عهد الأمانة الإلهية في ذاكرة إسرائيل

الخوري جان عزام

العهد بين الله وإسرائيل هو قبل كل شيء عطيّة مجانية[1] من الله لشعبه، واختيار حرّ من الله تجاه مجموعة عبيد مقهورين، ليجعل منهم آية للشعوب ونوراً لها[2]. وبالرغم من وجود نصوص متعدّدة تظهر العهد بمثابة عقد متبادل بين الله والآباء أو بينه وبين شعبه[3]، فأن الطاغي من هذه هو اختبار إسرائيل للعهد بكونه وعدًا إلهيًّا مجانيًّا[4] يقوم قبل كل شيء على عطية الأرض والنسل، ترافقهما البركة الإلهيّة المعبَّر عنها بأوجه كثيرة، كالمرافقة والحماية[5] والخصب[6] والحضور الإلهيّ، أي ألـ”شكينا”، إلخ. ويؤكد أنبياء السبي، وبخاصة إرميا وحزقيال وأشعيا الثاني هذه الخلاصة اللاهوتيّة للعهد كعطيّة مجانيّة، في نصوص متعدّدة أشهرها إرميا 31، وحزقيال 36، وأكثر نصوص أشعيا الثاني. فلماذا توصّل إسرائيل إلى هذه الخلاصة اللاهوتيّة الناتجة من ذاكرته اللاهوتيّة عن علاقته بالله؟ نشير هنا إلى أنّ هذه الخلاصة النبويّة النهائيّة التي تجد قمّتها في نصوص الأنبياء المذكورين، سبق أن عبّر عنها بشكل رمزيّ أحد أوائل الأنبياء الكتّاب، أعني به النبي هوشع، وذلك من خلال التعبير عن العهد بمثابة علاقة زواج بين الله وشعبه.

سنبدأ موضوعنا إذًا بطرح إشكاليّة العهد في إسرائيل، ثم ننتقل لنبيّن أهميّة صورة الزواج في سفر هوشع، كإطار واقعيّ لفهم معنى الأمانة الإلهيّة كضمانة لاستمراريّة العهد.

أوّلاً ـ العهــد بيــن الله وشعبــه

أ. معنى الأمانة والحب الإلهيين

نودّ هنا أن نذكر بشكل مختصر أهمّ المراحل التي ميّزت العهد بين الله وإسرائيل والتي يمكن تقسيم تاريخ إسرائيل على أساسها.

يبدأ العهد مع الآباء الأوّلين وهم البطاركة الثلاثة : إبراهيم وإسحق ويعقوب، مع أهمية خاصّة لقصة يوسف في هذه الحقبة. ومع الاعتراف بأنّ هذه النصوص قد أعيدت صياغتها، وزيد عليها في حقبات كثيرة حتى فيما بعد السبي، إلا أنّ ما يميّزها جميعًا هو هذه العلاقة الحميمة والشخصيّة بين الله والآباء المذكورين، حتى ليمكننا الكلام على عهد شخصيّ بين الله وكلٍّ من إبراهيم واسحق ويعقوب، ومع الشعب العبراني كلّه خلال العبور من مصر إلى أرض الميعاد[7].

وفي حياة كل من هؤلاء علامة فارقة هي اختبار أمانة الله وإخلاصه لعهده بالرغم من بعض السقطات الأساسيّة التي عاشها كلٌّ منهم. ففي العهد مع إبراهيم مجانيّة إلهيّة كبيرة تقوم على دعوته  إلى حياة جديدة، والتحوّل من قهر العقم إلى عطيّة الابن اسحق، والى الخصب والأبوّة، ومن رعب الموت من دون أرض تضمّه عند مماته إلى عطيّة أرض الموعد والحياة. وفي العهد مع إسحق استمراريّة لعهد الوفاء الإلهي وحياة تكاد تكون طبق الأصل عن حياة الوالد المؤمن. وفي العهد مع يعقوب اختيار يتخطّى التقاليد العائليّة، ومجانيّة كاملة في دعوة إنسان تميّز بالاحتيال الدائم للوصول إلى مآربه، أعني يعقوب، إلى إسرائيل القويّ مع الله وبه. وماذا نقول عن يوسف الخادم المتألم الذي جعله الله صورة مسبقة للمسيح الفادي إخوته من الجوع والتشّرد، والمعطي الخبز للشعوب؟ كلّ هؤلاء الآباء يظهرون من دون شكّ أمانة الله لمواعيده وصدق كلمته. لكن يمكننا القول أيضًا إن خصب حياتهم مرتبط أيضًا بأمانتهم ولو في القليل، وطاعتهم ولو بعد تعثّر.

