً غير الآخر إلى القيام بذاتها: فليس من محبّة بمعزل عن الآخر، ولا من كلام عليها بدونه. وما لا ريبة فيه البتّة، أيضًا، أنّ المحبّة فعل ذو شقّين: الواحد إقبال على الآخر، والآخر ردع الذات عنه. ما من فعل آخر، ينشئ به المرء علاقة مع صنوه، لا يندرج في هذا الشقّ، أو ذاك؛ حتى الفكر والقصد فعلان يخضعان لهذه المعادلة. ولكنّ الشقّين كليهما معًا، رغم تنافرهما، يلتقيان حول “خير الآخر”. وما لا ريبة فيه البتّة، أخيرًا، أنّ المحبّة تسود، وأنّها تعود بسيادتها رخاء وازدهارًا على مناصريها. حينما تنحسر المحبّة يتفتّت الجمع، ويضعف التآزر، فيرتدّ أثر ذلك شرًّا على كلّ فريق. من يأخذ بالودّ يلقَه في متناول يده، ومن يضمر الشرّ لأخيه لا يلبث أن يجد نفسه فيه. هذا ما عرفه بولس حقّ المعرفة، وما نادى به في كلّ خطاب، وحضّ عليه، موقنًا أنّ فيه سلامة الجماعة.

  1. 3. الدرب الآمنة

للروحانيّة البولسيّة، أيضًا، فلسفتها. ليست روحانيّة القدّيس بولس تهجّدًا، تستسلم فيه النفس إلى توق نحو العليّ؛ لا، ليست هي ذات لون تأمليّ، يغلب عليها؛ بل تمتاز من سائر الروحانيّات بطابعها الرسوليّ الدفّاق، وبحزمة من الصيغ التمهيديّة، التي تنمّ عن إعجاب مذهل، وعن افتخار ظاهر بالإنجازات الإلهيّة. ومن شأن الراغب في استجلاء معالمها أن يحتاط معرفة برؤيتها المنهجيّة، وأن يقف على تطلّعاتها.

يمدّنا قول القدّيس بولس إنّ “معرفة المسيح يسوع” ربح عنده، حتى إنّه ليعدّ دونه كلّ شيء “خسرانًا”، و”قذارة” (في 8:3)، بالنهج المبدئيّ، الذي يبني عليه الرسول مجمل عمله وحياته. لقد اعتبر القدّيس بولس، منذ اللحظة التي التقاه فيها الربّ على طريق دمشق، صداقة يسوع فوق كلّ اعتبار آخر، والإخلاص له واجبًا ثابتًا. أتى الحدثُ بولسَ بآية خارقة على مستويين: مستوى تاريخيّ، ومستوى علويّ، حاملاً له معه كشفًا جليًّا، حتى إنّ الحقيقة المرتهنة بالواقع الأرضيّ والحياة الأبديّة أمست ناصعة بملئها، مكشوفة له بتفاصيلها. على المستوى التاريخيّ، بات يدرك أنّ الفوارق والامتيازات والشعوب غير ذات قيمة مثلى، وأنّ التشبّث بها والدفاع عنها لا يجديان صاحبهما، أمام تجسّد ابن الله في قلب الأحداث، التي تؤلّف التاريخ. لئن كان لهذا قوام ذو معنى فالفضل يرجع لحدث محوريّ فيه: مجيء ابن الله في الجسد، الذي أضاء على سائر الأحداث بسناء مجده، بحيث إنّ كلّ شيء آخر يستمدّ موقعه في التاريخ، ويمحض التاريخ أيضًا معناه، بالقدر الذي يسطع فيه من ينبوع المجد، المنبجس من شخص الربّ يسوع.

في الرسالة إلى أهل غلاطية، يؤكّد بولس هذا بعينه، يقول: “ليس بعد يهوديّ ولا يونانيّ، ليس عبد ولا حرّ، ليس ذكر وأنثى، لأنّكم جميعًا واحد في المسيح يسوع” (غل 28:3). وفي الخطاب، الذي بعثه إلى المسيحيّين المقيمين في أفسس، يأتي بكلام على “شعبين” أمسيا شعبًا واحدًا، يسود السلام والمصالحة بينهما، بفضل الصليب (أف 14:2-16). ومثل ذلك أيضًا نجده في الرسالة إلى الرومانيّين، على دفعات متكرّرة: “… اليهود واليونانيّون جميعًا هم تحت سلطان الخطيئة” (9:3)؛ “برّ الله بالإيمان بيسوع المسيح إلى جميع الذين يومنون، إذ ليس من فرق” (22:3)؛ “لا فرق بين اليهوديّ واليونانيّ” (12:10) إلخ. أمّا في الرسالة إلى أهل كولوسي، فيرقى إلى الاختلافات السائدة في العالم غير المنظور، كي يعلن زوالها: “إذ فيه خُلِق جميع ما في السماوات وعلى الأرض، ما يرى وما لا يُرى، عروشًا كان، أم سيادات، أم رئاسات، أم سلاطين…” (كو 16:1). إنّ تشديد الرسول على تلميذه تيموثاوس في الرسالتين اللتين بعث بهما إليه، حتى يعمل على الإعراض عن المماحكات الكلاميّة، يندرج أيضًا ضمن هذه الرؤية الروحيّة، ويهدف إلى توجيه الجهود نحو شخص الربّ يسوع المسيح.

