الزواج في التعليم المسيحي

المونسنيور بول كرم

بدايَةً، وقبل أن أعرض كيف نجد أهمّ المراجع عن سرّ الزواج، أستشهد بمثل الزّارع (متّى 13 /3-9) الذي يضعنا في إطار شامل حول تنوّع الأرض التي ستقع فيها بِذار البِشارة من قِبَل السيّد المسيح، الذي عبره سنرى في أيّة تُربة نبغي تجسيد معاني سرّ الزواج، من خلال ما تنقله الكنسيّة في تعليمها المسيحي.

أوّلاً : أهمّ المراجع عن سرّ الزواج

  1. كتاب التعليم المسيحيّ للكنيسة الكاثوليكيّة [1]

يتطرّق الكتاب إلى سرّ الزواج في الجزء الثّاني تحت عنوان الاحتفال بالسّر المسيحي، عبر المقال السّابع (فقرة 1601). ونورِد هنا العناوين التي ستدلّ بمضمونها على ما سنتطرّق إليه في التحليل لاحقًا. إذًا نجد الكنيسة تضع سِتّة عناوين رئيسيّة، هي:

أوّلاً: الزواج في تصميم الله (فقرة 1602): (الزواج في نِظام الخلق (فقرات 1603-1605)؛ الزواج تحت حُكم الخطيئة (فقرات 1606-1608)؛ الزواج تحت تربية الناموس (فقرات 1609-1611)؛ الزواج في ظلّ الرّب (فقرات 1612-1617)؛ البتوليّة لأجل المَلَكوت (فقرات 1618-1620)؛

ثانيًا: الاحتفال بالزواج (فقرات 1621-1624)؛

ثالثًا: الرِّضى الزوجيّ (فقرات 1625-1632)؛ الزواجات المُختلَطَة واختلاف الدين (فقرات 1633-1637)؛

رابعًا: مَفاعيل سرّ الزواج (فقرة 1638)؛ الوِثاق الزوجيّ (فقرات 1639-1640)؛ نِعمة سِرّ الزواج (فقرات 1641-1643)؛

خامسًا: فوائد الحُبّ الزوجيّ ومُقتضياته (فقرة 1643)؛ وحدة الزواج وديمومته (فقرات 1644-1645)؛ أمانة الحبّ الزوجيّ (فقرات 1646-1651)؛ الانفتاح على الخصب (فقرات 1652-1654)؛

– سادساً: الكنيسة البيتيّة (فقرات 1655-1658)؛

والإيجاز (فقرات 1659-1666).

2- منهج التعليم المسيحيّ في لبنان[2]

يأتي الحديث عن سرّ الزواج في السنة الثّانية من المرحلة المُتوسِّطة تحت عنوان “الأسرار”. فنجد المواضيع التالية:

– عرس قانا الجليل (يو 2/1-11)؛

– صلاة يسوع لأجل الوحدة (يو 17؛ أف 5/22-33؛ 1 قو 7/1-16)؛

– من الزواج الأوّل إلى كلّ زواج؛

– الدعوة الزوجيّة والدعوة إلى التبتّل؛

– سرّ الوحدة؛

– موانع الزواج؛

– الزواج المُختلط، واقتراح بشهادة حياة زوجين مسيحيّين من لبنان.

ويرد الحديث عن سرّ الزواج أيضًا في سياق السنة الرّابعة من المرحلة المُتوسِّطة، ضمن اللقاء “خلاص الإنسان بالمسيح”، في عنوان “الحبّ في الزواج المسيحيّ”:

– قبل الزواج إلفة أم مُغازلة؛

– الزواج أنانيّة أم عطاء؛

– ما رأي يسوع في الزواج المسيحيّ ؟

إنّ لكلّ هذه العناوين أهدافاً سنجد صداها العَمَلي عندما نحبكها مع مُجمَل العرض في تحليلنا، فيما بعد.

3ـ  دليل التعليم المسيحي العام[3]

يأتي الحديث تحديدًا عندما يُطلب التعليم المسيحيّ في مناسبة أحداث لها معناها الخاص في الحياة (فقرة 176)؛ وعندما يذكّر بأنّ الوالدين يقبلان في سرّ الزواج النعمة والمسؤوليّة لتربية أولادهما التربية المسيحيّة من أجل تقديم الشّهادة في نقل القيم الإنسانيّة والدينيّة (فقرة 226)؛ وعندما يتكلّم على نموذج معلّم التعليم المسيحيّ الذي يحتاج إليه عصرنا (فقرة 232)؛ وعندما يتطرّق إلى الرعيّة التي هي وسط لتعليم التعليم المسيحيّ، بخاصّةٍ في لقاءات التهيئة للأسرار (فقرة 258).

فالمُلاحَظ هنا هو التركيز الكبير على إحياء سرّ الزواج (Vivre le Sacrement du mariage) كنهج التزام مع بقيّة الأسرار السّبعة.