ولأنّ نسلهم هو الموعود والمقصود، فقد بدأت قصة عهد الله مع أبناء إبراهيم وإسحق ويعقوب ويوسف، كما بدأت مع إبراهيم نفسه : دعوة للخروج من أرض العبوديّة، وقدرة إلهيّة لاقتلاع المقهورين من أرض الإذلال[8]. في سفر يشوع بن نون، في الفصل 24، يُذكّر الكاتب الشعب بأنّ آباءهم لم تقهرهم عبوديّة فرعون وحدها، بل لأنهم عبدوا آلهة مصر واستسلموا لمغرياتها. فالذي حافظ على العهد طيلة فترة العبوديّة هو إله إبراهيم وإسحق ويعقوب، وهو الذي أخذ المبادرة ونزل إلى المصر ليرى مذلّة شعبه، ثم بادر إلى تخليصهم من خلال إنسان محطَّم هو الآخر بخطاياه وفشله، أعني موسى، الذي بطاعته، ولو بعد تردّد كبير، صار كليم الله وقائد الشعب في مسيرة التحرّر والخلاص.

أمّا الشعب نفسه فلم يكن حرًا، حتّى وإن تحرّر من أرض العبودية! وكم كان على الله أن يتحمّل غلاظة رقابهم وقساوة قلوبهم ليحرّرهم من روح العبوديّة ومن غباوة عقولهم التي لم تعرف سوى تذمّر العبيد وكبريائهم المكبوت. فهذا الشعب كان قد رأى وشاهد واختبر أمانة الله ومحبّته. لكنّه كان مصابًا بفقدان الذاكرة الدائم[9]! هنا تظهر صفة جديدة عند الله، هي المغفرة وطول الأناة والحبّ الذي لا يعرف حدودًا، بل قل التواضع الذي قاده للنزول عند إرادتهم مرّات ومرّات، كما يفعل الأب مع ابنه الصغير، وهذا ما سيعبّر هوشع عنه لاحقًا في الفصل 11 من كتابه.

وينجح الله وصولاً بهم إلى أرض الموعد، إلى حيث ضحك إبراهيم بإسحق ابن الإيمان، وسُرت سارة لزيارة الله لبيتها، وهنئ إسحق بالبركة الإلهيّة واطمأن إلى ميراث النسل الجديد بمباركة يعقوب الأمين والمحبّ لمواعيد الآباء، من دون عيسو المزدري للبركة. عاد الشعب إلى إسرائيل، الأرض التي سمّيت بالاسم الجديد الذي أعطاه الله  ليعقوب يوم صراعه معه عند عبوره نهر يبّوق، نهر المعموديّة التي حوّلته من محتال إلى إنسان مؤمن وقويٍّ مع الله! عاد الشعب عابرًا نهر الأردن في ظل تابوت العهد والشهادة لأمانة الله وحبّه. ولكنه عبر الأردن وكأنه لم يعبر! فسرعان ما جذبته أعياد الكنعانيين واحتفالات الخصوبة والزنا المقدّس، فارتمى في أحضان عشتروت وهلّل للبعل وازدرى بركة الله، محاولاً أن يرضيه ببناء هيكل من خشب الأرز، مرصّعًا بالذهب والحجارة الكريمة، وكأنّه يقول له: اجلس هنا واحدًا من أصنامي التي أريدها أن تخدمني! اعتبروه إلها قويًا مخيفًا ولكنه عاجز عن إعطائهم الزيت والقمح والخمر… فهذه من عطايا البعل وحده! وملوكهم ما قصّروا : فبعد داود الذي كان ملكًا بحسب قلب الله، والذي جدّد الله العهد مع شعبه بوعده المسيحانيّ الأبديّ له ولنسله، بعد داود سقط الملوك بخدعة “الواقعيّة” الاقتصاديّة والسياسيّة والعسكريّة، فعاثوا في الأرض فسادًا وأقاموا التحالفات السياسيّة والعسكريّة على حساب الإيمان. أرادوا أن يكونوا ملوكًا مثل باقي الأمم، وأن يبنوا ممالك على شكل ممالك الأمم، فكان لا بدّ من تحجيم متطلّبات هذا الإله الذي لا يُرى، والمتطلِّب منهم الطاعة له ولشريعته، بدلاً من أن يعمل هو بإرادتهم كباقي آلهة الشعوب! بالنسبة إليهم لم يكن إلهًا نافعاً في القرارت السياسيّة، أو في الخيارات الاقتصاديّة، أو عندما يجب إرضاء الأقوياء والأغنياء على حساب فقراء الأرض. وماذا كان جواب يهوه، الإله الحّي، الذي لا يمكن سجنه في مكان وتحويله إلى إله مكان، لأنه الإله الحاضر أبدًا مع شعبه حتى في جحيم وثنيّته؟ هو الإله الموجود عكس الآلهة التي لها عيون ولا ترى، ولها أذان ولا تسمع، ولها يدان ولا تعمل! هو الإله الذي خلق الكون بكلمة قدرته، وخلق الإنسان على صورته كمثاله، لا كالآلهة المصنوعة بأيدي البشر وهي على شاكلة صانعيها وصورتهم. هنا تظهر أمانة الله من جديد لكلِّ مواعيده، ويعمل حبُّه في قلب شرّ الشعب وملوكهم المخدوعين بحبّ الهباء والأباطيل. هنا يدعو الله لهم مجدّدًا إبراهيم وإسحق ويعقوب وموسى وداود جددًا، فيختار إنسانًا مغمورًا لا نعرف حتى أباه ولا أمّه. إنه إيليا فاتحة الأنبياء الأحرار من كلّ رباط مع الناس أو الحكّام. إيليا التشبي الذي أرسل ليعيد إسرائيل إلى رشده من جديد، إلى العلاقة بالإله الواحد الحقيقيّ، بيهوه، إله إبراهيم وإسحق ويعقوب. ينبري إيليا من الفراغ القاتل في ذاكرة الشعب لحضور يهوه في تاريخه الحاضر. وليس مصادفة أنّه يحارب أكثر ما يحارب ملكًا تزوّج من وثنيّة، كاهنة لعشتروت وابنة عظيم كهنة البعل. آحاب وجيزابيل، في زواجهما واتّحادهما، يمثّلان خطيئة الإشراك التي وقع فيها، لا آحاب وحده، بل كلّ الشعب الذي أشرك البعل مع الإله الحقيقيّ. زواج آحاب بجيزابيل هو صورة لزواج الشعب بالبعل. وجيزابيل هي صورة الزانية، بالمعنى الدينيّ، التي أبعدت آحاب، والشعب وراءه، عن ارتباطه الأحاديّ والأبديّ بيهوه. هذا هو الباب الأول لولوج فكر الأنبياء في وعيهم حقيقة علاقة الله بشعبه، كونها علاقة ارتباط دائم كرباط الزواج، الذي لا يقتله سوى الزنا بكل أشكاله، الزنا الذي يعبّر عن الخيانة للعهد والأمانة والحبّ بين الزوجين.

