القراءة العقيديّة لسفر التكوين

الخوري خليل شلفون

يعتمد لاهوت الزواج وأخلاقيته ولاهوت الحياة العائلية في غالب الأحيان على النصين الأساسيين في سفر التكوين 1 و 2، وعلى الآيات التالية : “ذكرًا وأنثى خلقهما”، “على صورة الله” و”يترك الرجل أباه وأمّه”. كما اعتمد قبل العهد الجديد لكي يؤكّد يسوع ما جاء في العهد القديم : “ما جمعه الله لا يفرّقه الإنسان”، ويشبّه مار بولس يسوع بالعريس السماويّ والكنيسة بعروسته.

سوف ننطلق في بادئ الأمر من النصّ الأحدث، أي تك 1، ومن “الصورة والمثال”، ونلخص التفسير الكتابيّ قبل أن نعود إلى قراءة قداسة البابا الراحل لهذا النصّ، ونعود في القسم الثاني إلى نص تك 2 وما يضيفه قداسة البابا في رسالته عن “كرامة المرأة والأسر” إلى المدلول العقيديّ واللاهوتيّ لمؤسسة الزواج المسيحيّ انطلاقًا من وحي الكتاب المقدس.

فالزواج بشكل عام هو تعبير عن إرادة الله. ثنائية البشرية، رجلاً وامرأة، هي أفضل الطرق للوصول إليه وتحقيق إرادة الله الخلاّقة.

أوّلاً ـ تكوين 1 : ركيزة الإنسان المخلوق على صورة الله

في عصر الجلاء إلى بابل في القرن السادس قبل الميلاد (بين 587 إلى و538 ق م) تعرّف الكهنة الذين واكبوا الشعب اليهوديّ في سبيه، بحكم احتكاكهم بالثقافات الراقية هناك، تطورات كونيّة جديرة ومتطورة جدًّا، فربطوا بين فكرة الخلاص القديمة وفكرة الخلق : يهوه المخلص هو يهوه الخالق، خالق السماوات والأرض والإنسان. هذا واضح في نص أشعيا 51 : 9 و16 و 42. “أنا الرب إلهك، أنا معزّيك، إن ذراع الرب هي التي جفّفت البحر لتجعل أعماق البحر طريقًا يعبر فيه المقتدون أو المخلصون، أي بنو صهيون”.

أصبح الآن ممكنًا القول بأن كُتّاب النص الأوّل استعانوا بالأساليب والمناهج الشائعة، خاصة بملحمة الخلق البابلية إنوما إيليش (بين 1150 و 1015  ق م) والتي تروي تكوين الكون والإنسان في سبع لوحات سماوية تروي تكوين العالم من خلال عراك الأجيال الإلهية المثالية. ولكننا نقرأ في هذه الاسطورة أنّ الإله مردوك صنع الإنسان ليكون “خادمًا” للآلهة الذين بدورهم يخلدون إلى الراحة. أمّا في النص الكهنوتيّ فالإنسان مسلّط على الكون الذي خلقه الله من أجله، وأعطاه كلّ شيء وجعله حرًّا على صورته. وأخذوا أيضًا عن هذه الأسطورة الإطار السباعيّ الأقسام بصفته ناظمًا بنائيًّا في تنظيم ظهور الأشياء المخلوقة. فالأيّام السبعة تقابل الألواح السبعة في الملحمة، وتنظيم الكون بواسطة الفصل والتمييز. لكن النصّ الكتابيّ جعل الخلق في بدء الزمن التاريخيّ وكسر عودة الزمن الدائمة. فالخلق منطلقٌ في سلسلة أحداث أخرى تجري في زمن خطّي لا يقبل العودة إلى البدء. والمستقبل بواسطة الخصب والإنجاب يصبح محور الحياة الإنسانيّة المباركة. وأكّد الكهنة كتّاب هذا النص رفضهم للديانة الطبيعية البابلية وذكروا أنّ التاريخ هو محور الخلاص منذ البدء وأن الإنسان خُلق لكي يمجد الله ويُطوِّر الكون فلا عودة دائريّة أبديّة (éternel retour)، بل حركة بشريّة إنسانيّة تعبد، تشكر، وتحوِّل التاريخ إلى تاريخ مقدّس، إلى تاريخ علاقة الله بالإنسان.

