الأمانة والزواج

الخوري شوقي كرم

يرتبط موضوع الأمانة في الزّواج ارتباطاً وثيقاً بمفهوم الزّواج المسيحيّ كالتزام نهائيّ لتحقيق الدعوة المسيحيّة إلى الحبّ والقداسة، وتاليًا لا يمكن فهم الأبعاد الخُلُقية للأمانة الزوجيّة إلاّ بارتباطها بمفهوم الزّواج المسيحيّ كسِرّ وعهد مقدس بين مؤمنَيْن مسيحيَين اختارا اتِّباع المسيح كطريق خلاص نهائي لهما.

          من الصحيح الجائز، من الناحية الخلقيّة، لفهم الأمانة أي الالتزام النهائيّ في الزّواج أنّه يمكن الانطلاق من نقيضها أي من الخيانة، خصوصًا أنّ موضوع هذه الخيانة بات مطروح بشكل عنيف عبر مجتمعنا في وسائل الإعلام والإعلان، وهومتجذِّر في ذهنيّة الكثيرين من أبناء عصرنا، حتى تكاد هذه الخيانة أن تصبح مكرّسة كفضيلة للوصول إلى الأمانة، فنسمع على سبيل المثال أنّ الخيانة الزوجيّة ضروريّة لإغناء الاختبار الشخصيّ في الزّواج، وأنه من الضروريّ والأصوب للزوجين أن ينفصلا لسبب أو لآخر. غير أنّنا نرى من غير الضروري أن يكون موضوع الخيانة مطروحًا لنفكّر في موضوع الأمانة الزوجيّة، لأن المشكلة المطروحة اليوم في الزّواج تتعلَّق بالأمانة في حدّ ذاتها، كمفهوم، وطريقة عيش وكدور في إنماء الحب الزوجيّ، وكصدقيّة مع الذات والآخر، مع الله أو مع الشريك والأولاد والمجتمع الكنسيّ والمدنيّ. فكم من أزواج تمسّكوا بأسرهم ولم يتخلّوا مرّة عن الارتباط بها وبشركاء حياتهم، ولم يعيشوا الوصال الجسديّ خارج الزّواج، ومع ذلك سادت عندهم الأمانة الخيانة ! كيف ذلك؟ هو السؤال الذي سنحاول الإجابة عنه باختصار، في هذا العرض السريع لموضوعنا، آملين أن نساهم في هذا المؤتمر في إغناء البحوث حول الزّواج.

أوّلاً ـ ماهيّة الأمانة ؟

 ليست الأمانة مرادف الاستسلام للأمر الواقع والخضوع له، وتسليمه للقدر، فيبقى إنّ الشخص على التزامه لا بدافع الحب والاقتناع، بل بحافز خوف مما قد يُقَالُ عنه ومن تبعات عقاب إلهي، إلخ.

فالأمانة للالتزام النهائيّ في الزّواج فضيلة. والفضيلة في معناها الحصريّ هي القدرة على تتميم الخير الأدبيّ بفرح وثبات، ولو كلّف ذلك تضحيات كثيرة، خصوصًا عندما تعترض الزوجين عقبات داخليّة وخارجيّة صعبة.

وفضيلة الأمانة ككل فضيلة مسيحية، تَعرض “خُلقيّة بناء الذات” (éthique de la construction de soi )، وغايتها أن تشدّد وتُثبّت الشخص الملتزم في خيره الحقيقي وتوجّهه نحو غايته الأخيرة، نحو الله.

ولأنّ في الالتزام بالزّواج خيرًا عظيمًا للإنسان، فلا يحسن له “أن يكون لوحده” بحسب مشيئة الخالق، ولأن الله الخالق منذ البدء أراد شركة الحب والحياة في الزّواج حتى يقدر الإنسان تحقيق ما هو عليه مخلوق، أي صورة الله الثالوث.

لذلك يمكننا التكلّم على الأمانة بالنسبة إلى الزّواج في مرحلتيه : مرحلة الاختيار ومرحلة الاستمراريّة. فالأمانة هي الفضيلة التي تساعدني على أن أختار الزّواج وألتزم به بحسب متطلباته الأساسية والجوهريّة، ليكون بالنسبة إليّ التزامًا نهائيًّا، وهي التي تتعهّد الزّواج بعد العهد المقدّس لينمو ويستمرّ متيحًا للأشخاص المعنيين أن يحقّقوا خيرهم الأسمى.

