مار بولس وتفاعله مع المناخ الثقافي في القرن الأوّل

د. طانيوس حبيب

عالم القرن الأول، العالم الذي يعيش فيه بولس وحيث يسافر ويبشّر، هو عالمٌ متنوّع الشعوب والثقافات، وفي الوقت نفسه موحّد وآمن نسبيًّا. عالم جديد في حالة مخاض، بكامل غليانه الفكري والاقتصادي والديني، كما يقول موريس سارتر[1].

خلال أسفاره رأى بولس تطوّر المدن التي عاد إليها الازدهار والجمال. استفاد من الطرق الجديدة التي شقّتها روما من أجل أمنها داخل آسيا الصغرى، ومن تكاثر السفن التي تجوب المتوسط، بسبب عودة ازدهار التبادل التجاري.

بعد انتصار أوكتافيوس في اكتيوم في أيلول سنة 31 ق.م.، عرف المتوسط الشرقي السلام أخيرًا. وممّا لا شكّ فيه أنه بقيت هناك بعض حركات العصيان. ولكن، بالرغم من هذه الانشقاقات الهامشيّة، راحت البضائع تتنقّل والناس يسافرون من جديد بأمان برًّا وبحرًا، إلا عندما يقعون صدفةً بين أيدي قطّاع الطرق أو يصبحون ضحيّة عواصف بحرية هوجاء، كما حصل ذلك مع بولس.

وبعد انتحار كليوباترا سنة 30 ق.م.، وانضمام مصر إلى روما، أصبح، لأوّل مرّة، كامل المتوسّط، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، تحت سلطة واحدة. قُسّمت الامبراطورية الرومانية إلى مقاطعات وُضِع على رأسها ملوكٌ أو ولاة أو حكّام أو حتى أمراء موالون لروما. وداخل المقاطعات هناك فسيفساء من المدن. فعالم بولس هو عالم مديني، كما نلاحظ ذلك من مسيرة أسفاره حيث يتنقّل من مدينة إلى أخرى. فالشرق الأوسط عرف، خـلال الحقبة الهلّينيّة، انتشـار النموذج التنظيمـي الميديني اليوناني (la polis, la cité). وهذه الظاهرة بقيت تتطوّر في بداية الامبراطورية. ولا يسكن هذه المدن مستعمرون يونان أتوا من مقدونيا، ولكن غرباء تهلّنوا فأصبحوا لا يتميّزون بشيء عن اليونان الأصليين. فاليوناني هو نتيجة ثقافة وتربية، وليس نتيجة ولادة بيولوجية.

المهم أنّ روما تعتبر المدينة، بحسب المفهوم اليوناني، أو المستعمرة بحسب المفهوم الروماني، على أنّها العنصر الإداري البارز في تنظيمها، تدير الحياة اليومية للسكّان، فتهتمّ بمشكلات أمن الطرقات، وتسهيل المواصلات، والتموين، وجباية الضرائب.

منحت روما المواطنية الرومانية لعدد قليل من العائلات، لأنّ أحد أعضائها تطوّع في الجيش الروماني، أو بسبب خدمات قدّمتها هذه العائلات. وهذا حال عائلة بولس التي كانت تفتخر بمواطنيّتها الرومانية.

حافظت روما على المؤسّسات التقليدية من مدن وقبائل ومعابد وإمارات، ما نتج عنه تراكم العديد من الحقوق المناطقيّة. صحيح أنّ المواطن الروماني يستطيع، أينما وُجد، أن يطالب بتطبيق القانون الروماني، وهذا ما فعله بولس. ولكن كل واحد من السكان الآخرين كان يخضع لقانون الجماعة التي ينتمي إليها. واحترام كل هذا التنوّع في القوانين كان رمزًا لحرّية كلٍّ من هذه الجماعات.

عالم بولس، وعلى مثال كامل الامبراطورية الرومانية، هو، في الوقت نفسه، عالم واحد وعالم مزدوج وعالم متعدّد. عالم واحد لأنّه يخضع للسلطة السياسية الرومانية الواحدة. وعالم مزدوج ثقافيًّا ولغويًّا بما أنّ اليونانية، وعلى قدم المساواة مع اللاتينية، تعتبر لغة رسمية في الشرق. الجيش وحده بقي يكتب باللاتينيّة أينما وُجد. أمّا اليونانيّة، وهي اللغة الثانية الرسميّة، فقد بقيت اللغة الأهم للتواصل بين الشعوب التي تعيش بين مضيق ميسّينا والفرات. وأخيرًا، عالم متعدّد بسبب اللغات العديدة الأخرى غير الرسمية، مثل الآرامية في سوريا، والعبرية في اليهودية، والفينيقية، وأيضًا العربية، عدا اللغات المتعدّدة الأخرى في شمال آسيا الصغرى.

داخل هذه التعدّدية يبقى هناك بعض عناصر اللُّحمة. فالقيم اليونانية راحت تفرض نفسها انطلاقًا من المدن الموجودة داخل المقاطعات، مثل روحيّة التنافس، وأيضًا السباقات إلى الشهرة التي كان يتنافس عليها المواطنون الأغنياء ليستحقّوا لقب المحسنين.

وخلال مروره من مدينة إلى أخرى كان بولس يجد المباني الرسمية والترفيهية نفسها، والفن الزخرفي في الرسم والنحت نفسه، والنموذج البنائي للهياكل نفسه، والكتابات نفسها على شرف الحكام والمحسنين. لكنّه صحيح أيضًا أنه بقيت التميّزات المحلّية، خصوصًا في بناء المعابد التي تخضع لنظم ثقافية غريبة عن الهلّينيّة.