ثانيًا ـ الإنسان “على صورة الله” (تك 1 / 21)

“خلق الله الإنسان على صورته كمثاله”، وهذه حقيقة أساسيّة في الإيمان اليهودي. هذه هي “حلّة المجد” والكرامة الأولى، كما نفخ في أنفه نسمة الحياة فصار الإنسان نفسًا حيّة (تك 2 : 7) ذكرًا وأنثى خلقهما (تك 1 : 27) وباركهما وقال لهمـا : انموا واكثروا واملأوا الكون والأرض أخضعوها (تك 1 / 27 – 28).

دخّلنا النصّ الكهنوتيّ في ما أبدع الله في اليوم السادس فجاء حسنًا وجميلاً جدًّا. أمّا باقي المخلوقات فهو حسن وجيد وحسب. ومن اللافت استعمال صيغة الجمع “لنصنع الإنسان على صورتنا، وعلى مثالنا. وهذا الكلام ليس لمجرّد التنظيم بل يعني أيضًا كلّ البلاط السماوي، نظرًا إلى أهميّة ما سيقوم به الرب.

فالإنسان هو التمثيل الأسمى لله من بين كل الكائنات التي على الأرض، هو دْموت وصِلِمْ لذلك لن يحتاج إسرائيل إلى تماثيل وصور كي يتمثّل الله. وكأنّ النصّ يقول لنا إن الله خلق الكون للإنسان ومن أجله. فكلمة “خلق” لا تظهر إلاّ في بادئ الأمر، عندما يتكلّم النص على خلق السماء والأرض وعلى خلق الإنسان. من هنا نستنتج أهميّة الإنسان في بنية النص، فخلقه يقابل خلق السماء والأرض.

ثالثًا ـ القراءة العقيدية

الكون الذي خُلق من أجله وأهميّته تعادل كلّ الكون وتفوقه. ومن خلال الكلمات العشر للخلق التي توازي بقوّتها كلمات العهد العشر (المعروفة بالوصايا) وتذكرنا بالعهد الأوّل. النصّ الكهنوتيّ وضع الخلق في إطار تاريخ الخلاص، ودمج عمل الخلق في سير التاريخ إذ جعله في البدء، ما جعل الخلق مرحلة أولى من مراحل التاريخ البشريّ، وكأنّ الله خلق الكون من أجل الإنسان كما سبق أنْ ذكرنا. فالخلاص يعلّل الخلق، والتاريخ يؤسّس الكون. من هنا نستجلي مركزيّة الإنسان التي تتحكّم بالنصّ الكهنوتيّ، وترشده في عرض أعمال الفصل والتزيين في الكون خلال خمسة أيام.

إن الحبّ الزوجيّ وخصب الحياة هما الإشراق المنير من الخالق. وتسير قصة الخلاص منذ بدايتها عبر توالي السلالات التي هي أجيال البنين والبنات ثمرة الحبّ الزوجيّ. لذلك أعطيت البركة العلنيّة في البدء، علامة لمجرّد الخصب، بل للسيادة والأوليّة والتنظيم. وهذه القدرة على التسلط تكونت منذ البدء بشكل ثنائيّ وليس (بحسب صنفه) كسائر الكائنات. الرجل والمرأة يعرفان نفسهما، إذ يرى الواحد صورته في الآخر، على عكس الحيوانات التي لا تتمتّع بهذه المعرفة. إنّ كرامة الصورة مرتبطة جيّدًا بهذه العلاقة.

يتأمل قداسة البابا يوحنا بولس الثاني في النصّ الأول، وذلك في رسالته الرسولية[1] حول كرامة المرأة[2] فيقول : فكأني بالخالق، قبل خلقه الإنسان، قد انكفأ على ذاته يطلب له المثال والفكرة في سرّ كينونته الإلهيّة. ومذ ذاك ظهر ذلك السرّ، على نحوٍ ما، في النحن الإلهيّ. من هذا السرّ ولد الكائن البشريّ عن طريق الخلق.

