الزواج المسيحي أيّام الدولة البيزنطيّة من القرن الرابع حتّى الثالث عشر: مقاربة تاريخيّة

الأستاذ كريستيان الحلو

قبل القرن الرابع، وبخاصة في الغرب، كان الزواج شأنًا عائليًّا يقتصر على انتقال الوصاية على المرأة من الأب إلى الزّوج.  وكان الأب يؤدي الدور الأساسيّ فيه.

لم تفرض الكنيسة الأولى أيّ شكل معيّن للزواج، لا في الشرق ولا في الغرب إذ كان الرضى المشترك وال”نعم” المتبادلة بحرّية أمام شهود كافية لعقده. فالكنيسة كانت تؤمن بأن الزواج مؤسسة إلهية منذ بدء الخليقة، والمسيحيّون الأوّلون اعتبروا أن سرّ العماد يكرّس ذواتهم وحياتهم، وتاليًا زواجهم، للمسيح إلى الأبد. أمّا آباء القرون الأولى فكان همّهم الأساسي : الحدّ من إمكان الانفصال بين الزوجين والعمل على إضفاء طابع مسيحيّ على المساكنة والتأثير على التشريع الروماني في ما خصّ الزواج.

قبل القرن الرابع كان الأسقف أو الكاهن مدعوًّا أحيانًا إلى حضور الزواج، فيوقّع مع الشهود على سجلّ عائليّ، ويبارك العروسين بصلاة قصيرة. لكنّ هذا العمل كان ذا طابع شخصيّ صرف.

أوّلاً ـ الكنيسة في القرنين الرابع والخامس مدعوّة إلى العُرس

ابتداءً من النصف الثاني للقرن الرابع، أصبح وجود الأسقف أو الكاهن في الزواج تقليدًا. وفي الشرق، الأكثر روحانية من الغرب، أضيف إلى بركة الكاهن وصلاته الخاصة إنشاد بعض المزامير أو مقاطع منها، كالآية السادسة من المزمور الثامن : “دون الإله حططته قليلاً بالمجد والكرامة كللته” ؛ أو الآيتين الرابعة والخامسة من المزمور الحادي والعشرين : “ببركات الخير بادرته وبتاج من إبريز توّجت رأسه، سألك الحياة فوهبتها له أيّامًا طوالاً أبد الدهور”.

فبدأ الزواج يتحوّل إلى ليتورجيا مع حضور الأسقف أو من ينوب عنه لتكريس الزواج، وثمّة إثبات على أن أوّل بركة ليتورجية للزواج أُعطيت أيام البابا داماسيوس (366-384).

انتشر هذا الحضور وازداد في جميع أنحاء الامبراطورية الرومانيّة بعد إعلان مرسوم ميلانو في سنة 313، فأقام الأسقف أو الكاهن مراسم الزواج التقليديّ بموجب القانون الروماني.

في الشرق يبارك الكاهن الزوجين اللذين يشبكان أيديهما ويضع الإكليل على رأسيهما. ويقول القديس غريغوريوس النزينزي (330-390) أن هذا التقليد الأخير أتى من أرمينيا. كذلك كانت الخطوبة في تقاليد الكنائس النسطوريّة والمونوفيزيّة خطوبة دينيّة، أمّا في الزواج فكان الكاهن يضع يده على رأس العروسين في الكنيسة، ويبارك الخاتمين بوجود شهود.

في الغرب كان الكاهن يضع طرحة فوق رأسي العروسين معًا. وكل هذه الأمور كان ربّ العائلة يقوم بها قبل أن يتولاّها الأسقف أو الكاهن.

في الاسكندريّة بدأت الذبيحة ترافق الزواج المُقام في المنازل لكن دخول الليتورجيا نقله فيما بعد إلى الكنائس.

هكذا انتقل الزواج المدنيّ للمسيحيين من المنازل إلى المذابح مع ليتورجيا شبه رسميّة كانت ركيزتها وضع الإكليل على رأس العروسين في الشرق، ووضع طرحة في الغرب بواسطة الكاهن الذي يباركهما.

وحتّى القرن التاسع كان لمسيحيي الدولة البيزنطيّة، ورثة الشرق والغرب الرومانيّ، نوعان من الزواج: المدنيّ والليتورجيّ.