هذا المزيج من الوحدة والتعدّدية، نراه أيضًا في المجال الديني. عبادة الامبراطور كإله تشكّل عامل لُحمة بين كل سكان الامبراطورية. وهذه العبادة ليست بجديدة. فقد اعتادت عليها شعوب المتوسط الشرقي منذ الإسكندر. وهي مناسبة لأعيان المدن لإظهار ولائهم لروما. أمّا اليهود فكانوا يقدّمون ذبائح ليهوه، من أجل حياة الامبراطور.

أضفْ إلى ذلك أنّ كل الشعوب وكل المدن احتفظت بآلهتها الضامنة لوحدة الجماعة. وكانت هذه الآلهة تدخل تباعًا إلى البانتيون اليوناني والروماني الذي أصبح مزدحمًا. فمنذ العهد الهلّيني نمت طقوس عديدة، يونانية وغريبة، وطّدت صلات شخصية بين الله والمؤمنين. هذه الطقوس المصحوبة أحيانًا بممارسة بعض الأسرار، إذا لم تقدّم للمؤمنين الرجاء بخلاص ما، فقد قدّمت لهم، على الأقل، نوعًا من المعرفة بالعالم الآخر.

بولس، الذي عاش في هذه الفسيفساء الثقافية والدينية والإتنيّة، كان هو شخصيّا ذا ثقافة مزدوجة: يونانية – رومانية من جهة، ويهودية – تلمودية من جهة ثانية. شاوول، الذي نشأ في عائلة يهودية ملتزمة، في مدينة طرسوس من أعمال كيليكيا، أرسله والده إلى أورشليم، وكان آنذاك في عمر المراهقة، ليتتلمذ على أيدي غامالائيل، حيث تربّى بطريقة صارمة على شريعة أجداده.  وغامالائيل هذا، يقول عنه لوقا في أعمال الرسل (5، 34)، أنّه “فرّيسيّ من معلّمي الشريعة، يحترمه الشعب كلّه”.  اندماج بولس بالحركة الفرّيسيّة أدخله في النخبة الدينية لليهودية. من خلال رسائله نكتشف قدرته على تفسير التوراة بحسب قوانين المعلّمين. فهو مثلاً يقارن الآيات ببعضها ليفسّر الواحدة بالأخرى، كما نرى ذلك في الرسالة إلى غلاطية (3، 8-14) حيث يورد خمس آيات من التوراة. وبمقاربة هذه الآيات مع بعضها يستنتج بولس انتصار الإيمان على الشريعة. فنكتشف كم كان ضليعًا بالتوراة وكم كان بارعًا بهذا النوع من التفسير الذي يُتقنه أرباب الشريعة. فيبارزهم بسلاحهم ويتغلّب عليهم.

أمّا ثقافته اليونانية – الرومانية فواسعة جدًّا، ونشأته في طرسوس ساعدته على ذلك. يقول المؤرّخ سترابون: “سكان طرسوس كثيرو الشغف بالفلسفة، ولديهم ثقافة أنسيكلوبيديّة لدرجة أن مدينتهم طمست أثينا والاسكندرية وكل المدن التي أنتجت بدعة ما أو مدرسة فلسفية”[2]. وكزينوفون يقول عنها إنها “مدينة كبيرة وسعيدة”[3]. أمم وديانات ولغات عديدة تتعايش فيها، من دون صدام. هذه المدينة أسّسها الحثّيون حوالي 1400 ق.م.، واجتاحتها وسيطرت عليها شعوب عديدة من أشوريين، ومقدونيين وسلجوقيين وأرمن. شوهد فيها قورش ملك الفرس. والإسكندر، في طريقه نحو الشرق والمجد، استحمّ في مياه نهرها وكاد يموت. ضمّتها روما سنة 64 ق.م.، وجعلت منها عاصمة كيليكيا. تنعّم بزيارتها بومبيليوس والقيصر وشيشرون. وفي سنة 41 ق.م. نزلت فيها كليوباترا لتغوي أنطونيوس. وما زالت طرسوس حتى يومنا تحتفل بكليوباترا.

وفي مدينة طرسوس مدرسة رواقيّة شهيرة، لم يتوانَ الوالد عن تسجيل ابنه فيها. وقد أظهرت أكثر الأبحاث حداثةً حول طريقته ببناء براهينه أنّ رسول الأمم كان ضليعًا بفن التعبير والإقناع على مثال شيشرون وكنتليانوس. وسنورد من خلال الرسائل وأعمال الرسل أمثلة تُظهر أنّه كان متعمّقًا بفلسفة أفلاطون وبمنطق أرسطو، وخصوصًا بالإبيقورية والرواقية، وحتى الغنوصية، عدا معرفته بالرموز والأساطير والعبادات الوثنية. وقد أدخل إلى المسيحية بعض المفاهيم الفلسفية واللاهوتية التي لا نجد لها أثرًا في الأناجيل، مثل التبرير، والخلاص، والضمير، والحرية. لغته الأم هي اليونانية، والتوراة التي تغذّى إيمانه منها هي التوراة اليونانية. ومن الممكن أن يكون قد قرأ فيلون الفيلسوف اليهودي الإسكندري الشهير الذي يشبهه من ناحية ازدواجية ثقافته اليهودية واليونانية. فهذه الثقافة المزدوجة سمحت للرسول الثالث عشر أن يبني توليفات شاهقة ستتغذّى منها المسيحية كي تنمو وتكبر.