يؤكّد هنا قداسة البابا ما قاله سابقًا آباء الكنيسة من القديس إيريناوس، وغريغوريوس النصيبي، وأوغسطينوس، بأن الإنسان هو في قمة نظام الخلق كلّه، والجنس البشريّ يتوّج محلّ الخلق كلّه. فالرجل والمرأة متساويان، وصورة الله تُنقل بواسطة الرجل والمرأة، كزوجين وأبوين إلى ذرّيتهما، ويستمدّ الرجل والمرأة كرامتهما ودعوتهما من أصلهما المشترك. أمّا وجه الشبه بينهما وبين الله فهو أنّ الإنسان، أي الرجل والمرأة، كائن عاقل، وبفضل هذه الميزة يستطيع الإنسان أن يُخضع سائر المخلوقات. ويُضيف قداسته على ذلك أن الإنسان، الرجل والمرأة، كائن حرّ، مؤهّل لأن يعرف الله ويحبّه. ولا يمكن أن يوجد هذا الإنسان وحيدًا بل ضمن “وحدة الاثنين”، أي عندما يكون الإنسان على علاقة بشخص بشري آخر من جنس آخر، والمقصود هنا علاقة متبادلة، علاقة الرجل بالمرأة والمرأة بالرجل. ونفترض فيه أن يكون على علاقة وارتباط بالأنا الآخر. ويستنتج قداسة البابا أنّ هذا يمهّد لما سيعلنه الله في تمام الزمان عن كونه إلهًا واحدًا وثالوثيًّا معًا. أي وحدة حيّة في شركة الآب والابن والروح القدس[3]. حياة الله الداخليّة التي يكشف عنها العهد الجديد هي وحدة في ثالوث، أي وحدة في الشركة، فالرجل والمرأة مدعوان لأن يعيشا في الزواج “شركة محبة” وأن يعكسا في الحبّ الزوجيّ شركة المحبة القائمة في الله، والتي بموجبها يتبادل الأقانيم الثلاثة الحبّ في سرّ الحياة الإلهيّة الواحد. فسرّ الزواج أو “وحدة الاثنين”، أو يكونان كلاهما “جسدًا واحدًا”، التي هي علامة الشركة بين الأشخاص، تُظهر أنّ الله الذي خلق الإنسان على صورته ومثاله، إرادةً مشابهةً له في شركته الإلهيّة. وهذا التشابه هو دعوة إلى الوحدة في سرّ الزواج. هذا ما يدفع الرجل والمرأة لأن يعيش كلّ منهما للآخر. فالصورة تعني أيضًا أنّ الإنسان مدعوّ لأن يحيا لغيره وأن يكون هو نفسه عطيّة مجانية.

تعود رسالة مجمع العقيدة والإيمان، حول التعاون بين الرجل والمرأة، إلى تفسير قداسة البابا في رسالته عن كرامة المرأة[4] أي التشابه بين الثالوث والحب الزوجي. فالرجل والمرأة منذ البدء مدعوّان، ليس لوجود أحدهما بقرب الآخر أو للوجود معًا، بل لوجود أحدهما للآخر، والزواج هو البعد الأول لهذه الدعوة وليس الوحدة. وكلّ تاريخ الإنسان على الأرض يتحقّق في إطار هذه الدعوة. ومع أنّ هذه الترتيبات على الأرض قد تشوّهت بالخطيئة، فهي لا يمكن أن تمحى أبدًا[5]. هكذا يبدو المؤنث والمذكّر كجزء لا يتجزأ من الخليقة، وهما مدعوّان إلى الدوام بعد هذا الزمن، تحت شكل متجلٍّ. هكذا يعطيان الحبّ الطابع الذي “لا يزول أبدًا” (1 قو 13 : 8)، حتى لو بطُل التعبير الزمنيّ والأرضيّ عند الميل الجنسيّ الآخذ شكل حياة مطبوعة بالولادة والموت، وعند الذين يعيشون الحياة الزوجيّة تصبح هذه الحالة تذكيرًا ونبوءة لنهاية علاقتهما في رؤية الله وجهًا لوجه[6].