مع بداية القرن الخامس أصبح الإكليروس في الشرق، وبسرعة أكبر من الغرب، فاعلاً في الزواج، لكنّ حضوره لم يكن ضروريًّا أو إلزاميًّا، حتّى إنّ عدم حضوره لم يبطل الزواج، لأن الكنيسة اعتبرت أنّ الرضى وقبول الزوجين هو العامل الأساسي لعقده.

طيلة الألف الأوّل لم يكن الزواج المسيحيّ لا “دينيًّا” ولا “مدنيًّا” إذ إنّ الكنيسة لا تقوم به ولا وجود لممثّل السلطة الزمنيّة عند عقده.

أمّا الأرمل أو الأرملة فلم توافق الكنيسة على زواجهما أو مباركته حتى القرن الثامن، لكنّها اعترفت بحصوله انطلاقًا من قول القديس بولس في رسالته إلى أهل أفسس: “إنّ هذا السرّ لعظيم، وإنّي أقول هذا في أمر المسيح والكنيسة ” (V -32).

أدّى موقف الكنيسة هذا إلى أمرين :

– في الألف الأوّل تشدّدت في مسألة الرابط الزوجي غير مبالية بشروطه القانونية.

– تناقض موقفها بين تعلّقها بالزّواج الوحيد من جهة وخلاص الذين لم تبارك زواجهم الثاني من جهة أخرى.

أمّا سبب هذين الأمرين فهو ثنائيّة السلطة زمنيّة وروحيّة، وتداخلهما في الدولة البيزنطيّة، وبخاصة بعد سنة 318، إذ اعترفت الامبراطوريّة بصلاحيّات الأساقفة وسلطتهم في الأمور الزمنيّة لأنّ الامبراطور قسطنطين أراد الاستفادة منهم تفعيلاً للإدارة المدنيّة، وتاليًا تحويلهم إلى أداة سياسيّة مميّزة لضبط أمور الامبراطوريّة.

ثانيًا ـ الزواج بين الأحكام المدنيّة والمبادئ المسيحيّة فيما بين القرنين الرابع والتاسع

بعد صدور مرسوم ميلانو في سنة 313 أصبح المسيحيون في الامبراطوريّة الرومانيّة أحرارًا في ممارسة شعائرهم الدينيّة، وسعى الامبراطور قسطنطين إلى مسحنة القوانين، كما شهد تشريع الزواج تشدّدًا مع خلفائه في الغرب سنتي 421 و439، وفي الشرق سنتي 438 و534. فشُدّدت الأحكام على الزنى وبخاصّة على النساء، أمّا شركاؤهن فيه فانتظرتهم ميتة شنيعة. وسعت التشريعات الجديدة إلى الحدّ من الطلاق وحصره ببعض الحالات، كالإجرام للرجل أو الزنى للمرأة، إضافة إلى حالات أخرى كالخدمة العسكرية الطويلة أو السجن أو الاستعباد أو المرض الشديد كالبرص أو الجنون. أمّا المطلّق شرعيًّا فيحقّ له الزواج مجدّدًا بعد مدّة، حدّدها القانون بحسب الحالات. لكنّ الطلاق بالتوافق خضع لأمزجة الأباطرة وبقي على هذه الحال قرونًا طويلة.

ما كانت مواقف الآباء والمجامع، بين القرنين الرابع والتاسع، من التناقض بين أحكام القانون والمبادئ الإنجيلية ؟

لم يكن هناك اختلاف حول هذا الموضوع بين الشرق والغرب. عارض الآباء التفرقة بين الجنسين و”القانون الذي لا يراعي المساواة وغير المتّزن” كما قال القديس غريغوريوس النزينزي سنة 380 أمام الامبراطور ثيودوسيوس. أمّا القديس هيرونيموس (347-420) فعارض “ما لا يُسمح به للنساء ويُسمح به للرجال”.

في ما خصّ الطلاق كان موقف المسيحيين على الشكل التالي : “لكلٍّ دوره : الدولة تحدّد الشروط القانونيّة للزواج والطلاق، والكنيسة تقترح أخلاقياتها المرتكزة على الإنجيل”.