ثانيًا ـ الأمانة وخيار الزّواج      

يُطرح موضوع الأمانة أوّلا على صعيد اختيار الالتزام النهائيّ في الزّواج. فالأمانة هي في أساس الزّواج، لأنّه إذا لم يكن المسيحيّ المعنيّ أمينًا حيال اختيار  متطلّبات هذا الالتزام، فسيكون الزّواج هشًّا. وتتجلّى هذه الأمانة في اختيار الالتزام النهائيّ في الزّواج بتوجيه المؤمن لاتّخاذ قرار الزّواج كالتزام نهائيّ أمين لخيار الإيمان الأساسيّ، خيار اتِّباع المسيح، بحيث يصبح الزّواج حالة حياة لعيش دعوته في المسيح.

وتقود فضيلة الأمانة المسيحيّ إلى أن يكون قراره في الزّواج جواباً حرّاً ومسؤولاً عن نداء إلهيّ خاص به، يكشف له إرادة الله منه ومشروعه الخلاصي له.

ولا تسمح الأمانة للمؤمن بأن يختار الالتزام في الزّواج إلاّ إذا كان هذا القرار جواباً عن نداء حبّ عميق، حبٍّ يعطي الحياة معنىً. وتحرص الأمانة على أن يكون هذا الجواب جواب حبٍّ حقيقيّ: حبّ نهائيّ يعبّر عنه بعطاء الذات كلاًّ للآخر، وحبٍّ مطلق يعبَّر عنه بالإرادة الثابتة في أن أكون للآخر إلى الأبد، وحبٍّ ناضج يأتي ثمرة معاشرة صادقة وحقيقيّة للآخر، وحبٍّ فريد يضع حدّاً لإمكان اختيار شخص آخر، وحبٍّ توّاق إلى بناء حياة مشتركة، وحبٍّ متجرّد وخلاّق لا يقبل استبدالاً بالشريك المختار مهما عظمت الاحتمالات الأخرى المتاحة، فيرفض كلّ خيار لا علاقة له بتنمية التزام الحبّ النهائيّ المُختار وتطويره.

         وتتطلب الأمانة من المسيحيّ أن يختار الزّواج في مرحلة نضجٍ جسديّ وفكريّ وعاطفيّ كافٍ نسبيًّا. بهذا تُلزم الأمانة المدعوَّ بأن يكون لديه الوعي لماهيّة هذا الالتزام النهائيّ في الزّواج ولمتطلباته ولنتائجه، وبأن يكون قراره مبنيًّا على تمييز للذات ولقدراتها، وعملاً خلقيًّا مسؤولاً، لا ردّةَ فعل عاطفيّة، يقرّر الإنسان بواسطته أن يقود حياته نحو خيره الأعظم.

         في النهاية، يمكن تلخيص دور الأمانة قبل الالتزام النهائيّ في الزّواج بأنها تساعد المسيحيّ على أن يختار هذا المشروع الحياتيّ بطريقة تسمح له بأن يكون فعلاً الطريق الذي يستطيع أن يعيش فيه خياره الأساسي، خيار الإيمان بيسوع المسيح واتِّباعه والتخلّق بأخلاقه، من أجل تحقيق دعوته إلى الحبّ والقداسة.

ثالثًا ـ دور الأمانة بعد الزّواج

         يكمن دور فضيلة الأمانة بعد الزّواج في مواكبة القرار الواعي والحرّ والمسؤول للمؤمن المسيحيّ بالالتزام في الزّواج، وتبنّيه وتحمّل مسؤوليّته بغية قيادته نحو غايته الأخيرة. ويكون همّ الأمانة الأساسيّ في هذه المواكبة أن تقود الملتزم إلى العمل الدؤوب ليبقى هذا الالتزام، خلال مراحل نموّه وتطوّره، محافظاً على قيمته ومعناه. من هنا تبدو الأمانة في علاقتها بالالتزام النهائيّ كفضيلة التواصل والاستمراريّة، فتتجلّى الأمانة في قلب الزّواج كفضيلة المحافظة على الهُويَّة الشخصية والبعد الكيانيّ العلائقيّ، وكفضيلة الثبات والخَلْق؛ كفضيلة التفتيش الدائم عن الحقيقة والقيم التي تُغني الالتزام، الذي بدوره يغني معنى الوجود.