ب. اللاّهوت النبويّ، لاهوت الذاكرة التاريخية للعهد

مع إيليا تبدأ حقبة تجديد الوعي الجماعيّ لعهد الله مع شعبه، وتجديد لذاكرته التاريخية لحبّ الله له. لا ندخل هنا في تفاصيل هذا الموضوع، يكفي أن نتوقف عند نقطتين شدّد عليهما الأنبياء، وهما صدق الله وأمانته في عهده الخلاصيّ التاريخيّ مع إسرائيل. وهذا كله في إطار ما نسميه بلاهوت التاريخ، الذي تميزت به الإعلانات النبويّة المتلاحقة.

يشدّد الأنبياء دائمًا في كلامهم على تنشيط ذاكرة الشعب التاريخية في علاقتهم بالله. نقطة الارتكاز دائمًا هي الحدث المؤسّس للعهد مع الشعب، بكنه شعب الله، أعني حدث الخروج من مصر ومسيرة الصحراء حتّى الدخول في أرض الموعد؛ وهنا تكثر الأمثلة، ونجد لها خلاصات متعدّدة في سفر التثنية بشكل أساسيّ، وهو السفر الذي يلخّص اللاهوت النبويّ. ولكننا نجد لدى كلّ الأنبياء، كلّ في إطاره التاريخيّ، أمثلة لها. فها عاموس أوّل الأنبياء الكُتَّاب يفتتح نبوءته بإعلان دينونة إسرائيل، لا لأجل خطايا أخلاقيّة بالدرجة الأولى، بل لنسيانه التاريخ الخلاصيّ والتنكّر له (عا 2: 6-16)[10]. فالله هو الذي أخرج الشعب من مصر وقاده في الصحراء، وأعطاه أرضًا ليست أرضه بعد أن طرد شعوبًا قويّة من أمامه، ولكنه تنكّر لله وعبد الأوثان. ولا يكفي! لقد أرسل الله لهم الأنبياء ليذكّروهم بقوة الكلمة، وبدعوتهم واختيارهم ليكونوا شعب الله الخاص، ولا نفعَ! فقد طلبوا من الأنبياء أن يسكتوا. ثم أرسل لهم نذراء ليبيّّنوا لهم قيمة دعوتهم كي يكونوا شعبًا مقدّسًا بالتكرّس لله والانتماء غليه. ولا نفع! فقد أجبروا النُّذراء علىأن يفكّوا نذرهم ويشربوا المسكر. لقد كانت دعوة إسرائيل أن يكون، كما هو جوهر العهد المقطوع في سيناء: أمّة مقدسة ومملكة من الكهنة، أي شعبًا مكرّسًا لله وحده وخادمًا للإيمان به بين الشعوب[11]. هاتان الكلمتان تعبّران عن الانتماء والخصب معًا، تمامًا كالزواج الذي يربط فلان بفلانة برباط مقدّس ينفي الرباط مع أحد آخر، وتكون ثمرته خدمة الحياة للأجيال القادمة.