ولقد كان على بولس أن يتصدّى لبعض تعاليم الفلسفة الأفلاطونية لأنها أفسدت عقول بعض المبشّرين بالمسيحية من أصل يهودي، مثل أبولّس الإسكندري الذي أتى إلى أفسس، ثم إلى كورنتس، وراح يبشّر بالمسيح من دون أن يتعمّق بمعرفة المسيح. فكان يبشّر بخلود النفس من دون الجسد، لأنّ “الجسد هو قبر للنفس” بالنسبة إلى أفلاطون. لذلك لا يؤمن أهل كورنتس إلا بخلود النفس ويرفضون قيامة الأجساد، على عكس تعليم بولس. لذلك يقول بولس في رسالته الأولى إلى كورنتس (15، 35-38): “ويسأل أحدكم : كيف يقوم الأموات، وفي أيّ جسد يعودون ؟ يا لك من جاهل ! ما تزرعه لا يحيا إلا إذا مات. وما تزرعه هو مجرّد حبّة من الحنطة مثلاً، أو غيرها من الحبوب، لا جسم النبتة كما سيكون، والله يجعل لها جسمًا كما يشاء، لكل حبّة جسم خاص”. ثم، في (15، 42-44) يقول: “وهذه هي الحال في قيامة الأموات : يُدفن الجسم بفساد ويقوم بغير فساد. يُدفن بلا كرامة ويقوم بمجد. يُدفن بضعف ويقوم بقوّة. يُدفن جسمًا بشريًّا ويقوم جسمًا روحانيًّا. وإذا كان هناك جسم بشري، فهناك أيضًا جسم روحاني”.

وإذا أردنا أن نضيءَ على علاقة بولس بمجمل التراث اليوناني، نقول إنّه كان على معرفة تامّة بكل الأساطير والآلهة وهياكلها المنتشرة في المدن التي مرّ بها، وبالذبائح والأسرار والعبادات الوثنية كافة. ففي أثينا، وعلى تلّة الأريوباغوس حيث صعد بولس لمجابهة الفلاسفة، هناك جعل الكاتب المسرحي اليوناني الكبير إخيلوس (Eschyle) محاكمة أورستوس في ثالث مسرحية من ثلاثيّة أورستيا (L’Orestie). في هذه المحاكمة الأسطورية لأورستوس قاتل أمه، الموت هو الموضوع المهيمن. وهنا، على الأريوباغوس، يُعلن اليونانيون، بلسان إخيلوس، رفضهم لقيامة الأجساد. يقول المسرحي إخيلوس: “عندما يشرب التراب دم إنسان ما، لا يعود له إمكان القيامة” (الأبيات 647 – 648)، حتى ولا بقدرة السحر. فاختيار الأريوباغوس كمكان لإعلان إنجيل القيامة يُظهر جليًّا الاختلاف الكبير بين الرجاء المسيحي والمعتقدات اليونانية التي لا يمكن أن تفكّر بأكثر من التقمّص.

وفي طرسوس، مسقط رأس بولس، اليهود، كما الوثنيون، يمارسون طقوسهم، وأوّلها طقوس روما. فالامبراطور أوغسطوس جعل فيها نفسه إلهًا منذ السنة الثانية من حكمه. وهياكل آلهة الأولمبوس تحتلّ فيها المكان الأوّل. وديانات الأسرار موجودة أيضًا. ومن الأناضول دخلت إلى طرسوس عبادة “سيبال”، إلهة الخصوبة، ومن تراخيا، شمال اليونان، دخل ديونيزوس، إله الكرمة والخمر، وهو ابن زوس. أصبح اسمه باخوس لدى الرومان. طقوسه ساهمت بتطوّر المسرح التراجيدي والفن الشعري الوجداني. ومن مصر دخلت عبادة إيزيس وأوزيريس وطقوسها، وإيزيس هي أخت أوزيريس وزوجته وأم الإله أوروس. ترمز إلى مثال الحب الزوجي وعاطفة الأمومة. ومن لبنان وسوريا دخلت طقوس أدونيس، وهو إله فينيقي، إله النبات، قُتل في الصيد، يُمضي قسمًا من السنة في الجحيم، والقسم الآخر بين الأحياء، بالقرب من عشتروت، إلهة الجمال والحب. ومن بلاد الفرس، دخلت عبادة ميترا (Mithra)، الإله الذي كانت له مكانة خاصة في قلوب الرومان الذين كانوا يصوّرونه لابسًا قبّعة فريجيّة ومُضرّجًا بدماء ثور قدّمه ذبيحة. كل هذه الطقوس كانت تثير المشاعر برموزها، والنشوة بأناشيدها ورقصاتها خلال الاحتفالات. وأتباع ميترا كانوا يُغرقون أجسادهم بدماء ثور ما زال يتلوّى أمامهم. بينما أتباع أدونيس يطلقون لرغباتهم الجنسية العنان داخل الهيكل، حيث تتعانق الأجساد العارية وتتراقص.

واكتشف بولس في كورنتوس ما يسمّى اليوم السياحة الجنسية. فبعدما كانت المدينة مكرّسة لبوزيدون أو مركور الروماني، إله البحر، تبوّأت مكانه أفروديت او عشتروت وكاهناتها اللواتي يمارسن البغاء إكرامًا لإلهة الحب، في غرف وراء أشجار الورد، بينما هو يبشّر بالتقشّف والعفّة. انحلال أخلاقي ضُرب به المثل، وكان مادّة دسمة للشعراء والكتّاب مثل أوراس وجوفينال وشيشرون.

كان بولس مستعدًّا للانفتاح على مجاهل الفلسفة اليونانية، ولكنه كان ينظر بازدراء وخوف إلى الفلتان الأخلاقي والعنفي في الممارسات الوثنية. هذا الانطباع سيرافقه مدى الحياة وسيترك أثرًا ظاهرًا في الرسالة التي سيوجّهها بعد زمن إلى الطائفة المسيحية الفتيّة في روما (1، 21-24) حيث يقول: “عرفوا الله، فما مجّدوه، ولا شكروه كإله، بل زاغت عقولهم وملأ الظلام قلوبهم الغبيّة. زعموا أنّهم حكماء، فصاروا حمقى واستبدلوا بمجد الله الخالد صورًا على شاكلة الإنسان الفاني والطيور والدواب والزحّافات”.