1 ـ الأمانة فضيلة التواصل والاستمراريّة

         كل ملتزم حقيقيّ في الزّواج لديه الرغبة العميقة في أن يستمرَّ التزامه في المستقبل محافظاً على فرح اللحظات الأولى وجمالها وعمقها وقوّة اندفاعها، وعلى الاستمرار في إعطائه معنًى لوجوده.     

تساعد الأمانة الملتزم على أن يحقّق رغبته هذه ونيّته، من خلال توجيهه نحو حسن التعامل مع الزمن، ماضيًا وحاضرًا ومستقبلاً. وبما أنّ الالتزام النهائيّ في الزّواج يتجذّر في ماضٍ غنيّ بالاختبارات، وهو ينمو ويتطوّر في الحاضر نموًّا يستمرّ في مواجهة مستقبل مجهول، فإنّ الأمانة تعمل على طبع كلّ ميول الإنسان وتوجّهاته ونيّاته بإرادة الثبات. هذا الأمر فيه تحدٍّ كبير، إذ ما من أحد يعرف ما يُخبِّئ له المستقبل؛ لكنّ الأمانة تنهى الملتزم عن التعلّق الأعمى بالماضي أوالتخّلي عن كلّ شيء فيه، فتفرض عليه التفاعل مع الحاضر وقبول كلّ غناه، وتمنعه في الحاضر القبول بأيّ شيء لا يخدم استمراريّة التزامه، وتوجِّهه بالرجاء البنّاء نحو المستقبل، من دون أن يغرق في الأحلام الورديّة.

2 ـ الأمانة فضيلة المحافظة على الهُويَّة الشخصية

         الأمانة هي فضيلة المحافظة على الهُوية الشخصيّة، أي على الذات العلائقيّة التي لا تتحقق إلاّ بعيش العلاقة مع الذات والآخر والله. فهي تتصدّى لكلّ محاولة ترمي إلى إلغاء النقص والحاجة للآخر عند الشخص الملتزم، وتقبل بخطرِ المغامرة ومواجهة التحديات بغية الانتصار عليها والاستفادة منها، لأنها ترفض فكرة التعلّق بأيّة صورة عن الذات أو عن الآخر ثابتة (متحجّرة) عبر الزمن. بهذا المعنى تبدو الأمانة كالخلق المستمرّ للذات، عبر الزمن، وكالتجدّد الدائم للهُويّة الشخصيّة ضمن معنى الوجود المختار. لذلك تقود الأمانة الزوج المسيحيّ إلى التحرّر من كلّ عبوديّة وارتباط يمنعان ذاته من أن تتحقّق بحسب دعوته. وتُؤَنْسِن الأمانة الإنسان لأنها تبني جسرًا من الحبّ والعدالة بين الذات والآخرمن جهة، وبين الذات والله والآخرين من جهة أخرى.

         في هذا السياق، تبتعد الأمانة عن أن تكون كمرادفٍ للرسوِّ في مرفإ الطُّمأنينة والأمان، وتقترب من معنى الانطلاق في سفر نحو بناءٍ وتجديدٍ للذات مستمرّين من خلال العلاقة مع الآخر، بغية الوصول بالمتزوِّج إلى ملءِ قامته بالمسيح.

         وتتجسَّد هذه الأمانة على الهُويَّة الشخصيّة في بعدها العلائقي بالأمانة للآخر: أمانةً تحرص على لقاء هذا الآخر دوماً والتواصل معه في حركة مشاركة وتبادل عميق في مستوى النفس والمحافظة على السرّ، وأمانةً تسعى إلى إعطاء الآخر الوقت الكافي لتحقيق هذا التبادل؛ وأمانةً تحافظ على الوعود والعهود، في زمن النّصر والفرح كما في زمن الشدّة والضيق، لخير الاثنين، وأمانة للعهد، ليس لحرفيته الجامدة، بل لديناميّته ولجدِّيَّته التي غايتها خير الشخص وحاجاته، والعمل على بناء هذا العهد من دون كلل أو ملل، وأمانة يأخذ معها المؤمن وعوده بعين الجدية ويكون أمينًا ليس لحرفيتها بل لروحها وديناميّتِها اللّتين تبغيان الخير المشترك، وأمانة تثق بالآخر، ليس بما هو عليه اليوم وحسب، بل بما سيصير إليه غدًا أيضًا.