وبدوره يشدّد هوشع على هذا اللاهوت في الفصل 11 من كتابه، حيث يبرز علاقة الله الأبويّة بشعبه وحبّه له في كلّ تاريخه: ” عندما كان إسرائيل صبيا أحببته، ومن مصر دعوت ابني…[12] وهنا أيضا الملاحظة عينها: لا جواب من الشعب سوى النكران لروابط الحبّ والرحمة، والارتماء في أحضان البعل وعشتروت، وهكذا هو الأمر مع كلّ الأنبياء. إنه تاريخ خلاصي ملآن بالحب الإلهيّ من جهة، وبخيانة الشعب لهذا الحبّ من جهة أخرى.

طبعًا، لو اكتفى الأنبياء بهذه الملاحظة لما كانوا أنبياء حقًا! فهذا ما قد يلاحظه أيّ إنسان. ولكنّ الأنبياء رأوا أبعد من ذلك، فعلى الرغم من التهديد والوعيد بقطع الله عهده مع شعبه بسبب خطاياه، تكلّم الأنبياء على حقيقة تاريخية ساطعة لا يمكن إلا أن تأتي من الله نفسه: إنها حقيقة أمانة الله الدائمة لكلمته وحبّه الزوجي الذي لا ينفصل لشعبه. وهذه الأمانة وهذا الحب يبيّنان من جهة صدق كلمته وفاعليتها التاريخية، أي إنّها كلمة تحققت كما قيلت بفم الله ولم تكذب أبدًا، ويبيّنان من جهة أخرى أمانة الله لنفسه ولوعوده التي ما انقطعت بالرّغم من خطيئة هذا الشعب. أعتقد أننا يجب أن نبحث في الكلام النبوي عن هذين الوعي والإدراك لأمانة الله الدائمة التي وحدها تقود التاريخ الخلاصي، وتؤمّن استمراريّة العهد مع الشعب ومع البشريّة جمعاء. من هنا يمكننا فهم لاهوت أنبياء السبي عن العهد، وهو لاهوت أُنضِج بالاختبار التاريخيّ بمفهوم العهد، كعهد أمانة وحب إلهيين ثابتين.

فالعهد لم يقم على عقد متبادل، وإن بدا كذلك في بعض النصوص، أعني صيغة: “تكونون لي شعبًا وأكون لكم إلهًا“. فهذه الصيغة هي ثمرة للعهد وليست شرطًا لعقد اتّفاق بين متساويين. والعهد ليس مجرد عطيّة مجّانية إن رفضت تسقط ويتخلى المعطي عن عطيّته، لأن العهد لا يقوم على الإنسان، لا لشيء إلا لأنه عاجز بالكلية عن المحافظة عليه، ولأنّ اختبار الإنسان لنفسه هو سرعة سقوطه في الخطيئة أمام تجارب الأوثان بأشكالها المتعددة. هنا نجد الجواب الإلهيّ المعبَّر عنه لدى الأنبياء الكبار أنفسهم، بتشديدهم على أنّ الأمانة الوحيدة للعهد هي أمانة الله، والضمانة الوحيدة لاستمرار العهد هي في حبِّ الله: “سآخذكم من الأمم وأجمعكم في أرضكم، وأرشّ عليكم ماء طاهرًا، وأطهّركم من جميع أصنامكم، وأعطيكم قلبًا جديدًا، وأجعل في أحشائكم روحًا جديدًا، وأعطيكم قلبًا من لحم، وأجعل روحي في أحشائكم، وأجعلكم تسلكون في فرائضي وتحفظون أحكامي وتعملون بها (حز 36: 24ت).

لاحظ أنّ هذه الآية الأخيرة التي تعلن إمكانيّة الإنسان في طاعة الله بالسلوك في فرائضه وحفظ أحكامه، هي ثمرة لما فعله الله لتغيير قلب الإنسان وإسكان روحه في داخله. ولو كان الله ينتظر من الإنسان أن يعمل بفرائضه ويحافظ على عهده بإرادته لما احتاج إلى التدخّل المباشر لتغيير قلبه وروحه! إذًا هناك عمليّة تحويل كاملة، يعلن الله أنه سيعملها في أولئك الذين تركوه ونبذوا عهده. وهل من جواب حبّ وأمانة أكثر من هذا؟