4- كتاب حياتي هي المسيح من سلسلة يسوع طريقنا[4]

يأتي الكلام على سرّ الزواج في الملف الثّاني من الكتاب، تحت عنوان: “الحبّ، الأهل، الأولاد، وسرّ الزواج”. ويحمل الملف عناوين للقاءات التالية:

– الحبّ، الأهل، الأولاد؛

– الحبّ والزواج؛

– الزواج في أيّامنا؛

– بالمجد والكرامة كلّلهُما؛

– إنّ هذا السرّ لعظيم وخلاصة الملف والملحق.

5- في كتاب الأسرار من سلسلة طريق المحبة[5]

يقع سرّ الزواج في اللقاء الثامن تحت عنوان “الزواج والعائلة”، حيث يبدأ الكتاب بعمل تمهيديّ، ثم يتناول الزواج كعقد طبيعيّ مقدّس، والزواج كسرّ فائق الطبيعة، ثم ينتهي بالعمل التطبيقيّ والترنيمة. يختتم المؤلّفون الفصل بتسليط الضوء على بعض الأشياء العمليّة التي يجب أن تُفهم بوضوح وعمق.

ثانيًا ـ البعد الرعوي لسرّ الزواج المقدّس

 

بعد هذا العرض، أشرح وأحلّل البُعد الرعوي لسرّ الزواج المُقدّس في رسالة التعليم المسيحيّ:

أ) بناءً على القراءة الأولى لما ورد أعلاه، وبخاصة من خلال العناوين، وبعد أن نستذكر مثل الزّارع، أرى أنّه من البديهيّ ربط كلّ مسيرة التعليم المسيحيّ كفعل “تنشئة تراتُبيّة” formation échelonnée لحبك الإنسان ووصله بالأسرار كلّها. فمخطئ من يظن أنّ التكلّم على سرّ الزواج يستثني بقيّة الأسرار. ما يعني أنّ الأسرار مُترابط بعضها ببعض وتتواصل كالسلسلة، فيصل الفرد مع الجماعة إلى قرار اختيار الزواج لا كعادة اجتماعيّة وحسب، بل كفعل التزام بالأمانة لله والإنسان[6]، وكتعبير عن عيش الإيمان وترجمته ضمن العائلة، بعد أن يكون قد تجذّر في معموديّته التي هي مدخل كلّ الأسرار.

ب) لقد شعرت الكنيسة بأهمّية إعداد الطالبَين للزّواج مُسبقًا، ويمكن اعتباره، في ظلّ الواقع الاجتماعي، نوعًا من التعليم المسيحيّ المُتخصِّص، من أجل تحمّل مسؤوليّة مُتطلِّبات الزواج. فدورات التّحضير والإعداد للزّواج أصبحت اليوم أمرًا إلزاميًّا، وضروريًّا، وهذا لا يعني بالطّبع أنّ من تحضّر للزّواج قد حصل على المناعة المُطلقة. ويا ليت على غِرار المراحل المتوسَّطة أو الثانويّة يتمّ التذكير بلقاءات تنشئة كهذه، كي يبقى الزواج هدفًا وليس غايةً، إذ كلّما اقتربت منه، اكتشفت بُعدَه أي عمقه، وهذا ما يتطلّب جُهد كلّ زوج وزوجة كيلا يقعا في الملَل والرتوب أي الروتين. من هذا المُنطلق نفهم لماذا تحثّ الكنيسة اليوم المؤمنين على مواصلة تنشئتهم، أي التعليم المسيحي للبالغين. فهذا الموضوع كان عنوان دورة مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك لسنتين مُتتاليتين (2005-2006).

ج) إنّ التعليم المسيحيّ حول سرّ الزواج، في المرحلة المدرسيّة، هو بمثابة الشرارة الأولى للوهج الشبابيّ، إذ لو خفّتَ، لوقع الإنسان رهينة العادات والتقاليد التي تُحافظ على الإطار الخارجي، في حين أنّها تنسى ما في داخله من رسم جميل. من هنا نجد العديد من الأزواج الذين يلتقون في لقاءات صلاة أو تنشئة في الرعايا ليواصلوا وهج زواجهم مع أمثالهم ممّن تزوّجوا حديثًا jeunes couples؛ أو حتّى من أجل تجسيد الروحانيّات في مسيرة الحياة الزوجيّة ضمن العائلة groupes de prière؛ أو أيضًا لترسيخ المفاهيم عَمَليًّا من خلال التركيز على الرموز catéchèse par symboles.

 

د) إنّ الأمانة والحبّ ينضجان وينموان متى اتّسما بروح من المسؤوليّة من قبل الطرفين، بخاصّةٍ في إعطاء المزيد من الوقت للتتلمذ في مدرسة يسوع. فلا يجوز الاكتفاء بالقليل أو حتّى الوقوف على محطّات المعلومات الدينيّة القليلة، بل يجب بلوغ العُمق. وهنا أقترح على الأهل أن يواكبوا أولادهم خلال لقاءات التعليم المسيحيّ، فيتذكّروا ويستذكروا ويستحضروا دورهم من جديد. كما لا بدّ من الانفتاح على نعمة الحياة بروح الشراكة مع الله الخالق. فإذا اعتبرا أنّ الزواج هو نقطة الوصول، كانا على خطأ. أما إذا أخذا في الاعتبار أنّ الزواج هو نقطة الانطلاق نحو ديمومة “النَّعم”؛ ساعتئذٍ يدخلان في معترك المغامرة الشيّقة في اكتشاف الآخر، وتاليًا قبول هذه الهبة والحفاظ عليها من أجل عيش المحبّة. وهذا ما نستخلصه من مضمون العناوين التي ذُكرت في عرض المراجع أعلاه.