          هذا النوع من الأمانة يتطلب فضيلة الصبر وطول الأناة مع الآخر، فأن أكون أمينًا للآخر يعني أن أكون أمينًا على أن أقبل نموّي والنموّ البطيء لهذا الآخر. لا أن تنقطع هذه الأمانة جرّاء عيوب الآخر، بل تنظر إلى حسناته وتتابع الرجاء بقدراته الإنسانيّة والروحيّة على التطوّر والتغيّر. وهي أيضاً أمانةً تنشد الانفتاح الدائم على الله وعلى مشروعه الخلاصي ـ الله لي وللآخر ـ الذي يكشف لي معالمه عبر الأشخاص والحوادث.

         في اختصار، تساعد الأمانة على عمل كلّ ما يُمكِّن الشخص نفسه من تحقيق ذاته كشخص علائقيّ بطريقة محرِّرة وبنّاءة له وللآخر.

 3 ـ الأمانة فضيلة الثبات والخُلق

         تتعهّد فضيلة الأمانة الالتزام النهائيّ في الزّواج وتأخذه على عاتقها لتقوده إلى غايته، لئلا يُمحى هذا الالتزام أو يضمحلّ غرقًا في العابر والوقتي، ويترنح مضطرباً متزعزعاً في التردد، وتَهبّ عليه الروح الفرِّيسية، روح الحرف الميت.

         وتدعو الأمانة المسيحيَّ إلى العمل على الثبات في التزام الزّواج مهما كلّفه من ألم وتضحيات وتجرّد. وتتسلّح فضيلتها بالصبر والحب لتقود الشخص المعنيَّ إلى مواجهة التحدّيات والمشاكل والأزمات وخيبات الأمل في العلاقة مع الآخر، وإلى العمل الجِدِّيّ والحكيم تحويلاً لها إلى فرص رجاء.

         ولأن معنى الالتزام الزوجيّ لا ينكشف كاملاً إلاّ في نهاية الحياة، تعمل فضيلة الأمانة داخل المؤمن على أن تصُبّ كلّ قرارته اليوميّة ضمن التوجّه الأساسيّ لبناء هذا الالتزام والثبات فيه وتطويره.

         وتتطلّب الأمانة في الزّواج التزام مسيرة خلق وتجدّد دائمين بهما يُطوّر الشخص المتزوِّج التزامه بالله والآخر. وتتجسّد هذه الأمانة في دفع الملتزم إلى تحقيق كلّ ما يتطلّبه الحبّ ليستمرّ في النموّ من ريّ وتغذية وتشذيب وتهذيب، ضمن عمل متميّز يوميّ جِدّي وسعيد.

4 ـ الأمانة فضيلة التفتيش الدائم عن الحقيقة

         تحقّق فضيلة الأمانة استمراريةً تُؤَمِّنُ معنًى حقيقيًّا للالتزام النهائيّ في الزّواج، وتحافظ على بهاء اندفاعه وحماسه الأول.  ويكون ذلك بتجدِيد الأمانة للالتزام، وبإغنائه الدائم بالحقيقة الموحى بها المطلوبة، بواقعية من خلال الحياة اليوميّة، كما بالمحافظة على قوّته الخلاّقة، والعمل على أن يبقى سيِّدًا على التاريخ فيُوجِّهه نحو غايته الأخيرة، نحو الله.    

لهذا تقبل الأمانة ثِقْلَ الماضي، ونداء المستقبل، وغنى الحاضر بغية الوصول إلى التزام أكثر تفهّمًا، وتاليًا للذات والآخر. والمحرّك الأساسي لديناميّة هذه الأمانة هو الإيمان بأن السرّ (mystère ) الذي يكتنف الشخص عينه والآخر والالتزام بحدّ ذاته كمشروع إلهيّ، لا تنكشف معالمه وأبعاده إلاّ عبر الزمن، ومن خلال مسيرة العيش الجديّ لمتطلّباته كافّة. وعليه تُلزم الأمانة المؤمن المتزوِّج التفتيش الدائم عن وعيٍ أعمق لحقيقة هذا السرّ.     