بهذا المعنى نقرأ أيضًا نصّ إرميا الشهير في الفصل 31 بموضوع العهد الجديد:” وستأتي أيام فأقطع فيها مع بيت إسرائيل وبيت يهوّذا عهدًا جديدًا لا كالعهد الذي قطعته مع آبائهم حين أمسكت بيدهم وأخرجتهم من أرض مصر، لأنهم نقضوه[13]، مع أنّي تزوّجتهم. لأنّ هذا العهد الجديد الذي أقطعه مع بيت إسرائيل بعد تلك الأيام هو أني سأجعل شريعتي في ضمائرهم وأكتبها في قلوبهم، وأكون لهم إلهًا ويكونون لي شعبًا، فلا يعلّم بعد واحدهم الآخر، والأخ أخاه، أن يعرف الرب. فجميعهم من صغيرهم إلى كبيرهم سيعرفونني، لأنّني سأغفر ذنوبهم ولكن أذكر خطاياهم من بعد” (إر 31: 31-34)[14].

نلاحظ هنا أيضًا أن العهد يسمّى جديدًا ليس لأن الله نقض القديم، بل لأنّ إسرائيل نقضه. لكنّ صيغة العهد لم تتغير : أكون لهم إلهًا ويكونون لي شعبًا. إذًا فالعهد هو هو من جهة الله، ولكنّ الذي تبيّن مع الزمن أنّ إسرائيل لم يقدر أن يحفظ العهد ويكون له أمينًا. فهذه المرة، سيكون العمل كلّه على الله وحده، هو الذي سيغيّر الضمائر ويزرع شريعته فيها، وسيغيّر القلوب ويكتب عهده فيها، أللهمّ إن آمنوا به وتركوه يعمل![15].

لاحظ أيضًا أن هذا العهد بقديمه وجديده يتّصف بصفة الزواج الإلهيّ لشعبه وارتباطه به ارتباطًا دائمًا لا تراجع عنه. ولاحظ أيضًا أنّ الذي سيقود الشعب إلى الإخلاص لعهد الله المتجدّد هو اكتشافه أنّ الله هو المغفرة فوق كلّ شيء.

هذه البشارة موجودة أيضًا في أشعيا الثاني الذي يزخر بالفصول والآيات المعبِّرة عن هذه المغفرة الإلهيّة الكاملة لشعب تركه ونبذ عهده. فيقول النبي للّذين فهموا أن الربّ هو زوج شعبه وأنه طلَّقه بسبب خطاياه: “إن كنت طلّقت أمّكم فأين كتاب الطلاق؟” (أش 50: 1). وفي مكان آخر يقول لصهيون التي تخاف أن يكون الله قد نسيها: “حتّى ولو الأمّ نسيت رضيعها، فأنا لن أنساكِ… أنظري قد جعلتكِ كختمٍ على كفَّي يديّ “ (أش 49: 1-16).

خلاصة هذا القسم الأول من حديثنا هو أنّ ذاكرة إسرائيل التاريخيّة لأمانة الله وحبّه ومغفرته هي وحدها التي أبقت البقيّة الصغيرة في إيمانها، وكانت لها الضمانة الأكيدة لاستمرار هذا العهد، بالرّغم من كلّ الخطايا التي ارتكبها إسرائيل. إسرائيل المتجدّد بعهد الله عاد لا ينظر إلى ذاته بل إلى الله، مثل إبراهيم الذي تخلّى عن إسماعيل الآتي من قوّته وحساباته، ليستطيع استقبال إسحق ابن الوعد الإلهيّ المجانيّ؛ ومثل إسحق الذي فهم أن الله لا يرغب بذبحه بل يريد أن يعيده إلى أبيه، لا ابنًا جسديًّا وحسب، بل ابن الموعد وعلامة البركة؛ ومثل يعقوب الذي صارع الله واعترف بضعفه، عاد لا يطلب الحياة من ذكائه بل من بركة الله له. العهد المتجدد هو عهد الاحتفال بأمانة الله وحبّه ومغفرته، وهو ما سيميز كلّ الأعياد والاحتفالات وكلّ الأناشيد والمزامير التي صارت تعبيرًا دائمًا عن فرح الخطأة التائبين وامتنانهم لحبّ من غفر لهم مجّانًا، وعن بهجة الأسرى المطلقين الذين يبتهجون بقدرة محرِّرهم.

يبقى أن نسأل أنفسنا : لماذا الزواج بالذات هو الصورة الأكثر تعبيرًا عن العهد؟ الآن يمكننا الإجابة من خلال التوقّف عند نصّ هوشع 1- 3 وفهمه على الأسس التي وضعناها في القسم الأول.