خلال سفرته الأولى، بعدما ترك انطاكيا، وصل برفقة برنابا ومرقس إلى قبرص حيث تقيم جالية يهودية مهمّة . والمعلوم أن الجزيرة كلها مكرّسة لعشتروت التي وُلدت حسب الأسطورة من زبد أمواج البحر. وبعد أن ضمّت روما الجزيرة سنة 58 ق.م.، لم تغيّر شيئًا من معتقدات أهلها، بل بالعكس، تبنّت عشتروت وأتباعها الذين كانوا يحتفلون بممارساتها الجنسية، وبشهوانيتها غير المحدودة، وحتى بخياناتها، وبالأولاد الذين أنجبتهم من عشّاقها، مثل أرموني، وإيروس، وأنتيروس، وبرياب (Priape)، وإرمافروديت. وهكذا كانت تشجّع علانية العلاقات غير الشرعية، ما يساهم بتسهيل أمور الكثيرين من أهل الجزيرة. 

وفي أعالي مدينة أماتونت (Amathonte)، يقوم هيكل عشتروت الأكثر ازدحامًا، يؤمّه الآلاف من سكان الجزيرة ومن الغرباء المتعطشين للمشاركة في أعيادها المجونيّة، حيث عدد من الكاهنات الشابات يتنافسن بحماس ديني لا مثيل له على ممارسة الجنس بكافة أشكاله.

كيف يمكن الانتصار على إيمان كهذا يدغدغ شهوات البشر وغرائزهم وضعفهم؟ ألن يزرع بولس الخوف في القلوب إذا تصدّى لهذا الإيمان بإطلاق قوانين ومحرّمات صارمة فرضها الإله الواحد؟ لا بدّ أنّ هذه المشكلة قد ساورت هاجس بولس، إلى أن فهم أنّ الكثيرين قد ملّوا من هذا الفلتان وبدأوا يفتّشون عن قواعد حياة جديدة.

في بافوس (Paphos) ممارسة السحر هي السائدة. فكان على بولس مجابهة السحرة، وهذا ما فعله بنجاح أمام أعين حاكم الجزيرة سرجيوس باولوس (Sergius Paulus)، “وكان هذا رجلاً عاقلاً”، كما يقول لوقا في أعمال الرسل (13، 7). وفي بافوس اتّخذ شاوول اسم بولس. هل كان ذلك بتأثير من الصداقة الفلسفية التي ربطت شاوول بالحاكم باولوس (Paulus) ؟ باولوس باليونانية يعني الصغير. وهذا المعنى ينطبق على بولس الذي كان قصير القامة، ولكنّ الأهم أنّه أراد من خلال اسمه الجديد أن يُقنع نفسه بأنه لا شيء سوى الخادم الصغير أمام عظمة الله اللامتناهية.

في كل الأحوال، تغيير الأسماء كان رائجًا داخل هذه الامبراطورية المتعدّدة الثقافة واللغة. فلنتذكّر سمعان الذي أصبح كيفا ثم بطرس. وسيلاس الذي رافق شاوول من أورشليم بمهمّة إلى أنطاكيا، سيعود ويرافق بولس في سفرته الثانية، وسيأخذ اسم سيلفانوس الذي يعني باللاتينية “إله الغابات”. أليس اسمًا جميلاً؟

ليست كل الأساطير سيّئة. فبعضها كان له مردود جيّد بالنسبة إلى اعتناق المسيحية. ففي بلاد الأناضول يوجد أتباع لطقوس قديمة يكرّمون خلالها الإله “مان” (Men) الذي يشفي الأحياء، بشرًا كانوا أم حيوانات، ويكرّمون أيضًا سباسيوس (Sabazios)، القائم من بين الأموات، وفارسًا شبحًا يبشّر بالأبديّة. هذه الأسطورة كانت أرضًا طيّبة لتبشير بولس وبرنابا في أنطاكيا بيسيديا داخل الهيكل اليهودي، حيث كان يوجد عدد وفير من غير اليهود. وهذا ما يؤكّده بحماس لوقا في أعمال الرسل (13، 48-49) : “فلمّا سمع غير اليهود ما قاله بولس فرحوا ومجّدوا كلام الرب. وآمن جميع الذين اختارهم الله للحياة الأبدية. وانتشر كلام الرب في تلك البلاد كلّها”.

بالنسبة إلى الأساطير اليونانية، أكانت مصحوبة بطقوس وأسرار، أو كانت ملحمية كالتي نجدها عند هوميروس أو إزيودس، فهي تركّز على فكرتين أساسيّتين: التطهير (la purification) والبطولة. أمّا التطهير بالذبائح والمجون، والذي يقابله عند اليهود التطهير بالشريعة، فقد نقضه بولس بمفهوم لاهوتي أسمى هو التبرير بالإيمان. أمّا البطولة فلطالما تفرّج بولس على المنافسة عليها في الملاعب المزروعة في كل المدن التي زارها. ولا يتوانى عن ذكرها في رسالته الأولى إلى كورنتس (9، 24-25): “أما تعرفون أنّ المتسابقين في الجري يشتركون كلّهم في السباق، ولا يفوز به إلاّ واحد منهم ؟ فاجروا أنتم مثله حتى تفوزوا. وكل متسابق يمارس ضبط النفس في كل شيء من أجل إكليل يفنى، وأمّا نحن، فمن أجل إكليل لا يفنى”. هنا يستعمل بولس جدل الأضداد كما كان يبرع به هيراقليطوس في القرن السادس ق.م. فبدل البطولة أو القوّة يفضّل الله الضعف، وبدل الحكمة الحماقة. يقول في 1 كورنتس 1، 26-27: “تذكّروا أيّها الإخوة كيف كنتم حين دعاكم الله، فما كان فيكم كثير من الحكماء بحكمة البشر ولا من الأقوياء أو الوجهاء. إلا أنّ الله اختار ما يعتبره العالم حماقة ليُخزي الحكماء، وما يعتبره العالم ضعفًا ليُخزي الأقوياء”.