إنّ رسالة التعليم المسيحيّ في سرّ الزواج يجب ألا تتوقّف على العناوين وحدها، بل يُفترض أن تتعدّاها إلى شهادة الحياة التي وجب تسليط الضوء عليها من قبل الأهل خاصّةً. فمثلاً إحياء “رتبة” تجديد “الوثاق الزوجي” أو “نَعَم الزواج” أو “عَهد الزواج” (على غرار ما يتمّ الاحتفال به في رتبة تجديد مواعيد العماد المقدس)، لهو بمثابة تحفيز الطالب والأهل معًا كي يُحافظوا على مناعة سرّ الزواج. وهذا ما يقوم به قسم من معلّمي التعليم المسيحيّ في المدارس مع أولياء الطلبة بعد الانتهاء من شرح سرّ الزواج في المرحلة المتوسِّطة. والمُجالسة التي ينتج عنها الإصغاء والحوار، تشجّع الأولاد على المُضي بالنَهج عينه في المُستقبل، وهذا تحدٍّ كبير.

فما الذي يجب أن نستخلصه عمليًّا ونحمله كزاد في خِتام آخر مُحاضرات هذا المؤتمر؟

  1. الانفتاح: إن لم نركّز في تعليمنا المسيحيّ على الانفتاح على كلّ الأسرار بشكل عام، وسرّ الزواج موضوعنا بشكل خاص، يبقى تعليمنا ناقصًا. وهنا تنطلق المسؤوليّة من الفرد إلى الجَماعة لتنعكس على البُعد الاجتماعيّ. ألا تظنّون أنّ النقص في الانفتاح نحو ما نجهل، هو من آفات أيّامنا الحاضرة ؟!
  1. الأرض الخَصبة: في مثل الزّارع، لم تأتِ النتيجة إلاّ عندما وقعت الحبّة في الأرض الطيّبة. وهذا يتطلّب منّا الجهد والصبر لتحويل الأرض الصّلبة الجرداء، المليئة بالجهل الديني عند أجيالنا، إلى أرض خصبة تُعطي ثمارًا ذات نوعيّة وكميّة.
  1. عَمَل الرّوح: مهما عظُمَ شأننا، ومهما كان الوقت الذي سنخصّصه للمُثابرة والمُغامرة في حقل تربية الإيمان éduquer à la foi، فلا بديل من فتح المجال لعَمَل الرّوح القُدُس الذي سيُنمّي زرعنا في الخفاء. فنحن وإن كُنّا المُحَفِّزين المُباشرين، علينا أن نؤمِن بيَد الله الخفيّة التي تعمل دائِمًا من خلالنا، ولن تعمَل إلاّ من خلالنا كي تُنمّي الإنسانيّة والروحانيّة لدى شعبنا. وهذا يتطلّب وقتًا.

في الخِتام، أنقل إليكم على سبيل المِثال، خبرةً عشتها حين خدمت في الخارج (إيطاليا وفرنسا): فعلى الرغم من تراجع الالتزام في المُجتمع الغربي، نرى أنّه يُعطى الوقت ولثلاث سنوات أقلّه، من أجل مُرافقة الأولاد والأهل في التعليم المسيحيّ في الرعيّة قبل نَيلِهم القربانة الأولى. فهل “نُفَبرِك” الأسرار أم نُرافق ونسهر ونُعلِّم في التعليم المسيحيّ؟.

 

1 راجع الترجمة العربيّة لكتاب التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكيّة، حاضرة الفاتيكان، 1997، الفقرات 1601 إلى 1666؛ منشورات المكتبة البولسيّة والرسل، جونيه، لبنان، 1999.

2 راجع منهج التعليم المسيحي الصّادر عن اللجنة الكاثوليكيّة للتعليم المسيحيّ في لبنان، أنطلياس، 1980.

3  راجع الترجمة العربيّة لدليل التعليم المسيحيّ العام الصّادر عن مجمع الإكليروس في الفاتيكان، منشورات المركز الكاثوليكي للتعليم المسيحيّ في لبنان، أنطلياس، 2000.

4  راجع حياتي هي المسيح من سلسلة يسوع طريقنا، تأليف الأخت ورده مكسور، التعليم الأساسي للسنة التّاسعة، منشورات دار المشرق، 2005.

5  راجع الأسرار من سلسلة طريق المحبّة، تأليف الأب جاك قزّي، الجزء السّابع للسنة المتوسّطة الثانية، منشورات طريق المحبّة، 1995.

6  راجع الترجمة العربيّة لدليل التعليم المسيحيّ العام الصّادر عن مجمع الإكليروس في الفاتيكان، منشورات المركز الكاثوليكي للتعليم المسيحيّ في لبنان، في لبنان، أنطلياس، 2000.