ثانيًا ـ العهــد والــزواج

أ. صورة العهد في الزواج[16]

في هوشع 1-3 مستويان من الكلام النبويّ : الأوّل هو سرده علاقته بجومر امرأة الزنى التي تزوّجها وخانته، واجتهاده لإرجاعها إليه، والثاني هو كلام نبويّ عن علاقة الله بشعبه وهو يسير بموازاة المستوى الأول، مستفيدًا من زواج النبيّ بالزانية ليبيّن أن العهد مع الله هو زواج بينه وبين إسرائيل الزانية.

يبدأ النص بدعوة الله نبيّه ليتزوّج بامرأة زنى “إيشَت زِنونيم”، وهو تعبير يبيّن، من جهة، عدم أمانة إسرائيل للعهد وانحرافه إلى ممارسة العبادات الوثنيّة الكنعانيّة، التي كانت تتضمّن طقوس الخصب، أو ما يعرف بـ”الزنى المقدس” في معابد البعل والعشتروت[17]، كما يعبّر من جهة ثانية،  ومن الناحية اللغويّة، عن الفخامة والنوعيّة، مثل كلمة إِلوهيم، ويعني أن هذه المرأة زانية في طبعها ومستحيل أن تغيِّر طبعها! وهذا هو، في رأيي، بيت القصيد! النبيّ لا يتزوّج ليتزوّج وحسب، بل ليقوم برسالة نبويّة. هذا على المستوى الأول، أما على المستوى الثاني فالنصّ يذكر مباشرة معنى هذه الرسالة، أي التعبير عن واقع زوجة أخرى هي إسرائيل زوجة الربّ التي “تزني زنى بارتدادها عن الربّ!” أمّا الأولاد الطبيعيّون الذين رُزق النبيّ بهم من جومر فتتحول مناسبة إعطائهم الاسم إلى أمر إلهيّ بإعطائهم اسمًا يعبِّر عن واقع العهد المتعثّر بين الله وشعبه.

الأول يُدعى “يِزرَع إيل” لأنه يُذكّر بالسهل الخصب في شمال إسرائيل حيث كان بيت آحاب الصيفيّ وفيه سكنت جيزابيل في آخر أيامها يوم جاء ياهو وقلب الحكم من يورام بن آحاب وقتله مع كلّ أولاده، ومع جيزابيل أمه التي بقيت جثتها في الأرض وأكلتها الكلاب، تحقيقًا لكلمة النبي إيليا (2 مل 9). الموضوع هنا أن الله هو الذي أسلم يورام إلى يد ياهو على يد النبيّ أليشاع، وذلك لكي يزيل زنى جيزابيل، أي عبادة الأصنام والإشراك، من إسرائيل. فإذا ببيت ياهو نفسه يتحوّل إلى الصنمية والإشراك وكلّ ما نتج عنهما من ظلم اجتماعيّ وفساد دينيّ، على أيّام يروبعام الثاني، وهو ملك من نسل ياهو. فإن كان سهل يزرع إيل رمزًا لانتصار اليهويّة مع ياهو، فقد صار الآن في اسم ابن هوشع الأول رمزًا للانكسار أمام الوثنيين. ولا ننسى أنّ أهميّة هذا الاسم كبيرة لأنه يعني: الله يزرع، أي الله يُخصِب. وهذه، كما قلنا، كانت المشكلة الأساسيّة في سقوط إسرائيل في الخطيئة : فمن هو إله الخصب؟ يهوه أم البعل؟

الابنة الثانية تدعى “لُو رُوحامَه” أي غير المرحومة، لأنّه كما يقول النصّ لن يعود الله يرحم شعبه ويصفح عن ذنوبه! وهنا أيضًا أهميّة كبيرة للاسم الذي هو، كما قلنا سابقًا، خلاصة لصفة الله الأساسيّة التي تبني العهد وتضمنه: أي الرحمة والمغفرة. فإذا انقطعت المغفرة فماذا يبقى؟

الابن الثالث يدعى “لو عمّي” أي ليس بشعبي، وهنا تلميح واضح إلى صيغة العهد الأساسيّة: أكون لكم إلهًا وتكونون لي شعبًا. فالله صار لا يتعرّف في هذا الشعب إلى شعبه، وذلك لأنه لم يعد موجودًا بالنسبة إليهم “وِأَنِي لُو إِهيِي لَخِن” ! فيهوه هو الإله الموجود الحاضر والفاعل “إِهيي أَشِير إِهيِي” (خر 3).         

خلاصة القول هي أن العهد في تعثّر كبير من جهة إسرائيل، والله يريد من نبيّه أن يبيِّن، من خلال زواجه، حقيقة هذا الزواج المتعثّر بين الله وشعبه.