تؤلّف “معرفة المسيح يسوع” دربًا طويلة، في حياة القدّيس بولس، تمتدّ امتدادها، لا حدثًا مرتبطًا بظروف راهنة؛ وبمعنى آخر، يعتبر القدّيس بولس معرفته بالمسيح يسوع شرعة، أو منشورًا، أو مطالعة أيضًا، لا يزال المعنيّ بها يتقلّب في نقاطها غرفًا، واستفادة لحياته، ونموًّا، لا مجرّد فعل يطّلع به المرء على شخص الربّ يسوع، ثمّ يمضي في سبيله. أضِفْ إلى هذا أنّ القدّيس بولس يحسب كلّ جهد آخر سواها نافلاً، بل يعرب أيضًا عن جهوزيّته، للتخلّي عن أيّ مكسب قد يرده من مصدر آخر، غير المعرفة الملمّة بشخص الربّ يسوع. ففي هذه المعرفة، تنحصر الدرب الآمنة إلى ثراء الشخص، وسعادته الحقيقيّة، واحتلاله موقعه الصحيح، بالنسبة إلى الربّ، والعالم، ونفسه. ليس الثراء ما ملكت اليدان من قدرات على الابتياع، بل المحافظة عليه، عندما لا تقوى اليدان على الاتّجار بما تملكانه. وما السعادة إسرافًا في الحصول على ما تبغيه النفس، بل هي في الرضى عمّا تؤول إليه حالها، بعد حصولها عليه. أمّا الموقع، الذي يجب على كلّ ذي نفس حيّة أن يصبو إليه بجوارحه كلّها، فيكمن في السكنى حيث لا فناء، وفي جوار من لا يشكوه، لأنّ المواقع الأخرى كلّها لا يأمن المرء ارتيادها، من دون نزال، أو مماحكة، أو حماية يُدفَع ثمنها.

  1. 4. التحدّي المستمرّ

من سمات الروحانيّة البولسيّة، أخيرًا، واقعيّة التحدّي، التي يبرزها بولس إبرازًا جليًّا في عبارته الشهيرة: “إن كنّا نحيا بالروح، فلنسلكنّ أيضًا بحسب الروح” (غل 25:5). لا يخفى على أحد ما في هذه الكلمات من طابع المجابهة ومن دعوة إلى الصدق مع الذات، أوّلاً، والحقيقة المطلقة، ثانيًا، وتعليم الربّ، ثالثًا، في شأن الملكوت. كذلك، ليس خفيًّا على أحد صدى العلاقة الوثقى بين ترويض الذات على نمط مسلكيّ يسمو على النمط العفويّ، والطبيعيّ، من جهة، والمعرفة المبنيّة على الحياة بالروح، من جهة مقابلة.

عرف بولس مباشرة نزاعًا حادًّا، عندما توجّب عليه الانتقال من روحانيّة الناموس إلى روحانيّة البرّ، الذي بالمسيح يسوع. تملي الأولى على المؤمن السعي بجهد مضنٍ وراء الفريضة، وتملأ عقله وقلبه وفكره وأحكامه بإلزاميّة التطبيق، والتقيّد برسوم الشريعة؛ لم تُتِح روحانيّة الناموس لبولس وسواه أن “يحيوا بالروح”، وأن ينعموا بفرح العيش، الذي أسبغه الله على خلائقه؛ بل أمسى العيش ثقلاً يرزحون تحت عبئه، وغاب الانشراح عن ساحته. أمّا روحانيّة البرّ فتغدق على المؤمن جوًّا من الحبور، والثقة، ومحبّة الحياة، جوًّا ينثر في رحابه فداءُ الربّ نسيم الحظوة والامتياز، وعَرْف التكريم والودّ، ممّا حصل عليه المؤمن بفعل افتداء الربّ إيّاه. فالمؤمن الذي يحيا، عارفًا ما حباه الله من شرف ومودّة، وموقنًا أمر المحبّة التي اختصّه بها، لا يرتمي من بعد في شراك الحساب الذي ينتظره، وكأنّه سيف مسلول فوق رأسه. ولا يتخبّط من بعد، كذلك، في حبال الإفتاء والتيسير المواربة، بل ينطلق وكلّه شغف، لكي ينشد للربّ بعظائمه، ويسعى وكلّه جذل حتى يذيع إحسانات الربّ العظيمة لدى كلّ نفس، متجشّمًا بفرح مشاكسات المشاكسين، ومرتضيًا بحبور مناوأة الأعداء.