من ناحية أخرى لم يعارض الآباء، مثل يوحنا فم الذهب (349-407) وباسيليوس القيصري (330-379) وغيرهما، الزواج الثاني للمطلّق شرعيًّا، إذ ساووا بين الزاني وموته، انطلاقًا من تفسيرهم للآية 32 من الفصل الخامس في إنجيل متّى : “أمّا أنا فأقول لكم : من طلّق امرأته إلاّ في حالة الفحشاء عرّضها للزنى ومن تزوّج مطلّقة فقد زنى”، إذ رأوا فيها إمكان زواج المطلّق، وبخاصّة إذا كان الزاني هو المرأة. والفكرة ترد أيضًا في الآية التاسعة من الفصل التاسع عشر في الإنجيل نفسه : “أمّا أنا فأقول لكم : من طلّق امرأته إلاّ للفحشاء وتزوّج غيرها فقد زنى”.

بقي هذا موقف الكنيسة جمعاء طيلة ستة قرون تحوّل بعدها الغرب إلى مواقف أكثر تشدّدًا. أمّا في الشرق فقد شُرِّع هذا الموقف في المجمع الخامس السادس (quinisexte) أو مجمع القبة (intrullo) سنة 692 الذي تُعتبر قراراته التشريع الأساسيّ في الكنيسة البيزنطيّة، وقد عرف هذا التشريع آخر تطوّراته في القرنين التاسع والعاشر حيث انفصل الشرق نهائيًّا عن التقليد الرومانيّ.

وقد عالج الآباء المجتمعون سرّ الزواج فاعتبروا الخطوبة الرسميّة الكنسيّة عقدًا ساري المفعول، وحرموا زواج الخطيبة من شخص ثالث غير الخطيب الأوّل، ومنعوا زواج الرجل بابنة عمّه أو المرأة وابنتها بأخوين، أو أخوين بأختين، كما عدّوا المرأة التي تترك زوجها وتقترن بآخر زانية، وإن ثبت تركها إيّاه من دون سبب يستحق الرجل العفو. أمّا الرجل الذي يترك زوجته ويقترن بأخرى فيُعتبر زانيًا. والمرأة التي يغيب زوجها عنها وتنقطع أخباره تُعتبر زانية إذا اقترنت بغيره قبل التثبّت من موته، كما منعوا زواج المسيحيين ممّن على غير دينهم.

في الواقع تدرّجت مواقف الآباء لتصبح أكثر ليونة ورأفة انطلاقًا من قول القديس بولس في رسالته الأولى إلى أهل كورنتس : “فإذا لم يطيقوا العفاف فليتزوّجوا، فالزواج خير من التحرّق” (VII – 9). وقد مرّ هذا التدرّج بخمس مراحل :

  • عدم السماح بالزّواج مجدّدًا : وكان هذا موقف القديس امبروزيوس أسقف ميلانو (335-397) والقديس هيرونيموس.
  • الزنى يبطل الزواج : وكان هذا موقف القديس غريغوريوس النزينزي، والقديس يوحنا فم الذهب، إنطلاقًا من قول القديس بولس في رسالته الأولى إلى أهل كورنتس : “وأما تعلمون أن من اتّحد ببغيٍّ صار وإيّاها جسدًا واحدًا؟ فإنّه قيل : يصير كلاهما جسدًا واحدًا” (VI-16). لكنهما لم يتطرّقا إلى موضوع الزواج مجدّدًا. وكان هذا موقف القديس هيلير أسقف بواتييه (315-367). فاعتُبر صمت هؤلاء بشأن الزواج مجدّدًا جوازًا له.
  • التساهل في الزواج مجدّدًا : فقد تمنّى باسيليوس القيصري عدم أخذ قول القديس بولس بحرفيّته، واستشهد بنصّ آخر للرسول في الرسالة نفسها : “وأما الآخرون فأقول لهم أنا لا الربّ : إذا كان لأخ امرأة غير مؤمنة ارتضت أن تساكنه، فلا يتخلَّ عنها، وإذا كان لامرأة زوج غير مؤمن ارتضى أن يساكنها، فلا تتخلَّ عن زوجها، لأنّ الزوج غير المؤمن يتقدّس بامرأته، والمرأة غير المؤمنة تتقدّس بالزوج المؤمن، وإلاّ كان أولادكم أنجاسًا، مع أنّهم قدّيسون. وإن شاء غير المؤمن أن يفارق فليفارق، فليس الأخ أو الأخت في مثل هذه الحال بمرتبطين، لأنّ الله دعاكم أن تعيشوا بسلام. فما أدراك أيّتها المرأة أنّك تخلّصين زوجك ؟ وما أدراك أيُّها الرجل أنّك تخلّص امرأتك ؟” (VII – 12-16)، ففتح بذلك طريق التوبة أمام الخاطئ. وقد كان هذا موقف كيرلّس الاسكندري (378 – 444) والقديس أوغسطينوس (354-430).
  • السماح بالزواج مجدّدًا للرجل وحده : انتشرت هذه الممارسة في الغرب انطلاقًا من قول القديس بولس في رسالته الأولى إلى أهل كورنتس : “وأمّا المتزوّجون فأوصيهم، ولست أنا الموصي، بل الرب، بأن لا تفارق المرأة زوجها، وإن فارقته فلتبقَ غير متزوّجة أو فلتصالح زوجها، وبألاّ يتخلّى الزوج عن امرأته” (VII – 10-11).
  • السماح بالزواج مجدّدًا للمرأة أيضًا : انطلاقًا من مؤلفات القديس ثيودوروس الطرسُسي أسقف كانتربري (602-690) التي وافقت عليها مجامع الغرب المحلية في القرن الثامن، مع أخذ وضع كل حالة على حدة في الاعتبار.