في الفصل الثاني، تبدأ محاكمة الزوج لزوجته الزانية، ومحاكمة الله لشعبه. لكن هذه المحاكمة غريبة! فهي تبدأ بطلب النبي من أبنائه أن يحاكموا أمّهم، ولكنّه ينتقل فورًا إلى استعمال أفعال الدعوة إلى التوبة. هي محاكمة وإعلان طلاق وشيك ونقض لواقع الزواج: “إنها ليست امرأتي ولا أنا زوجها”، ولكن في الوقت عينه هي دعوة للزانية لتنزع الزنى وعلامته عن وجهها وصدرها؛ إنّه تهديد ووعيد أمام فداحة الخطايا: “سأجرّدها عريانة وأردّها كما في يوم ميلادها وأجعلها كالصحراء، وأصيّرها كأرض قاحلة، وأُميتها من العطش، ولن أرحم بنيها…” . كلّها أفعال يشتبك فيها كلام النبيّ مع زوجته بكلام الله للشعب. فالزوج سيعرّي الزوجة ليُخجلها لعلّها تخجل! والله سيحوِّل أرض اللبن والعسل إلى صحراء، لعلّ الشعب يعترف بأن الخصب يأتي منه وليس من البعل. وفي الحالتين رغبة زوجيّة شديدة من النبيّ ومن الله في توبة الزانية.

الواضح أن المشكلة هي في المعرفة والاعتراف بالحقيقة: أيُّ زوجة لا تعرف أنّ زوجها يؤمِّن لها المأكل والمشرب؟ أمّا هذه الزوجة فتنطلق وراء عشّاقها لأنّها تعتقد أنّهم مصدر حياتها. وأيّ شعب لا يعرف أنّ الحياة والخصب يأتيانه من صانع السماء والأرض ومعطي المطر ومفجّر عيون المياه؟ أمّا هذا الشعب فيأخذ نِعَم إلهه، وبدلاً من أن يشكره عليها يذهب إلى أصنامه ليقدِّم لها التقادم وذبائح الشكر من ثمار الأرض والحيوانات التي أعطاه إيّاها الله.

ومع ذلك فهذا الزوج لا يبغي سوى عودة الخاطئة عن ضلالها، وهذا الإله لا يبغي سوى عودة المشركين عن إشراكهم. ولذلك نراه يلجأ إلى كلّ الوسائل التي تبدو سلبية لكن غايتها التوبة: الزوج يسدّ طريق زوجته لعلّها تلاحظ، إذا عادت لا تستطيع الوصول إلى عشاقها، أنّ الحياة أفضل لها في بيتها ومع زوجها؛ والله يمنع الخصب عن الأرض لعلّ سكّانها يكتشفون أنه هو وحده الضامن لحياتهم. وإذا كانت الوسائل الأولى واعدة ومتوعدة فالوسيلة الثالثة هي في إغوائها: إنها لغة الحبّ الأساسية: الإغواء والجذب ومخاطبة القلب في البريّة حيث لا حياة إلاّ في الحبيب ولا تعزية إلاّ بوجوده. في البريّة تبطل كلّ الضمانات لتبقى واحدة فقط، ضمانة الحبّ الغافر.

هذه إشارة واضحة إلى اختبار الصحراء الذي عاشه الله مع شعبه، والذي خاطبه فيها طيلة مسيرته من أرض المذلَّة إلى أرض الموعد. لم تكن أوقاتًا سهلة كما ذكرنا سابقًا، ولم يكن الشعب مصغيًا للربّ في كل حين، ولكنّه على الأقلّ اختبر أن حياته الوحيدة وطريقه الوحيد إلى الحياة هو في الاصغاء إلى صوت الله وطاعة كلمته.

وكما يقول النص نفسه في الآية 18: “في ذلك اليوم، يقول الرب، ستدعينني زوجي ولن تدعيني بعد ذلك بعلي“. وهنا انتقال في العلاقة من الصنميّة إلى عهد الزواج: ليس الله صنمًا يعطيني ما يرضيني، بل حبيب يشركني في حياتي.