بولس اللاهوتي الفيلسوف عايش المناخ الفلسفي السائد الذي هو نتاج الفكر اليوناني. وبالرغم من عنف كلامه أحيانًا، لا يمكن مقارنته، كما فعل البعـض، بالفلاسفـة الكينيكييـن أو الكـلاب (les cyniques)، (kunè) باليونانية تعني “الكلب”. فهم يتحدّون المجتمع بعوائهم وعدائيتهم ليفضحوا اعتباطية القوانين والسلطة السياسية. لا شيء إيجابيًّا في تصاريحهم الوقحة، بينما بولس، إذ يرفض الأفكار والبدع والممارسات الخاطئة، يبشّر، في الوقت ذاته، بإيجابية القيم المادية والروحية السامية، وبالخلود، وبعظمة الإيمان والمحبّة، ولا يثور على القوانين السائدة، ويخضع للسلطة الزمنية، ولا يُحرّض العبيد على أسيادهم ولا النساء على أزواجهنّ، حتى إنّه اتّهم بكرهه للنساء.

صورة بولس، كما تظهر في أعمال الرسل، هي صورة فيلسوف يسافر ويراقب: يتمشّى في المدينة، ينظر إلى الناس ومحيطهم، يبني خطابه على ما يرى، بحسب مبدإ التشريح (كلمة autopsie تعني أن يرى الإنسان بعينيه). هذه الممارسة تضع بولس في مصاف سقراط وأفلاطون وأرسطو الذين يجعلون من التنقّل والمراقبة أساسًا للفكر الفلسفي، كما تقول ماري­فرانسواز باليز[4]. سرد أعمال الرسل يخلق، بصورة غير علنية علاقة بين بولس (القرن الأول الميلادي) وسقراط (القرن الخامس قبل الميلاد). فقد وُجّهت إليهما الاتّهامات والشكوك نفسها: الاتهام بأنّهما يبشّران بآلهة غريبة، وبإدخال طقوس جديدة إلى المدينة. والاتّهام الآخر لسقراط بممارسة تعليم مشبوه يُفسد عقول الشباب، واتهام بولس بممارسة تعليم غير مألوف. ففي أثينا، التجديد يعني الثورة. والمذاهب الفلسفية والدينية يُحكم عليها من خلال تأثيرها على المجتمع. في كل حال، لا شيء يدلّ في أعمال الرسل على أنّ بولس خضع لمحاكمة أمام مجلس الأريوباغوس في اثينا. دُعي إلى الأريوباغوس ليعرض مذهبه أمام الفلاسفة. وبالرغم من ذلك بقي التقليد المسيحي يبني المقارنة بين سقراط وبولس على أساس المحاكمة. ولكن يمكننا، وبطريقة أجدى، أن نبني مقارنة جديدة بين بولس وسقراط. فسقراط هو مثال الإنسان التقيّ، الذي يتّكل على العناية الإلهية، وله علاقة وجدانية بالله، ويحارب تعدّد الآلهة والأوثان، ويقول بإله واحد. يوستينوس، في القرن الثاني، هو أول من قال إنّ سقراط قد سبق بولس وأنّهما سويًّا وفيّان للّوغوس، ولكلمة الله، وللحقيقة.

أمّا علاقة بولس بالإبيقوريين، فقد ظهرت علنيًّا في أثينا. ولكنّها تظهر أيضًا بشكل غير مباشر في الرسائل، في مكانين على الأقل:

– أوّلاً، في الرسالة الأولى إلى كورنتس (15، 32) حيث يقول بولس : “وإذا كان الأموات لا يقومون، فلنقل مع القائلين : تعالوا نأكل ونشرب، فغدًا نموت”. فأتباع الإبيقورية هم القائلون إنّ الموت هو النهاية، فلا قيامة لا للنفس ولا للجسد. إذًا، فلنستفد من هذه الحياة وملذّاتها الطبيعية والضرورية، أي الأكل والشرب، وما عدا ذلك فهو غير ضروري، حتى لو كان طبيعيًّا مثل ممارسة الجنس. وهذا ما ردّده في القرن الرابع أغسطينوس، وفي المعنى ذاته، قائلاً: “لو لم أكن مسيحيًّا، لكنت إبيقوريًّا”.

– ثانيًا، في الرسالة إلى العبرانيين (2، 14-15) حيث يقول: “ولما كان الأبناء شركاء في اللحم والدم، شاركهم يسوع كذلك في طبيعتهم هذه ليقضي بموته على الذي في يده سلطان الموت، أي إبليس، ويحرّر الذين كانوا طوال حياتهم في العبودية خوفًا من الموت”. فالتحرّر من الخوف كان أيضًا هدف إبيقور الذي يقول إنّ هناك ثلاثة أسباب كبرى للخوف، على الإنسان أن يتحرّر منها كي يصل إلى السعادة: 1- الخوف من الموت؛ 2- الخوف من الآلهة؛ 3- الخوف من القدر.