إنطلاقًا من هذه المرونة المتدرّجة في مواقف الآباء، أصبح الطلاق والزواج مجددًا بسبب الزنى أو لأسباب أخرى مسموحًا بهما في الشرق والغرب، بين القرنين الرابع والقرن التاسع. وقد أتت هذه المرونة نتيجة اعتبار الكنيسة نفسها مسؤولة عن خلاص البشر وليس عن خلاص المبادئ، من طريق تطويع هذه الأخيرة للرأفة بالبشر.

في القرن التاسع بدأ مسار الغرب في موضوع الزواج يفترق عن المعمول به في الشرق، إذ إنّ ممارسات الرحمة بدأت بالانحسار تشدّدًا في الغرب ما أدّى إلى الاختلاف نهائيًّا مع الشرق في القرن الثاني عشر، بسبب تحرّر الأساقفة من تأثير السلطة الزمنيّة وتسلّمهم تشريع الزواج، وبسبب الخلاف بين الشرق والغرب تنافسًا على الأوّليّة ولابتعاد الغرب عن لاهوت الآباء الشرقيين وعمق ليتورجيا الزواج عندهم. وإزاء تعدّد التقاليد الخاصّة بالزواج في الغرب واختلاف مراسم إقامته عند شعوبه، فضّلت الكنيسة التزام الإرث الرومانيّ في هذا الموضوع. أمّا الكنيسة البيزنظيّة في الشرق فاستمرّت في المسار نفسه وبقي الطلاق فيها مقبولاً لثلاثة أسباب : الزنى، غياب أحد الزوجين لأكثر من خمس سنوات والموت المدنيّ أي الحكم بالسجن أو بالإعدام.

ثالثًا ـ الزواج المسيحي زواجًا كنسيًّا بين القرنين الثامن والثاني عشر

منذ سنة 318 كان الأساقفة يصدرون أحكامهم في قضايا الزّواج أو غيرها باسم الامبراطور، وبحسب القوانين الرومانيّة. استمرّ هذا الأمر في الغرب طيلة ألف عام، أمّا في الشرق فقد سعى الأباطرة البيزنطيّون مع بداية القرن الخامس إلى فصل صلاحيّات السلطة الزمنيّة عن صلاحيّات السلطة الكنسيّة، لرغبة بعضهم في الانفصال عن زوجاتهم أو الزواج مجدّدًا، ما أدّى إلى رشقهم بالحرم الكنسيّ من قبل بطاركة القسطنطينيّة، كما حصل سنة 906 مع الامبراطور لاون السادس الذي بدوره أصدر أمرًا بنفي البطريرك.

بنتيجة هذه الممارسات انعقد مجمع محلّي سنة 920، فرفض الزواج الرابع وحرم المتزوجين للمرة الثالثة لمدة خمس سنوات، وسمح بالزواج الثاني. أدّى قبول الكنيسة بمباركة الزواجين الثاني والثالث إلى انتقال مراسم عقد الزواج إلى السلطة الكنسيّة، فأصبح زواجًا كنسيًّا في الامبراطورية البينزطيّة أواخر القرن العاشر. وفي القرن الثالث عشر قرّر لاهوتيّو الشرق أنّ وضع الإكليل على رأس العروسين هو العامل المكّون لعقد الزواج وسرّه، وأصبح الكاهن هو الذي يمنح هذا السرّ.