نهاية الفصل الثاني رائعة لأنها تعلن تجديد كلّ العهود: عهد سيناء، عهد الحبّ والوفاء، وعهد الفردوس حيث سيستعيد الإنسان سلامه مع الخليقة كما كان آدم قبل الخطيئة، والعهد الكونيّ، حيث كلّ شيء خُلق للإنسان ولمجده (2: 19-25). وهنا تظهر من جديد مفردات العهد الأساسية: البِرّ والحقّ والرأفة والمراحم والأمانة ومعرفة الرب! فيعود الخصب إلى يزرع إيل لأنه بالربّ يعود، والرحمة لغير المرحومة لأنّ مغفرة الربّ تفعل ذلك، ويتجدّد العهد على الصيغة السابقة نفسها :”أنت شعبي”، يقول الله، “وأنت إلهي” يجيب إسرائيل. هي الصيغة عينها ولكن على أسس جديدة، أسس اختبار حبّ الله الذي لا يتراجع أمام الزنى والخيانة وعدم الأمانة. إنها مغفرة أقوى من الخطيئة، وحبّ أقوى من الموت. هنا يستحضرني نصّ جميل جدًا في نشيد الأناشيد تقول فيه الحبيبة للحبيب: “إحملني معك وهيّا لنذهب، هيّا اجذبني وراءك لنجري، سنحتفل بحبّك أكثر من الخمر، ما أحلى أن تُحب! (1: 4)، “بيّن لي أنت يا حبيب قلبي أين تذهب لترعى قطيعك، كَيْلا أبعُد وأتشرّد وراء رعيانٍ آخرين! (1: 7). هكذا هي إذًا العلاقة بين الله وشعبه، هذا هو أساس العهد الزوجيّ بينهما. تجربة التشرّد والبعد عن الحب الزوجيّ هي تجربة الإنسان الدائمة، وتجربة الأزواج الدائمة، لكن الحبّ وحده يمنع من السقوط في التجربة، والحبّ والمغفرة وحدهما يعيدان العهد الزوجيّ إلى مساره، حتى لو سقط الواحد في التجربة.

 ب. صورة الزواج في العهد

قلنا منذ البداية إن هو 1-3 يسير في مسارين متوازيين : المسار الأول يخبر علاقة النبيّ بزوجته الزانية والثاني علاقة الله بشعبه. هنا، تجدر الملاحظة أن النبي فهم علاقة الله بشعبه من خلال علاقته بزوجته، فكان زواجه ممهّدًا لنبوءته؛ هذا في الفصلين الأول والثاني. لكنّ المفاجأة الكبرى هي في الفصل الثالث، حيث يقول الله لنبيّه : “انطلق وأحبب امرأة يحبّها زوجها وهي فاسقة كما يحبّ الربّ بني إسرائيل” (3: 1). فعلى النبي إذًا أن يفهم الآن كيف يعيش زواجه من خلال فهمه لسرّ العهد الإلهيّ. الطلاق عادة هو السبيل المنطقيّ في الزواج عندما يزني أحد الفريقين ويستمر في الزنى. من خلال زواج الله بشعبه الذي لا طلاق فيه، بالرغم من الزنى، وبفضل حبّ الله ومغفرته، يفهم النبيّ أن زواجه لا يقوم على مجرّد أن يأخذ امرأة لينجب منها البنين، بل عليه أن يحبّ امرأته حتّى بفسادها، ويفتديها بالغالي والرخيص، كما فعل الله مع شعبه وما يزال يفعل.

 خاتمــة

الحبّ وحده، كما قلنا، هو جوهر هذه النبوءة، وهو يعبّر أفضل تعبير عن الخلاصات النبويّة التي ذكرناها في القسم الأول من الحديث. الحبّ وحده، حتى ولو من جهة واحدة، هو الضامن للعهد، وهو الضامن للزواج. لذلك قال القديس بولس في رسالته إلى أهل أفسس : “أيّتها النساء اخضعن لأزواجكنّ كما تخضع الكنيسة للمسيح عروسها”، وقال أيضًا: “أيّها الرجال أحبّوا نساءكم كما أحبّ المسيح الكنيسة وافتداها بدمه”.

 

[1] Cf. Beaucamp E., Les grands thèmes de l’Alliance, pp. 68-78.

[2] Cf. Martin-Achard R., Permanence de l’Ancien Testament, pp.81-89.

[3] Cf. Buis P., La notion d’Alliance dans l’Ancien Testament, p. 12.

[4] Cf. Buis P., op. cit., pp. 47-48.

[5] Cf. Vermeylen J., Le Dieu de la promesse et le Dieu de l’Alliance, p. 44.

[6] Cf., Vermeylen J., op. cit.,  p. 45.

[7] Cf. Krinetzki L., L’Alliance de Dieu avec les hommes, p. 25.

[8] Cf. Beaucamp E., op. cit., pp. 92-96:إحدى صفات إله العهد الأساسية هي أنّه الفادي (غوئيل)  

[9] Cf. Beaucamp E., op. cit., pp. 194-199.

[10] Cf. Heuret Ch., Amos et Osée, pp.32-38.

[11] Cf. Martin-Achard R., op. cit., pp. 129-146.

[12] Cf. Jacob E., Keller A., Amsler S., Osée, Joël, Abdias, pp. 79-84.

[13] Cf. Bright J., Covenant and Promise, pp. 190-194.

[14] Cf. Buis P., op. cit., pp. 181-187.

[15]  Cf. Martin-Achard R., op. cit., pp. 76-78.

[16] Cf. Jacob E., …, op. cit., pp.18-38. 

[17] Cf. Heuret Ch., op. cit., pp. 138-142.