نجد، في ثنايا الإرشادات، التي يودعها بولس تلميذه تيموثاوس، حثّه إيّاه بإصرار على تنمية عقد من المواهب فيه، لكي يكون “مثالاً للمؤمنين” (1تيم 12:4ي). فهو يضعه، في حثّه هذا، أمام عِظَم المسؤوليّة المناطة به، من جهة، ويوقظ فيه على هذا المنوال وعيه وفطنته معًا، كي يبقي أبواب عقله وذهنه مشرعة أمام مواهب الروح القدس، ومهيّأة حتى تنفذ منها إلى كامل كيانه، وينبّهه في الوقت نفسه، من جهة أخرى، لوظيفته الرسوليّة ودوره فيها كأسقف، عليه أن يسهر على وديعة الإيمان سليمة نقيّة. إنّ موقف بولس هذا سمة أخرى من سمات روحانيّته، يمتاز بتعبئة النفس، وبحفظها في وضع اليقظة، حتى تبقى على أهبة الاستعداد للعمل بجدّ، مقدّمًا لها أن تتجاوز بنجاح تحدّي العقبات، التي قد تنشأ في وجهها، آتية إمّا من ضعفها، وإمّا من أعباء الرسالة الثقيلة، الملقاة على كاهلها. وفي الواقع، متى أخلدت الذات إلى الراحة، معرضة عن الجهاد والتحدّي والرقابة، أوشكت أن تعثر، وكأنّ الاستسلام إلى الرخاء يرمي بها في أحضان الإهمال والضلال. فما أضرّ بالمرء من كفّه عن تحدّي ذاته، بعد أن تطمئنّ إلى بلوغها مرحلة متقدّمة من الشأن والمنـزلة؛ وما أدلّ على الترقّي في معارج الكمال من إبقائها في حالة الجهاد، ضدّ عيوب وتخاذلات جمّة تعترضها في بحر الحياة.

  1. متطلّبات الروحانيّة البولسيّة

بعدما استطلعنا محور الروحانيّة البولسيّة، واستكشفنا سماتها الرئيسيّة، يجدر بنا أن نختم هذا العرض بإثارة السؤال حول التربة، حيث يمكن مثل هذه الروحانيّة أن تجد لها حيّزًا مناسبًا لانطلاقتها، وموئلاً جديرًا بأعباء النهوض بها. إنّ الأخذ بالروحانيّة البولسيّة متطلّب، والتحلّي بها مستوجب شروطًا؛ ومن عقد العزم على العمل بموجبها حَسُن به أن يدرك أوّلاً ما لديه من طاقات، لكي يعدل في اختياره بين قراره، من جهة، ونهج الرائد الأوّل، من جهة أخرى؛ ذلك بأنّ الادّعاء بالبولسيّة، في الحقيقة، مرمى بعيد، ومنال عسير، من حيث هو اختيار في الحياة.

  1. 1. التجنّد للشهادة

ليست فكرة التجنّد غريبة، أوّلاً، عن سجلّ النفسيّة البولسيّة ومفرداتها؛ ولا الشهادة أيضًا، ثانيًا. إنّ ورودهما في الرسائل الرعويّة يغلب، ويبرز للعيان؛ غير أنّهما لا يندران في سائر الرسائل. على كلّ حال، يعكس كلّ منهما شخصيّة هذا الرسول، ويفسّر، في الوقت نفسه، غلبة التيّار الذي يمثّله، في قلب الكنيسة الناشئة.

إنّ ما يورده بولس، في 1كو 25:9، يلخّص بوضوح ما نسعى إلى لفت الانتباه إليه، يقول: “كلّ مجاهد يضبط نفسه في كلّ شيء: أمّا أولئك فلينالوا إكليلاً يفنى، وأمّا نحن فإكليلاً لا يفنى”. إنّ الجهاد، بنوعيه الجسديّ والروحيّ، مرتكز على فريضة لا بديل عنها، هي السيطرة على الذات، في كلّ جانب؛ لا هذا وحسب، بل في كلّ حين أيضًا. هذا ما يجب علينا أن نأخذ به، عند تفسيرنا “كلّ شيء”، في قول بولس. فالعبارة تعني سيطرة المجاهد على ذاته، من حيث إنّه كائن اجتماعيّ، يتلقّى من المحيط الذي يحيا فيه التبدّلات المختلفة، والأحداث المفاجئة. وفي كلّ منها، وعند بروز أيّ منها، على حين غفلة، ينبري لها بجهوزيّته الساهرة.