رابعًا ـ خلق المرأة في نص تك 2

إنّ الاسم الإلهيّ المزدوج (الرب الإله، يهوه، إيلوهيم) في تكوين 1 / 4 إلى 3 / 24 يميّز بين التقليد الكهنوتيّ والتقليد اليَهْويّ الذي هو أقدم عهدًا من التقليد الكهنوتيّ. وقد تعود هذه الرواية الثابتة للخلق إلى القرن العاشر ق م الذي كان فيه سليمان يملك على إسرائيل.

أ. خلق الرجل من التراب

جبل الله الإنسان (آدام) من التراب أو الآدامة (الأرض) فكل إنسان مجبول من الطين (ولون البشريّة قريب من لون هذه التربة) وهو يعود أيَضًا إلى التراب الذي أُخذ منه (تك 3 : 19). فجسد الإنسان يتكوّن من العناصر نفسها التي تتكوّن منها مادّة الكون، وهذا ما يدلّ إلى تأصّله في العالم الماديّ. وكلمة جبل (يصر Yaçar) يستعملها النبي ارميا (18 : 2) ليصوّر عمل الفخّاري الذي يكوّن وعاءً من الطين . الله يعمل كالفخّاري فيستعمل الطين المبلل ليصوّر الإنسان ويجعل له شكلاً.

تروي أيضًا ملحمة جلجامش السومريّة البابليّة كيف أن الآلهة أرورو جبلت انكيدو من الطين على صورة آنو إله السماء، كما تروي الكوسموغونيّة المصريّة في معبد ممفيس كيف خلق الإله خنوم الفخّاري الإنسان جابلاً إيّاه طينًا، وكيف أدخلت الآلهة هاثور الحياة في أنفه. آدم هو المستخرج من الأرض، وهو اسم الجمع يدلّ أيضًا على المفرد ويصبح اسم علم لأوّل رجل عاش على الأرض في تك 4 : 25، و 5 : 1 و 2.

ولكي يدلّ النصّ على أن الله فخّاريّ ممتاز ، يتخطى بخلقه الأساطير الوثنيّة، فقد أدخل مفهومًا آخر للتراب هو “العفر” أو الغبار. فالله يصنع الإنسان من الغبار وليس من التراب وحده (هذا ما لا تستطيع فعله الآلهة الوثنية). أمّا التراب أو العفر فيدلاّن هنا على محدوديّة الإنسان (finitude). الإنسان كائن محدود، هذا ما ستدلّ عليه قصة الزلّة الأولى في تك 3. الإنسان كائن مخلوق، محدود، لا ينتمي إلى عالم الألوهة فهو أرضيّ. ليس حيوانًا، وليس ملاكًا روحيًّا وضعه الله في الجنّة لكي يحرسها ويعتني بها (تك 2 : 15). والربّ يعطي قيمة للعمل في الطبيعة. والعمل هنا ليس عقابًا بل جزء لا يتجزأ من رسالة الأنسنة. والإنسان في حاجة إلى الطبيعة (الأرض أو الجنّة) لكي يعيش. فهذا هو إطاره الطبيعيّ (فهو محدود في المكان والزمان). أما “عدم الموت” والخروج من هذين المكان والزمان فهو وهم أدخلته الحية باحتيال، وقاد هذا الاحتيال إلى معصية كلام الله. أمّا العمل الثاني الذي قام به الله فهو “نفخه” في أنف الإنسان نسمة الحياة (neshamat Hayom) أو هبة الحياة. التنفّس هو دلالة الحياة.