طبعًا لا تفرح هذه الأمانة بأيّ شكلٍ من أشكال الظّلم، بل تبنى من طريق القول وعيش الحقيقة المعب‍ّر عنها بحكمة وحنان كلمات ومواقف وتصرّفات، كما تبنى من طريق الأمانة لقول الحقيقة والشّهادة لها في كلّ موقف، إذ الكذب مدمِّر.

5 ـ الأمانة فضيلة الوفاء والإخلاص للآخر

         في حياة الزوجين، غلى غرار كلّ حقيقية حيّة أخرى، ديناميّة داخليّة تؤهّلها للتطوّر والنمّو. تتغذى هذه الديناميّة من الحب الإنساني الذي ينشد خير الشخص بكامله. هذا الحبّ المجهّز بقوّة الحياة، يقود إلى السكن في الآخر وإلى سكناه فينا، ويعطي لاِثنين أن يتخطّيا ذاتهما، ويحفر في أعماقهما الرغبة في مشاركة الآخرين فرحهم.

         هذا النمو يقتضي الأمانة لعيش متطلبّات الحبّ كقوّة حياة قادرة على أن تقود الاثنين إلى الاتّحاد في شركة حياة وحبّ لا تنفصم. ويتطلّب كذلك الأمانة للدخول في ديناميّة التجرّد ابتعادًا عن عيش الاستقلاليّة الفرديّة وعدم الارتباط، من أجل عيش البعد الكيانيّ العلائقيّ كطريق للتحرّر وتحقيق الذات. لهذا تشجّع الأمانة طريقة وجود مع الآخر لا يكون فيها الأنا محورًا، لحساب شراكة الحبّ العميقة القادرة على بناء الزوجين بحسب فرادتهما وميزتهما، بعيداً من كل رغبة بالانصهار أو الذوبان المُتبادل. لذلك فمن غير الممكن أن يُفسح في هذه الأمانة مجال للآخر، لما يُسمّى استسلامًا أو عيشًا تقليديًّا لوضع راهن، بل طريقة مسؤولة في التصرّف محافظة على نوعيّة حياة غنيّة وصادقة مع الشريك.

         على الصعيد العمليّ، تشمل هذه الأمانة الاحترام الكليّ لمشروع الله الذي يعتبر كلّ إنسان فريدًا لا بديل منه، لا في الكنيسة جسد المسيح السرّي، ولا في هذا العالم اللامتناهي. وتتجسّد هذه الأمانة بفعل حبّ الآخر لذاته، لأجل ما هو عليه فعلاً، فرادةً وضعفًا، لثقله الذي عليّ أن أحمله كما لغناه الذي أقبله، لأن كيانه عميق جدًّا، لدرجة امتداد جذوره إلى حيث الله، لأنّه شهادة على ما تصنعه يداه. الأمانة للآخر تكون أيضًا في أن أهتمّ بعمق لأمر سعادته وخلاصه، وأن أشعر أنّي مسؤول ولو جزئياً عن تفتّحه وهنائه وسلامه. الأمانة للآخر تكون في أن أثق مختارًا بأمانة الآخر، وأتحدّى مثابرًا على الرجاء به عندما يتعلّق الأمر بآخر غير أمين، لأنّه يبقى صورة الله.

الأمانة للآخر بالنسبة إلى المؤمن هي في الذّهاب للقائه، معرًّى من كلّ تمحور حول الذات، من كلّ حكم مسبق، مع رغبة وحيدة، هي العمل على تطوّره ونموّه بحسب هويّ‍ته الخاصة، لا بحسب ما أريد أن يكون أو يصير. هذا ما يترجم عمليًّا بالأمانة لتحريك الحوار وتقدّمه مع الآخر، وكلّ ما من شأنه أن يساعده على معرفة أعمق لذاته، وغوص ابعد في ما يخص إمكانيّاته واستثمار عطاياه ومواهبه المختلفة الدفينة كالبذور في أعماقه.