يقول إبيقور: لماذا نخاف من الموت؟ فطالما نحن أحياء، الموت ليس هنا. وعندما يأتي الموت، لا نعود هنا. ليس هناك من لقاء، فلماذا الخوف؟

أمّا الآلهة فهم موجودون، ولكنهم بعيدون يعيشون بسعادة، فلا يهتمّون بمشكلات البشر، وإلاّ اضطربت حياتهم. إذًا لماذا نحن نهتمّ بهم؟ هم يديرون لنا ظهورهم، فلنُدِر لهم ظهورنا.

وأخيرًا، لا يوجد قدرية، فلماذا، إذًا، الخوف من القدر؟ الكون محكوم بالصدفة، بما أنّ كل الكائنات هي نتيجة التقاء عدد وافر من الذرّات التي هي في حركة دائمة عمودية. ولكن لكلّ ذرّة القدرة على الانحراف عن مسارها العمودي (le clinamen). وهذه القدرة على الانحراف هي بمثابة الحرية الموجودة داخل المادة، وبانحرافها تغيّر الذرّات المسار والمصير فتصطدم بذرّات أخرى، وهكذا تنشأ الكائنات. وعندما تعود وتفترق الذرّات، عندئذ تكون نهاية الكائنات. ثم تصطدم من جديد، فتنشأ كائنات جديدة. وهكذا إلى ما لا نهاية. إذًا لا وجود للقدر، بل للصدفة الناتجة عن حرية الذرّات بالانحراف عن مسارها والاصطدام بذرّات أخرى. وهكذا يعتقد إبيقور أنّه حرّرنا من الخوف.

أمّا بالنسبة إلى بولس، وعلى عكس إبيقور، الله هو الذي يحرّرنا من الخوف بما أنّه جعلنا أبناءه، وحرّرنا من الموت بالمسيح.

علاقة بولس بالرواقيين هي الأقوى. فقد التقاهم في أثينا حيث يخاطبهم، فيقول: “الله غير بعيد عن كل واحد منا. فنحن فيه نحيا ونتحرّك ونوجد”[5]. هذا القول خلاصة للمذهب الرواقي الذي يقول بأنّ الكائنات كلّها هي أجزاء من الله الذي هو في الجميع. الكون كله هو الله، والكائنات “تحيا فيه وتتحرّك وتوجد”. أجسامنا أعضاء من جسمه الكوني، وروحنا جزء من روحه العاقلة والمحرّكة. لذلك فالكائنات كلّها تعرف الله بالفطرة. وعند الموت تعود فتذوب فيه من جديد. هو البداية والنهاية. وهذا ما يجعل من الإنسان مواطنًا كونيًّا لا يعترف بحدود. فهو ابن الكون كلّه، لا ينتمي إلى هذه العائلة، أو تلك، أو هذا البلد ،أو ذاك فحسب. هنا نرى أنّ الرواقيين سبقوا بولس بفكرة الأممية، أو ما نسمّيها اليوم العولمة. هم نادوا بالمواطنية العالمية، لأنّ الناس كلّهم أخوة من أب واحد هو الله الكوني. وبولس نادى بالعولمة الدينية المسيحية، لأنّنا جميعنا ابناء الله، والمسيح الإله قد قام من بين الأموات من أجل الجميع. واليوم تنادي الدول الكبرى بالعولمة الثقافية والاقتصادية والتكنولوجية.

يقول بولس في رسالته إلى أفسس (4، 4-6): “فأنتم جسد واحد وروح واحد، مثلما دعاكم الله إلى رجاء واحد. ولكم رب واحد وإيمان واحد ومعمودية واحدة وإله واحد لجميع البشر، يعمل فيهم جميعًا وهو فيهم جميعًا”. وماركوس أوريليوس الامبراطور الرواقي يردّد وكأنّه صدىً لبولس: “واحد هو العالم الذي يتكوّن منه كلّ شيء، واحد الإله المنتشر في كل مكان، واحد الجوهر، واحد القانون، واحد اللّوغوس الذي تتشارك فيه الكائنات العاقلة كلّها، واحدة هي الحقيقة، لأنّ الكمال أيضًا هو واحد بالنسبة إلى الكائنات من الفصيلة نفسها وتشارك بالروح العاقلة ذاتها”[6].

القرابة بين الله والإنسان يعتبرها ماركوس أوريليوس حاصلة طبيعيًّا أنطولوجيًّا، لأنّ الإنسان جزء حقيقي من الله، من دون أن يكون هناك علاقة شخصية بينه وبين الله. بينما الأبوّة الإلهية عند بولس هي خاصيّة مجانية، لأنّه بواسطة خيار علوي يستقرّ روح الله في نفس الإنسان.

ومشكلة الحرية هي موضوع آخر يُظهر تأثّر بولس بالرواقية. فلطالما طرح الرواقيون هذه المشكلة. يكفي أن نتذكّر إبّكتيت (Épictète)، أو سينيكوس (Sénèque)؛ هل الإنسان حرّ بخياراته؟ هل بقدرته إدارة  حياته ؟ الجواب لديهم سلبي. أمّا سيطرة الإنسان على أهوائه فتجعله يقترب من الحرية وحسب.

استعاد بولس المشكلة، وكان جوابه أقسى، لأنّه وجد ليس أنّ لا حرية إطلاقًا لدى الإنسان، بل، أكثر من ذلك، هو حتّى لا يستطيع أن يستعيد حريته بالسيطرة على ذاته. الخطيئة استعبدت الإنسان وحرّضته ضد الله. الحلّ الوحيد هو أن تتحرّر الإنسانيّة من الخارج، بما أنّ الإنسان غير قادر على التحرّر بقواه الذاتية. الرسالة إلى روما تصف عمل الروح في المؤمن، إذ يحرّره من هاجس بناء خلاصه بنفسه، فيجعله ينفتح على الآخر بمحبة.