فالإنسان يتنشّق الهواء بواسطة أنفه (أش 2 : 22) والتوقّف عن التنفّس هو التوقّف عن الحياة. فالنسمة هنا هي دليل الينبوع الإلهيّ المجانيّ الذي يعطي الإنسان الحياة ويجعله نفسًا حية”. وإن أخذ الله من الإنسان هذه النسمة مات. وإن كانت للحيوانات نفس حية مرتبطة بالله (تك 7 : 22، أي 34 : 14)، فهي لا تشارك الله في حياته، وإن شاركت الإنسان الحياة الطبيعيّة في الأكل وفي التناسل، فالإنسان يمتاز عنها ويفوقها. وإذا كانت هذه النسمة استقلاليّة وقوّة (أشعيا 30 : 33)، فالإنسان يشترك مع الله في هذه الاستقلاليّة وهذه القوّة الروحيّة. الإنسان كائن مختلف ومستقل عن الأرض وعن الحيوانات، وضع الله فيه قوّة الحياة، وهذه القوّة ليست عنصرًا إلهيًّا (parcelle divine)، لكنها قوة محدودة (limitée)، تجعله قادرًا على الاتّصال بالله وسماع أقواله وإطاعة أوامره. فاستعمال كلمة “نشمة” وليس روح تجعله كائنًا مميّزًا ومختلفًا عن الله وليس “منبثقًا” منه أو متناسلاً منه، فهو ينتمي إلى الأرض وعليه أن يعترف بذلك وأن يشكر الله على خلقته. خلقه الله مجانًا كائنًا حرًا ومستقلاًّ، وعلاقة الله بالانسان هي علاقة حريّة وليست عبوديّة أو استعبادًا، كما في أسطورة أترا ـ هازيس Atra-hasis البابليّة.

الإنسان كائن حيّ، حر ومختلف عن سائر الكائنات وأسمى من الطبيعة والحيوانات. لقد انتدبه الله وكيلاً له في الأرض ليسوس الأرض باسمه. وجعله كائنًا متكلّمًا يسميّ الأشياء بأسمائها ويصنّفها بحسب صنفها ونوعها وليس له أن يعبدها، إذ انه مسلّط عليها، كما أنّ الإنسان لا يكتمل بكلّ ما خلقه الله وسمّاه الإنسان، ويمكن أن نستنتج هنا النهي عن كلّ تجانس مع الحيوانات، كما سوف يقول لنا الكتاب المقدس في خروج 22، 18 ؛ وسفري اللاويين وتثنية الاشتراع[7]. إذًا الانسان في حاجة إلى عون آخر يعيش معه بعلاقة حميمة لا يجدها في الحيوانات. من هذا الخلق وخلق المرأة نرى أيضًا قداسة الزواج. لا تكتمل الإنسانيّة إلاّ في خلق المرأة، ولا نفهم مصير الإنسان إلاّ من خلال سرّ الزواج. هذا ما أوضحه القصد الإلهيّ “فلا يحسن بالإنسان أن يعيش وحيدًا فلنصنع له عونًا بإزائه” (آي 18) “ézèr” “عزرا” في العبريّة ومنها كلمة ألعازر أو المعين أو النصير، كما تدل كلمة “نجدو”، بإزائه على المعين، ومنها كلمة نجد في العربية او الندّ أو المثل أو النظير.

الألم الذي يشعر به هذا الإنسان المجبول من التراب قبل المعصية الأولى هو “الوحدة”، لأن الإنسان الذي يعيش وحيدًا يشعر بالألم. “اثنان خير من واحد. لأن لهما جزاءً أفضل على عملهما معًا، والويل لمن هو وحده”. هذا ما نقرأه في سفر الجامعة 4 : 9-12. أمّا عدم السماح لإرميا بالزواج في الفصل 16 : 1-9 فهو علامة لغضب الله على شعبه وإشارة الموت.