وعند الكلام على السيطرة على الذات، لا بدّ لنا أيضًا من إضافة تفاصيل تشتمل عليها هذه الملكة، المكتسبة بالتزام جانب الفضيلة. أوّل هذه التفاصيل، بالطبع، الذات نفسها: بحدودها، واستعداداتها، وخصالها، وطبائعها، وميولها، ونقائصها، وتطلّعاتها. من لا يعرف ذاته بدقائقها ـ وهو ذلك الشخص، الذي لا يجرؤ على معرفة نفسه خجلاً (!)، أو من يرتدّ عن معرفتها متى ردّه إليها حكيم راشد ـ من لا يعرف ذاته، إذًا، بدقائقها تخاذلاً، لا يقدر بالطبع المبادرة إلى السيطرة عليها! كيف له ذلك، عندما يقف خصوصًا أمام ذوات مباينة له؟ إن تناغمت هذه مع ما فيه منها، وكانت في تناغمها مضلّة وتائهة، جذبته إليها طبيعيًّا. ومن ثمّ، فليس هو مسيطرًا آن إذٍ على ذاته! وإن افترضنا، بالعكس، أنّها متباعدة ومتنافرة مع ما يوجد فيه منها، وكانت هي على صواب، ناصبها العداء والجفاء، وانقلب عليها وهو يكيل لها اللوم والقدح. ومن ثمّ، يظهر ثانية كفاقد اللبّ، عاجز عن السيطرة على ذاته. لا، ليس في وسع من يجهل ذاته، إذًا، أن يطمح إلى امتلاك نفسه؛ بل العكس هو ما يستوي قوله فيه: إنّه بحاجة إلى من يحرّره من ذاته!

ثاني هذه التفاصيل، في موضوع السيطرة على الذات، طواعيّتها، أي سخاؤها في التنازل، وهرعها إلى معانقة المثال، واقتناعها بضرورة ذلك، لما فيه منفعتها، وخير الجماعة، وواجب الضمير. ذلك أنّ ذات الإنسان مركَّب منشعب إلى مكوّنات عدّة، منها الوراثيّ، والطبعيّ، والاجتماعيّ، والثقافيّ، والخلقيّ، والدينيّ، والقيميّ، والفطريّ. تمارس هذه المكوّنات على الذات ضغطًا متفاوت الأثر، وتؤلّف عبئًا على التزاماتها، وحاجزًا أيضًا يصعب تجاوزه، عندما تريد أن تحدث تغييرًا. ما لم تَنْفُذ إليها قوّة الفضيلة، وتَرْفُدها نِعَم السماء بالمثابرة على الجهاد، وتَعْضُدها الصلوات، لا يتيسّر للذات البشريّة أن تقوى على ما يكبّلها من قيود مختلفة، ولا يتاح لها أن تسيطر على ما تتألّف منه. إنّ وسيلتها إلى الانعتاق ممّا يأسرها ألاّ تنغلق على نفسها؛ وهذا يعني ألاّ تعاند في الاستمرار على ما ترتاح إليه، تلقائيًّا. كذلك، خير متّكل يمكن الذات أن تعوّل عليه، حتى تبقي سيطرتها على نفسها، عدم انشغافها بها نفسها؛ وهذا يعني ميلها إلى الإطراء، الذي تستجديه بطرق مختلفة، أو الإعجاب، الذي تبحث بشتّى الطرق عن إحلاله في تقدير الآخرين. فمن ألدّ أعداء الذات غرورها؛ ومن أشدّ الحواجز، التي تأسرها في داخلها، تعنّتها؛ ومن أوثق السبل، حتى تفقد السيطرة على نفسها، انكفاؤها المتواتر عن التبديل. أمّا أكثر المسارات ضررًا لها فأن تسعى في خطب ودّ الآخرين، عسى تجد نفسها ثمّة!

يردّد كلام بولس في 2تي 4:2 صدى هذه المعاني، إذ يهيب بتلميذه تيموثاوس ألاّ “يرتبك في شؤون الحياة”. والارتباك، باليونانيّة، التورّط، الذي يؤدّي بصاحبه إلى فقدان سبيل العيش بهدوء وطمأنينة. إنّ من يقحم نفسه في اعتبارات دنيويّة، ولا يعبأ إلاّ لمهمّات شرفيّة، سرعان ما يجد نفسه يخطّط على مقتضى الناس، بل يولي أيضًا وقته كلّه استنباط المسالك، التي سوف تبلغه مراميه من المراتب العليا، والكرامة، والتوتير. بيد أنّ هذا لا يتّفق، بحسب بولس، مع التجنّد للمسيح يسوع؛ وعدم الاتّفاق المشار إليه حاصل، لا بسبب عدم التجانس بين التجنّد، من جهة، والارتباك في شؤون الحياة، من جهة أخرى، فحسب، وإنّما بسبب مناقضته خصوصًا اهتمام المجنّد في إرضاء الذي جنّده. لن يكون في وسع المجنّد أن يهب ذاته بكليّتها من أقامه جنديًّا لديه، إذ يترتّب عليه السعي، في الواقع، وراء اهتمامات أخرى، لا صلة لها البتّة قتطلّعات مستخدمه. وبكلام آخر، لن يستطيع ذلك المجنّد أن يقف ذاته على الواجب المنوط به، بسبب انهماكه في شؤون أخرى. فمن حيث هو مجنّد، يحدث شرخ في حاله، إذ لا يفي تجنّده حقّه من التدرّب اللائق، ولا يوليه عناية مناسبة. ومن حيث إنّه طموح، يرمق شؤون الحياة، يقعده عن نيلها على أصولها كونه مجنّدًا.