واحتكاك بولس بالرواقية، منذ حداثته، نتيجة ارتياده المدرسة الرواقية الشهيرة في طرسوس، جعله يتقن استعمال المنطق الرواقي. خلال قرون كان الاعتقاد سائدًا بأنّ الرواقيين لم يأتوا بجديد في علم المنطق، بل اكتفوا بتقليد المنطق الأرسطي. بولس من أوائل الذين اكتشفوا العبقرية المنطقية الجديدة للرواقيين الذين أسّسوا لمنطق القضايا الحديث (logique des propositions)، بينما منطق أرسطو يبقى منطق المحمولات (logique des prédicats)، الذي يعمل على إضفاء صفة لجوهر ما، مثل “الإنسان عاقل”. بولس يلجأ غالبًا إلى المنطق الرواقي ليبني براهينه. سأورد مثلاً من رسالة كورنتس الأولى (15، 12-19) موضوعه قيامة الأموات، يمكن اختصاره بهذا الشكل القياسي الرواقي: إذا قام المسيح من بين الأموات، فكلّنا سنقوم. في الواقع، قام المسيح من بين الأموات، وكثيرون شهود على ذلك، وأنا آخر هؤلاء الشهود. إذًا نحن أيضًا سنقوم من الموت.

Si x, alors y

Or x, donc y

إذا كانت القضية الأولى صحيحة، فكذلك الثانية. في الواقع، القضيّة الأولى صحيحة. إذًا القضية الثانية أيضًا.

هذا النوع من المنطق سيلقى رواجًا كبيرًا مع ازدهار العلوم الاختبارية بدءًا من القرن السابع عشر. إنّه المنهج الاستقرائي الإشتراطي أو الإفتراضي. ينطلق من افتراض قضيّة فرديّة. فإذا ثبت أنّها صحيحة، يصل إلى نتيجة عامّة أو قانون شامل: من قيامة المسيح إلى قيامة الجميع بالمسيح.

أمّا المنطق الأرسطي فهو استنتاجي استنباطي، يُستعمل في العلوم الرياضية. هذا لا يعني أن بولس لا يلجأ إلى هذا النوع من المنطق، ولكنه يلجأ إليه على طريقته، فيستغني عن بعض القضايا، ويقفز فوق قضايا أخرى، ليصل بسرعة إلى النتجية التي يتوخّاها. وأحيانًا أيضًا يستفيض في الشرح فتتداخل القضايا ببعضها، ويدخل هو شخصيًّا ضمن الخطاب، فيصبح هو البرهان. يقول في الرسالة إلى روما (7، 9-11) : “كنت أحيا من قبل بلا شريعة، فلما جاءت الوصية، عاشت الخطيئة ومتُّ أنا. فإذا بالوصية التي هي للحياة، قادتني أنا إلى الموت، لأنّ الخطيئة اتّخذت من الوصية سبيلاً، فخدعتني بها وقتلتني”. منطقيًّا، يمكن أن تتّخذ هذه الفكرة الشكل القياسي التالي:

الخطيئة هي نتيجة للوصية،

والموت هو نتيجة للخطيئة،

إذًا الموت هو نتيجة للوصية.

في الحقيقة، هذا القياس أقرب إلى منطق القضايا (أي المنطق الحديث) منه إلى منطق المحمولات (أي المنطق الأرسطي). فإذا أردنا اللجوء إلى لغة أرسطو، أي إلى تركيب القضايا بربط المحمول بالموضوع، حينئذٍ تظهر جرأة بولس واستفزازه لليهود، فيأخذ البرهان الشكل الآتي:

الخطيئة هي الشريعة،

والموت هو الخطيئة،

إذًا الشريعة هي الموت.

ولكن بولس يفضّل إجمالاً اللجوء إلى نوع آخر من المنطق الأرسطي، هو المنطق الجهوي (la logique modale)، أي منطق الممكن وغير الممكن، المستحيل وغير المستحيل، الضروري وغير الضروري، إلخ. فيقول، مثلاً، في الرسالة إلى العبرانيين (8، 7): “فلو كان العهد الأوّل لا عيب فيه، لما دعت الحاجة إلى عهد آخر”. أي: بما أنّ الإمكان الأول ناقص، هناك حاجة إلى إمكان ثانٍ.

منطق بولس متعدّد الشكل ويستحقّ دراسة معمّقة. وهو، مثلاً، يستعمل طريقة منطقية جميلة جدًّا تقتضي الانتقال من الحجّة الأضعف إلى الحجّة الأقوى، كما في الرسالة إلى العبرانيين (9، 13-14): “فإذا كان رشّ دم التيوس والثيران ورماد العجلة يقدّس المنجّسين ويطهّر أجسادهم، فما أولى دم المسيح الذي قدّم نفسه إلى الله بالروح الأزلي قربانًا لا عيب فيه، أن يطهّر ضمائرنا من الأعمال الميتة لنعبد الله الحي”. مثل آخر[7] : “وإذا كان للزائل مجد، فكم يكون مجد الخالد؟”

وبولس الفيلسوف، كما الرواقيّون، يؤمن بقدرة العقل على معرفة صفات الله من خلال مخلوقاته، كما يؤكّد في الرسالة إلى روما (1، 19-20): “لأنّ ما يقدر البشر أن يعرفوه عن الله جعله الله واضحًا جليًّا لهم. فمنذ خلق الله العالم، وصفات الله الخفيّة، أي قدرته الأزلية وألوهيّته، واضحة جليّة تدركها العقول في مخلوقاته”.