أمّا التغيير النوعيّ في التشريع الشرقيّ للزواج فقد حصل سنة 997، مع قرارات البطريرك سيسينيوس الثاني وقد أصبحت هذه مرجعًا في الموضوع من حيث العقيدة والممارسة أيضًا. ومن أهمّ ما أتت به هذه التشريعات منع كلّ أشكال الزواج بين الأقارب لأسباب اقتصاديّة ـ اجتماعيّة، أهمّها الحدّ من تراكم الثروات العقاريّة، وتاليًا تقليص نفوذ الطبقة الارستقراطيّة اقتصاديًّا وسياسيًّا.

في الغرب كان مسار العلاقات بين الكنيسة والدولة مختلفًا. فكانت السلطة الكنسية هي المستفيدة دومًا من تطوّره، إذ إنّ انهيار الامبراطوريّة الرومانيّة الغربيّة في نهاية القرن الخامس وغزو الشعوب الجرمانيّة لأوروبا، أدّيا إلى نقل المبادرة إلى الكنيسة التي أمّنت للمؤمنين الحماية والاحتضان والسلطة، فاستفادت بحضورها من غياب الدولة. وقد ازداد حضورها في القرن السابع لأربعة أسباب :

– اعتماد الملوك على الأساقفة ورؤساء الأديار إذ لا سلالات لهم يؤمّنون لها النفوذ؛

– ضعف الملوك وفسادهم وعدم كفايتهم؛

– عدم رفض رجال الاكليروس السلطة المعطاة لهم؛

– احتكارهم العلم والمعرفة.

أدّى ذلك إلى قيام ثنائيّة العرش والمذبح التي بقيت في الغرب حتى الثورة الفرنسيّة، في القرن الثامن عشر. فأصبح للأساقفة ورؤساء الأديار موقعهم في الدولة، وتدخّل الملوك في تعيينهم، وانعقدت المجامع المحلّية بأمر السلطة الزمنيّة ومشاركتها وكانت قراراتها بمثابة قوانين في الدولة. فأضحت السلطتان الروحيّة والزمنيّة بمثابة ساقين لجسم واحد.

أمّا في ما خصّ تشريع الزواج فقد أدّت ثلاثة عوامل إلى جعله تشريعًا كنسيًّا : الزنى بين ذوي القربى، الزّواح المختلط وبخاصة مع اليهود، والخطف الذي يلغي حرية المرأة. وقد مرّ هذا التشريع بمراحل ثلاث :

  • في سنة 755 فرض مجمع ﭭرنوي (Verneuil) المحلي في فرنسا أن يتمّ الزواج علنيًّا، وإن غير دينيّ.
  • في النصف الثاني من القرن الثامن فرض استجواب العروسين كنسيًّا، وإعلام الكاهن والأقارب قبل الزواج، ولو لم تكن مباركة الكاهن للزواج إلزامية.
  • في أواسط القرن التاسع أصبح الزواج كنسيًّا، ووُضعت أسس الاستجواب الكنسيّ الذي عمّمه شارلمان سنة 802. كما أصبحت مباركة الكاهن للزواج إلزاميّة، فتحوّل هذا الأخير إلى ليتورجيا ودخل نطاق الحقّ الكنسيّ.

وابتداءً من القرن الحادي عشر أصبح الزواج شرعيًّا فقط “أمام” الكنيسة، إذ كان الكاهن يطلب موافقة الزوجين على مدخل الكنيسة، ثمّ يسلّم الأهل ابنتهم إلى زوجها ويبارك الكاهن الخاتمين قبل وضعهما في إصبعي الزوجين، وبعدها يبارك الزواج فيدخل الجميع الكنيسة حيث يحتفل بالذبيحة، وتتمّ بركة أخرى بوضع طرحة على رأس العروسين معًا، ثمّ يعطي الكاهن قبلة السلام للزوج الذي يعطيها بدوره إلى زوجته.