لِنَعُد إلى مسألة ضبط النفس، المشابهة في جوانب عديدة لمسألة التجنّد. ولنلحظ، علاوة على ما تقدّم قوله، أنّ الحالة المشار إليها، في كلّ منهما، إنّما تدلّ على مرحلة تصل الانخراط في سلك، من ناحية، واحتلال موقع ثابت، أو بلوغ درجة محدّدة، من ناحية أخرى. وهذا يعني، من جهة، أهميّة هذه المرحلة، لو نظرنا إليها نظرة إيجابيّة، واحتمال التلكّؤ فيها، من جهة أخرى، لو أحطناها بنظرة سلبيّة. يتكلّم بولس على ضبط النفس، وعلى التجنّد بالطبع، انطلاقًا من واجب يلزم المرءُ نفسَه به، لأنّه يعلم حقّ العلم ما يريد أن يفعله، وما يريد أن يلبث فيه. لا يمكن ذلك المرء أن يمضي عمره وهو يستعدّ الاستعداد اللائق، من غير أن يجعل نصب عينيه زمنًا، يُقْدِم فيه على إنجاز ما أعدّ نفسه له؛ ولا يمكنه، في الوقت نفسه، أن يُنَصَّب في موقع، من غير أن يكون قد تلقّى من الاستعداد ما يخوّله حقًّا الأهليّة المناسبة. لا يمكن مصارعًا أن يصرف عمره في التدرّب على النزال، من غير أن يخوض يومًا معركة على حلبة؛ وليس من المعقول أن ينادى بأحدهم إلى منازلة، فيما لم يتلقَّ من التدريب ما يكفيه لذلك. قد يحدث أن يقضي فلان من الناس مدّة في التمرّن على فنون القتال، من غير أن يؤذَن له خوض نزال؛ ولكنّه، لن يُدعى مصارعًا، ولن يُكلَّل رأسه بإكليل. أمّا إذا اتّفق حصول ذلك، فإنّ التناقض الواقع كفيل وحده بأمر التشهير بالحادثة.

كذلك الحالُ في أمر الخدمة الرسوليّة: إنّ خادم الكلمة، ورسول يسوع المسيح، المدعوّ وكيلاً عند بولس (1كو 1:4) لأسرار الله، يضبط نفسه في كلّ شيء، متجنّدًا لإرضاء الربّ وحده، في خدمته. فإن لم يفعل لا يجدر به أن يقام في منـزلة الخادم؛ وإن اتّفق أنّه نُصِّب خادمًا يشهد عليه تجنّده أنّه غير كفؤ لما يلبث فيه!

  1. 2. الإخلاص البولسيّ

من متطلّبات الروحانيّة البولسيّة حزم في الإخلاص، الذي ينبغي على خادم المسيح أن يحمله معه، في ثنايا حياته كلّها. تبرز فضيلة الإخلاص، عند بولس، لا كأنّها ركن من أركان روحانيّته وحسب، بل من حيث كونها ملتمسًا ضروريًّا أيضًا، وشرطًا لا غنى عنه، على البولسيّ أن يضطلع به، إذا أراد الانخراط في أداء الشهادة للربّ، على مقتضى الطريقة التي انتهجها الرسول. الإخلاص إغراق في العبادة، والخدمة الرسوليّة، والإيمان، لا مجرّد الأخذ بهذه في حياة المرء. وهو احتياط من مغبّة التواني في العيش عيشة مسيحيّة؛ وسعي حثيث وحافل بالإنجازات الفضلى، وإمعان في الاضطلاع بفرائض العبادة والخدمة والإيمان. إنّ ما يقوله الرسول في غلا 10:1ب: “… لو كنت بعدُ أرضي الناس لما كنت عبدًا للمسيح”، يلقي الضوء على معنى الإخلاص البولسيّ هذا، من خلال الوعي الذي يحوّط بولس نفسه به، حتى يبقى في صورة “عبد المسيح”. عندما يجعل بولس يميل إلى إرضاء الناس يسيء، بحسب كلماته، إلى ذاته كعبد للمسيح، لا إلى خدمته؛ أي يكفّ، بتعبير آخر، عن أن يكون حقًّا “عبدًا للمسيح” يسوع، مع أنّه يزاول خدمته.