         هذه الأمانة تتطلّب أن يكون ثمّة علاقة تواصل ومشاركة مع الآخر، أساها تهيّؤ واجب دائم لرؤيته بعينَي الإيمان، لا بعينَي البشر، أي برؤيته كما يراه الله بيسوع المسيح. هذا المطلب الضروريّ للأمانة ينتج منه إلزام أوّليّ، في احترام مطلق لكرامته كشخص مخلوق على صورة الله. وتتطلّب أيضًا الاحترام والتقدير لعالمه الخاص الحميم، والتجرّد من كلّ رغبة في السيطرة عليه أو لستغلاله لغايات خاصة. أن أكون أمينًا للآخر يعني أن أحبّه كما يحبّنا يسوع، أن أحبّه بالله ولله، أن أريد وأعمل ما يريده له الله، وأن أساعده حتى تتجلّى صورة ابن الله فيه.

         إذا كان همّ الأمانة مساعدة الآخر على تحقيق دعوته التي فيها تحقيق ذاته، فإن هذه الأمانة تتطلّب عيش العفّة في العلاقة بالآخر. وهذا يعود إلى طبيعة العفّة نفسها التي هي فضيلة أنسنة الجنس، أي الفضيلة التي تمكِّن من عيش الجنس بطريقة تُحرِّرني وتُحرِّر الآخر.

العفّة فضيلة، أي قوّة روحيّة قادرة على أن تحمي الحبّ من أخطار الأنانية والعنف، وتقوده نحو مَلْئِه. فتصبح في الإنسان استعدادًا داخليًّا لتحمّل أعباء الحياة الجنسيّة والتفتيش عن تنظيم الدوافع والبواعث الجنسيّة الفرعيّة وتوجيهها نحو هدفٍ إيجابي: أي أن يصير الرجل أكثر رجولة والمرأة أكثر أنوثة وتنمية القدرة على العلاقة التي هي خاصّة كِيانهما الإنسانيّ. وتشمل الأمانة لعيش العفّة في العلاقة بالآخر الجهد الدائم الذي يجب أن يبذله الملتزم ليجعل تعابير الحياة الجنسيّة بما فيها الجِماع، أكثر إنسانيّة ونعومة وأغنى لكي تصبح أكثر فأكثر مطبوعة بالانتباه المتبادل للأحاسيس، ومعبّرة أكثر عن جماعتهما الخلاّقة، وحاملة للغنى الروحي الغزير.

         وتأخذ هذه الأمانة للآخر بعين الجدّية أيضًا، ليس العهد مع الآخر فحسب، بل مع كلّ ما سينتج من علاقات وارتباطات بالآخرين: العيلة والرعية والمجتمع. ويتعلّق الأمر بأمانة عيش هذه الارتباطات والعلاقات بطريقة خلاّقة متجدّدة تتناغم مع حاجات هؤلاء ونموّهم وتطوُّرهم عبر الزمن.

         هذه الأبعاد الخلقيّة لعيش الأمانة للآخر تؤكد على أنّ استمراريّة الرباط الزوجيّ إلى الأبد تتطلب من الزوجين أن يعيشا أمانتهما على مثال أمانة المسيح في حبّه للكنيسة حبًّا مجّانيًّا لا يبغى إلاّ خير الآخر وسعادته، ويحافظ على فرادته وكرامته، ويسعى لتحرِّره ويهتم لأمر خلاصه وقداسته[1] (أفسس 5 :21-23).        

وقفة أخيرة     

يستطيع المؤمن أن يبقى خلاّقًا في أمانته للآخر بقدر ما يجهد كيلا تخرج أمانته عن مسارها الأساسيّ، مسار الأمانة للحبّ المتجذّر في الله، المتجسّد بحبِّ الآخر. هنا علينا أن نلحظ أن الأمانة لله لا تذوب في الأمانة للآخر، لأن كلّ علاقة بالله تبقى علاقة شخصيّة. ولهذا، لا يستطيع أحد عمليًّا عيش الأمانة الحقيقيّة للزّواج بكلّ أبعادها من دون الأمانة لعيش الارتباط بالله من طريق حياة روحيّة ثابتة تُفيض على الملتزم النعمة الإلهية الضروريّة التي تؤهِّله كي يكون أميناً. 

 

[1] أفسس 5 : 21 – 23.