فالزواج الذي كان تقليدًا مدنيًّا استوعبته الليتورجيا الكنسيّة فأصبح زواجًا كنسيًّا. لكنّ ما سبق لم يعطِه شرعيّته، بل خصّ الكنيسة بالسلطة العليا عليه، وكان في الإمكان عقده خارج الأطر الكنسيّة ويُعترف به مدنيًّا. وسيبقى الأمر كذلك حتى المجمع التريدنتيني في القرن السادس عشر.

في الألف الأوّل كان الزواج المسيحيّ شأنًا مدنيًّا اعترفت به الكنيسة. وفي الألف الثاني أصبح الزواج المسيحيّ شأنًا كنسيًّا اعترفت به السلطة المدنيّة. لكنّ هذا الانقلاب في الصلاحيّات والمرجعيّات لم يغيّر شيئًا في ركيزة الزواج الأساسيّة وهي رضى الزوجين وقبولهما الذي يجعل منه سرًّا، حتى في غياب الشهود. فالزّواج مصدره الله الذي خلق الإنسان ذكرًا وأنثى، وجوهره “النعم” التي يقولها الزوجان أحدهما للآخر مدى الحياة. وهذا في الزواج المسيحيّ مفتاح الوحدانيّة السرّية والشرعيّة.

رابعًا ـ الرابط الزوجي سرًّا بين القرنين الحادي عشر والثالث عشر 

يعتبر القرن الثاني عشر قرن لاهوت الزواج بامتياز، في الشرق والغرب. وكانت الكنيسة قد بدأت بوضع هذا اللاهوت في القرن الحادي عشر انطلاقًا من المبدإ التالي : إنّ عقد الزواج المسيحيّ هو سرّ، وبما أنّ للكنيسة السلطة والصلاحيّة لمنح الأسرار، فهي تاليًا الوحيدة التي لها صلاحيّة منح سرّ الزواج.

وبما أن اللاهوت هو معرفة الله وعلاقته بالإنسان عبر التاريخ، ولم يكن لدى الكنيسة نظريّة مسبقة قابلة للتطبيق، لذلك سعت إلى قراءة مشروع الله فيه والإضاءة عليه بالإنجيل، وتحسين أوضاعه انطلاقًا من الواقع المعيش، الذي انبثقت منه قواعد الزواج والعقيدة التي ستسوّغه.

يمرّ الزّواج بمراحل ثلاث :

  • الخطوبة حيث يتمّ الوعد بالزّواج؛
  • الرضى والقبول بالزّواج، فيعطي الزوجان ذاتهما واحدهما للآخر؛
  • اكتمال الزواج بالوحدة الجسديّة.

عرف الغرب في القرن الثاني عشر تيارين لاهوتيين : الأول بزعامة اللاهوتيّين الفرنسيّين، اعتبر أن المرحلة الثانية هي ركيزة الزّواج، التي تجعل الرباط الزوجيّ مقدّسًا انطلاقًا من محبة المسيح لكنيسته؛ أمّا التيار الثاني، بزعامة القانونيّين الإيطاليّين، فاعتبر أن المرحلة الثالثة هي الأساسيّة وهي التي تجعل من الزواج سرًّا، كوحدة المسيح والكنيسة بالتجسّد.

إنحاز البابوات أوجان الثالث (1145-1153)، وألكسندر الثالث (1159-1181)، وإينوشنسيوس الثالث (1198-1216) وغريغوريوس الثالث (1227-1241) إلى التيّار الأوّل فتكرّست المرحلة الثانية، أي رضى الزوجين، ركيزة للزواج. أمّا المرحلة الثالثة، أي اكتماله، فيقوّي الرباط الزوجيّ. كما شدّد مجمع اللاّتران الرابع سنة 1215 على كرامة الزواج الذي أصبح سرًّا من أسرار الكنيسة السبعة، بفضل الجهد اللاّهوتي الذي قام به معلّمو تلك الحقبة وعلى رأسهم القديس توما الأكويني الذي قال : “الزواج يعطي النعمة التي يرمز إليها، أي الحبّ الذي يجمع المسيح بالكنيسة والذي به مات من أجلها”.

فسرّ الزواج ليس مجرّد لحظة تبادل “نعم” بين الزوجين، بل شراكة حياة ومشروع يبدأ بالرضى المتبادل، ويستمرّ في جماعة زوجيّة وعائليّة، أي جماعة الحبّ المرئي والمعيش يوميًّا أمام الله والناس.