قد يرتاد التساؤل ذهننا حول تناقض محتمل ينشأ هنا، بين استهجان بولس الصريح إرضاءه الناس، وهو منكبّ على خدمته الرسوليّة، وتشديده في 1كو 19:9ج، 21ج، على ربحه الناس: يتلاقى الهدفان، ويتنافر تأكيد بولس مع ذلك على السعي وراءهما. من الجدير بالإشارة أنّ جَدّ بولس في إثر الأكثرين من الناس، لعلّه يربحهم، في 1كو 19:9ج، 21ج، لا يؤلّف غاية نهائيّة في الإطار الذي، يرد كلامه فيه؛ لأنّ الخلاص، على حدّ قول بولس، هو ما يهتمّ به. على كلّ حال، يظهر وطر بولس جليًّا ناصعًا، في 1كو 23:9: “وأنا أصنع كلّ هذا لأجل الإنجيل…”. أضف إلى هذا أيضًا أنّ ما يبدو، في 1كو 19:9ج، 21ج، كأنّه “إرضاء”، لا يتّفق البتّة مع قرينة النصّ، حيث يبدو هذا “الإرضاء” تقلّبًا، وتذبذبًا في مواقف بولس، واستمالة، ما دام يلوح “لليهود كيهوديّ… وللذين تحت الناموس كأنّي تحت الناموس… وللّذين بلا ناموس كأنّي بلا ناموس”. لا يستطيع المرء أن يعدّ هذا الانقلاب من حالة إلى حالة معاكسة “إرضاء”، إذ لا يخفى على أحد ما فيه من خداع، سرعان ما يؤلّب عليه الناس.

على صعيد آخر، إن بدا بولس لفريق من الناس أنّه يميل ميلهم، ويأخذ بما يأخذون، يبقى هدفه صريحًا للجميع، ومحرّكًا لنشاطه بأسره: فهو على ذلك إلى حين، ريثما يجد مخاطبوه فرصة للانتقال إلى جانبه. لا يمالق، من جهة، ولا يستكين، من جهة أخرى، لأنّه عارف ما يريد. ولئن بدا على موقفه شيء من إرضاء الناس حَسُن، إذًا، بالمتأمّل في سلوكه أن يبلغ بفكره إلى عناء بولس، الذي تنكّبه كعبد للمسيح، حتى يرضى عن التشبّه بما الناس عليه. عندما يؤكّد اصطفافه، مثلاً، إلى جانب “الذين تحت الناموس”، يهرع إلى تأكيد تنصّله من موقفهم، الذي تبنّاه له، قائلاً: “… مع أنّي لست تحت الناموس”. فمن الطبيعيّ، في مثل هذه الحالة، أن يكتشف القارئ معاناة بولس، التي عانى، جرّاءها، من العمل مع الذين تحت الناموس. إنّه لأشبه به معلّم جامعيّ، وقد ارتضى أن يعطي دروسًا صفوفًا ابتدائيّة. لئن يقبل هذا المعلّم المهمّة الموكلة إليه لقاء أجر، عُدّ موقفه مع ذلك متواضعًا، وهو ليّنَ العريكة. ولئن عدل عن قبول التعليم في صفوف ابتدائيّة، بسبب التعب الذي يلقاه، أمكن فهم قراره. أمّا أن يأخذ هذا على عاتقه طوعًا، ومجّانًا، ودائمًا، لا يحدوه على قراره هذا سوى الإعلاء من شأن التعليم، فهذا يدعى “إخلاصًا”.

يليق بمن يريد أن ينهج نهج بولس في الروحانيّة أن يتحلّى بمثل هذا الاستعداد، وأن يعمد إلى نزع ما يرضي الناس من صميمه، خدمة للمسيح، وإخلاصًا لهويّته كعبد له. لا يقبع إرضاء الناس، أوّلاً، خارج الإنسان، بل في داخل كيانه: في طبعه، وميوله، وطموحاته. ولا يعرف إرضاء الناس، ثانيًا، ما ينصّ عليه غيرُ الراغب فيه، والباحث عنه. وليس من مدافع عن إرضاء الناس، ثالثًا، إلاّ المغرق فيه، والآخذ به، والعازم على التقلّب فيه. ذلك أنّ استعطاف الناس حاجة، لها إلحاحها وقضاؤها وحجاجها؛ وهو، فوق هذا، أيضًا حاجة تغري، لأنّها تدغدغ مواطن الضعف في النفس البشريّة، فتراها لا تهدأ حتى تنال شبعها. وإذا كان هذا الوصف سويًّا بالنسبة إلى العموم، فما ترى يكون عندما يتعلّق الأمر بالخاصّة من الناس، من قبيل الذين لم تستقرّ عواطفهم، ولم تستكن فيهم ميولهم، ولم تشحذ التقوى الحقيقيّة بعد كيانهم؟!

  1. 3. الرجاء البولسيّ

لا يمكننا، أخيرًا، أن نقفل موضوع الروحانيّة البولسيّة، من غير أن نتطرّق إلى مسألة الرجاء البولسيّ، الركيزة الأساسيّة، والقاعدة، التي بنى عليها الرسول صرح فكره، وتعليمه، ودعوته.