أخيرًا لا ننسَ علاقة بولس بالثقافة الغنوصيّة. فنجده، مثلاً، يتكلّم على أرواح شيطانية شريرة، أعلى من البشر، وتعرقل فيهم عمل الله. نرى التعبير ذاته في الغنوصية التي تقول بآلهة أدنى مستوى، قادرة على أن تساعد أو أن تعرقل مبادرة من يحاول الترقّي بالمعرفة، والتي يعمل السحر على تدجينها.

والحكمة المعرفية التي يتوخّاها الغنوصيّون تنتج عن سعي بشري، فيكشف العارفون بينهم سرّ المعرفة للسّاعين إلى الترقّي، وذلك من خلال طقوس سرية. بينما الحكمة، بحسب بولس، هي حكمة الله الأبدية السرية التي يكشفها الله نفسه للمؤمنين الناضجين بالروح[8].

صحيح أن بولس استفاد من ثقافته الفلسفية ليجابه الفلاسفة بسلاحهم، ويبني خطابًا منطقيًّا يدافع به عن إيمانه. ولكنّه عرف أيضًا خطورة الفلسفة على العقول غير المتمرّسة، فقال في الرسالة إلى كولوسي (2، 8) : “وانتبهوا لئلا يسلب أحد عقولكم بالكلام الفلسفي والغرور الباطل، القائم على تقاليد البشر وقوى الكون الأوّلية، لا على المسيح”.

في مطلق الأحوال، وبالرغم من ثقافته المزدوجة وبراعته في التعبير، فشل بولس مع اليهود ومع الفلاسفة. ربّما كان اليهود مستعدّين للاستماع إلى بولس يبشّر بالمسيح القائم من بين الأموات، ولكنّهم طلبوا له الموت لأنّه، أوّلاً، انقلب على الشريعة، وثانيًا، لأنّه توجّه بتعليمه إلى غير اليهود. وتمّ الانفصال الكامل في كورنتس عندما بدأ اليهود يعارضون ويشتمون، “فنفض ثوبه وقال لهم: دمكم على رؤوسكم، أنا بريء منكم. سأذهب بعد اليوم إلى غيركم من الشعوب”[9].

وفشل مع الفلاسفة كما يظهر ذلك بوضوح في أثينا، مدينة الفلسفة، بالرغم من دبلوماسيّته بمحاولته التركيز على ما هو مشترك بينه وبينهم على مستوى الإيمان بالإله المجهول الذي تركوا له مكانًا في معابدهم. في الواقع، ما هو مكتوب على المذبح هو العبارة التالية: “إلى الآلهة المجهولة”، لا “إلى الإله المجهول”.

في النتيجة، عندما سمعوا بولس يذكر قيامة الأموات استهزأوا به وأداروا له ظهرهم قائلين: “سنسمع كلامك في هذا الشأن مرّة أخرى”[10].

إذًا، فشل بولس مع أبناء قومه، وفشل مع الفلاسفة، ولكنّه ربح الأمم. فقد تأثّر بثقافة عصره واستفاد منها ليتخطّى عصره ويصبح رجل كل المواسم والعصور.

Bibliographie

ARISTOTE, Organon, trad. Jean Tricot, Vrin, 1986.

BLANCHÉ, Robert, La logique et son histoire, Armand Colin, 1970.

BRUN, Jean, Héraclite, Seghers, 1969.

CICÉRON, Divisions de l’art oratoire, Topiques, trad. Henri Bornecque, Bel. Let., 1960.

Les CYNIQUES, Fragments et témoignages, Trad. Léonce Paquet, clas. Phi. L de P, 1991.

DECAUX, Alain, L’Avorton de Dieu, vie de Saint Paul, Éditions Perrin, Coll. Tempus, 2003.

ÉPICURE, Lettres et Maximes, trad. Marcel Conche, PUF, 1990.

ESCHYLE, Théâtre complet, GF, nº 8, 1963.

FILLION-LAHILLE, Janine, le De ira de Sénèque et la philosophie stoïcienne des passions, Klincksieck, 1984.

FINLEY et BAILEY, L’Héritage de la Grèce et de Rome, Bouq., Laf., 1992.

HADOT, Pierre, Histoire de la pensée hellénistique et romaine, Collège de France, 1983.

LAËRCE, Diogène, Vies, doctrines et sentences des philosophes illustres, 2 vol., trad. Robert Genaille, GF, Flam., 1965.

LUCRÈCE, De la Nature, Gallimard, Coll. Tel., 1985.

MARC AURÈLE, Pensées pour moi-même, Manuel d’Épictète, GF, Flam., 1964.

MARROU, Henri-Irénée, Saint Augustin et la fin de la culture antique, éd. de Boccard, 1983.

Le Monde de la Bible, printemps 2008, nº hors série.

PLATON, œuvres complètes, 2 tomes, Pléiade, Gallimard, 1977.

SÉNÈQUE, La Providence, La Constance du sage, trad. François Ross, Arléa, 1991.

Les STOÏCIENS, Pléiade, Gal., 1962.

XÉNOPHON, Helléniques, Apologie de Socrate et Mémorables, GF, Flam., 1967.

 

[1] Le Monde de la Bible, printemps 2008, nº hors série, p. 29.

[2] Alain Decaux, L’avorton de Dieu, coll. Tempus, p. 17.

[3] Ibid.

[4] Le Monde de la Bible, op. cit., p. 22.

[5]  أعمال الرسل، 17 : 27-28.

[6] Les pensées, VII, IX, 2.

[7]  2 كورنتس 3، 11.

[8]  1 كورنتس 2، 6-16.

[9]  أعمال الرسل 18، 6.

[10]  أعمال الرسل 17، 32.