تحتلّ صورة المسيح محورًا رئيسيًّا في رجاء الكتاب المقدّس. فالرجاء، في النصوص، هو رجاء مسيحانيّ خصوصًا؛ وهذا يعني لاهوتيًا أنّ الشعب أدرك، ووعى بعمق، وبات يلتمس، في آن واحد معًا، افتقاره إلى حضور الله في وسطه؛ ذلك أنّ صورة المسيح، المرتجى قدومه، راحت تعيض عن الشعب خيبة أمله بمنقذ، ويأسه الشديد إزاء أحداث مفجعة، لا يعرف أحد من الرؤساء وضع حدّ لها، بفرح حقيقيّ، لا ينتهي؛ وباتت تختزل فيها مجد الشعب المختار، وقداسته، وحظوته التي نعم بها، في القديم، بعدما خرج من أرض العبوديّة المرّة، في مصر، إلى سيناء. لم تَعُدِ الأرض رجاء هذا الشعب، كما كان الأمر يوم عبر الآباء الصحراء؛ ولم يثبت الهيكل، كذلك، بعد أن أعيد بناؤه، كموضوع رجاء هذا الشعب، مع أنّه يبدو الهدف المرام من وضع سفر الأحبار بكامله. فمن الناحية اللاهوتيّة، يمكننا تأكيد دخول التاريخ مرحلة جديدة من مراحل الوحي الإلهيّ، مع بروز الرجاء المسيحانيّ بالخلاص. فالرجاء بأرض، على حسب المخطّط الإلهيّ الموضوع للشعب، ذو صبغة عابرة، لا تدوم إلى ما شاء الله. ولات المقدِس، الذي بُنِي ثانية، بعد السبي إلى بابل، محور رجاء بني إسرائيل! فقد عُدّ تهيئة، في زمن لاحق، وصورة، وإمكانًا، غايتها استباق العبادة الحقيقيّة، والسرمديّة، بالالتفاف حول الخالق، والإشادة بعظمته. أمّا رجاء الخلاص، التامّ والشامل والكامل، فما هو سوى اشتمال التدبير الإلهيّ على الواقع الإنسانيّ والكونيّ، واحتضانه بمجمله، واكتنافه، وتجشّمه على علاّته، من دون إلغائه، أو كفّه عن ذاته، وتنقيته من عوارضه وشوائبه، وفروقاته، ومساوئه، حتى يتصالح ما فيه مع ذاته، أوّلاً، ومع الخالق ثانيًا.

إذا كانت اليهوديّة قد عرفت من الوحي، عبر الرجاء، شكلين قد تحقّقا لها، على امتداد الأحقاب والأجيال، ووعت شيئًا فشيئًا نشأة شكل ثالث منه، عبر الرجاء نفسه، بات تحقيق هذا الأخير خاضعًا كسابقَيه لجملة من النبوءات بشأنه، والعلامات الدالّة عليه، ومتمِّمٍ يدخله التاريخ، من نافذة الحدث المحقّق. عند عتبات الرجاء بالخلاص هذه، وقف بولس بالربّ يسوع المسيح، وحاول استقراءه، فقرأه؛ وإنّما، لا كلّه، بل على قدر ما أعطي له أن يقرأه.

يمكننا أن نستخلص ممّا تقدّم أمرين، في أمر الرجاء: الأمر الأوّل ثبات الرجاء بالخلاص في رأس الإيمان، لا في خاتمته؛ الرجاء بالخلاص، إذًا، محرّك روحيّ أساسيّ، حسب القدّيس بولس، للتقدّم في الطريقة التي تبلغ إلى الله. لولاه لما تمكّن القدّيس بولس من السعي، على نحو ما فعل، إلى إدخال الأمم في الإيمان الجديد؛ ومن دونه، ما كان ليكبّد نفسه “مشاقّ الإنجيل” الباهظة، والمضنية، إلى حدّ القول: “إني أتمّ في جسدي ما ينقص من مضايق المسيح…” (كول 24:1). أمّا الأمر الثاني فيكمن في استنطاق الربّ يسوع، بخصوص كلّ ما له علاقة بالوحي الإلهيّ، إذ فيه يجد هذا الأخير تمامه، وكماله، وملئَه. وبتعبير آخر، يلزم من  يريد الأخذ بالروحانيّة البولسيّة أن ينبش كنوز الوحي في العهد القديم، في ضوء الأحداث التي تمّت في شخص الربّ يسوع، وعلى يده.

إنّ حديث بولس عن الوطن السماويّ، مثلاً، والميراث، والبنوّة، والتبرير، والتملّك مع المسيح، لا يمكن فهمه حقّ الفهم إذا لم يُرَدّ إلى الرجاء اليهوديّ القديم بأنّ الله وعد الآباء قديمًا بأرض يقيمون عليها؛ وحديثه عن الحياة في المسيح، وتقدمة الذات قربانًا، والتقديس، واحتواء الروح القدس في هيكل الأجساد، وموت المسيح تكفيرًا عن الذنوب، إلى ما سوى ذلك، يبقى دون غايته الروحيّة واللاهوتيّة، إذا لم يجعل في علاقة مع رجاء بني إسرائيل ببناء هيكل لهم في أورشليم. وذلك أنّ رجاء بولس بالخلاص، الذي أيقن في نهاية المطاف، بأنّه تمّ بالفداء من الموت، عبر موت السيّد المسيح على الصليب طوعًا، يشتمل على الرجاءين الأوّلين، من ناحية، ويتجاوزهما إلى منحى علويّ، في الوقت نفسه، من ناحية أخرى. فهو يحوي في ذاته، كرجاء خلاصيّ، فكرة المسكن والموطن، التي اشتمل عليها الرجاء الأوّل قديمًا، ومن ثمّ، يتضمّن معنى الاستمرار في الحياة، والرعويّة الإلهيّة مع سائر القديسين؛ ويرتكز بشكل أساسيّ على معنى العبادة الواجبة تجاه “مبدئ الإيمان ومكمّله” (عب 2:12)، على صعيد آخر، ومن ثمّ، ينطوي كرجاء على الاتّحاد بالله، والسلام معه، ومع سائر الإخوة، والفرح الدائم.

علاوة على ما تقدّم، يكتسي رجاء بولس الخلاصيّ بزخم دفّاق لا تحدّه قوّة أرضيّة، يندفع به نحو “إدراك المسيح”، عبر مراحل الحياة الأرضيّة. لا يبدو على بولس أيّ علامات الخمول، أو مظاهر المنتفع من حظوة سماويّة، أو الخوف من خطر محدق داهم. لا يوافق الكلام على رجاء بولس الخلاصيّ، من زاوية النعمة المفعولة، فكره اللاهوتيّ، إذ يجب إضافة كلام آخر إليه، يثير مسألة النعمة الفاعلة في نفس المؤمن، عنده. ذلك أنّ تصوّر بولس يحمل في طيّاته أنّ الرجاء الخلاصيّ بات واقعًا، أوّلاً، تاريخيًّا بوجه خاصّ، وأنّ هذا الواقع التاريخيّ ذو صبغة غير منحصرة بحدود التاريخ، بفضل حدث القيامة، ثانيًا. لذا، يتّخذ سعي بولس، بوجوهه كلّها، مستندًا له هذا الطابع الخاصّ، الذي يتّصف به الرجاء الخلاصيّ: إنّه، كواقع تاريخيّ، حافز على الجدّ في إثر المسيح؛ وكحقيقة تمتدّ وراء حدود التاريخ، منية، ومأمن للنفس. من لم يستطع من الإخوة الازدخار بالرجاء الخلاصيّ، على طريقة بولس، يصعب عليه تلبية دعوته الملحاح بأن يقتدي به!

لا يتورّع بولس عن إضفاء لقب “سرّ” على السيّد المسيح (كول27:1). إنّ هذه اللفظة ذات مدلول لاهوتيّ، بلا شكّ، يراد به الجانب الأقنوميّ من شخصيّة الربّ يسوع، الذي يتخطّى الإدراك البشريّ. فالسيّد المسيح يبقى، من حيث كونه ابنًا لله الآب، فوق إحاطة العقل به، أي “سرًّا”، يعسر حلّ رموزه على بني البشر. ولكنّ هذه المفردة ذات المدلول اللاهوتيّ تصطبغ أيضًا، في ذهن بولس، لا في عباراته، بمدلول صوفيّ، يغلب فيه طابع الاندهاش على العقل، بحيث إنّه يلتفت إلى الانتشاء من نصاعة الحقيقة التي يعاينها في شخص الربّ، أكثر ممّا في نزعته إلى إدراكها، والتعبير عنها. “سرّ” مطرب، هو السيّد المسيح، بالنسبة إلى بولس، لفرط الفرح الذي يحدثه في النفس الراجية، والمتيقّنة من صدق الوحي، أكثر منه “سرًّا” تعجز الألسن عن وصفه، أو العقول عن الولوج إلى معانيه. في هذه المفارقة، ربّما، تكمن روحانيّة بولس، ألا، إذًا، في المباغتة التي أفضى إليها اكتشافه يسوع. إنّها تقبع في داخله، وتشتمل على كيانه كلّه!

أما نحن فنقف، ربّما، إزاء روحانيّة بولس وقوفه هو على أعتاب الاكتشاف الكبير، الذي قام به على مداخل دمشق. كان ظنّه أنّ مرضاة الربّ ما جنّد له نفسه اعتقادًا واستعدادات ومسعى، فوجد أنّها، بالحريّ، تشبّه بالسيّد المسيح. كذلك نحن، نحسب أننا نسير على خطى بولس، مقتفين روحانيّته، إذا قمنا بما قام به من تعليم ووعظ وكتابة، ونفوّت علينا أهميّة الإعجاب الكبير الذي أخذ به بولس، إذ اكتشف “سرّ” المسيح.