يحتاج الإنسان الرجل إلى زوجة تكون له شريكة في الحياة وتلد له البنين وتشاركه في تربيتهم. لم يخلق الله الإنسان لكي يعيش وحده بل في حياة جماعيّة تشارك فيها زوجته في حياته. فخلق المرأة تتويج لعمل الخلق. وحوّاء هي أيضًا أمّ الأحياء في خاتمة النص (تك 3 : 20) من دونها لا يكتمل عمل الخلق. من دون هذا الاختلاف الجنسي، والتشابه والتساوي في الإنسانيّة، لا يمكن التناسل. وهي تشارك الإنسان في العقل والكلام والذاكرة والإرادة، فهي كائنة حية مثله. لم يخلق الإنسان المرأة، بل الله، ولم “يجعلها” من التراب، بل بناها من ضلع الرجل. هكذا عمل الله بيديه ليكوّن المرأة بطريقة مختلفة عن الرجل، وإذا كان الحجر هو المادة التي بها يُبنى البيت، فالمرأة هي اللّحمة التي تجعل حجارة البيت متراصّة، لأنّ بناء البيت يتمّ بالرجل والمرأة، وإعطاء البنين للمرأة هو ما يبنيها “وأغرق الله آدم في نوم عميق” سبات عميق (extase) (آي 26)، بهذه العبارة يحافظ النص على سريّة عمل الله في خلق المرأة. فكما أنه لم يكن أحد موجودًا حين خُلق الرجل، كذلك لم يكن أحد موجودًا حين خلقت المرأة : أخذ ضلعًا وبنى المرأة كما يبني البنّاء البيت. فليست هذه عمليّة جراحيّة بل عمل إلهيّ، وهي سرّ يتخطّى إدراك العقل البشريّ. أمام هذه الخليقة الجديدة، يعبّر آدم عن دهشته وإعجابه وفرحه بنشيد ترد فيه ثلاث مرّات كلمة “هذه” (زوت في العبرية) لأن التي يراها تختلف عن سائر الكائنات فهي “عظم من عظامي” وهي الطريقة التي تعبّر عن القرابة الحميمة بين شخصين (كما في تك 29 : 14 ؛ و 37 : 27) وعن التشابه حتّى الصميم بين الكائنات (أي 2 : 5).

كلمة إشمة (امرأة) ترجع إلى أنثى أو نثى في العربيّة وهي تدل على الكائن الضعيف (أنت في العربية لانَ وتساهل وتراخى). أمّا كلمة ايش (الرجل) فترجع إلى انش (أنس في العربية) وهي تدل على الكائن القويّ. وأمّا النص فلا يأبه بمصدر الكلمة بل يجعلها يشتق بعضها من بعض. إيشه لانها من إيش أخذت، فالمرأة من امرئ أُخذت، فتاء التأنيث هي فقط أوجدت اسم المرأة، وهكذا كانت القرابة في  الأسماء والألفاظ بالإضافة اللغويّة وليس بالنقص الجسديّ بحسب فرويد. ويختم النص : “لذلك يترك الرجل أباه وأمّه ويلزم امرأته فيصيران جسدًا واحدًا (تك 2: 24) أمّا السبعينية واليونانية والسريانية والترجمات الآرامية فتضيف : يصير الاثنان جسدًا واحدًا. فتؤكد هذه الكلمة فكرة الزواج الواحد في إرادة الله منذ البدء. إنّ رباط الزواج هو أقوى من رباط الدم : تصبح الزوجة عظمًا من عظام الرجل ولحمًا من لحمه، والزوجة هي أقرب إلى الرجل من والديه، كذلك الرجل يترك والديه ليلتصق بامرأته. وهذه الوحدة ليست وحدة أجساد فحسب، إنّما هي وحدة القلوب والتقوى بالمشاركة في الأفكار والعواطف. ونستطيع أن نستجلي من خلال هذا النص وضع شريعة المحرّمات (interdit de l’inceste).

ب. القراءة العقيدية

يستنتج قداسة البابا في قراءته لهذا النص في كرامة المرأة أن الإنسان هو شخص “persona est naturae rationalis individual subtantia” انطلاقًا من بوس Boèc ومن توما الأكويني. “فالإنسان رجل وامرأة، كائن عاقل. فالمرأة هي “أنا” آخر، وفي هويّتها الأساسيّة هي مشابهة للرجل ومساوية له. فمنذ البدء هما شخصان عاقلان. والمرأة هي شريكة حياة الرجل (compagne de vie). فإنشاء الزواج يعود إلى إرادة الله منذ البدء[8] وكأنه شرطٌ لا غنى عنه لنقل الحياة إلى الأجيال البشريّة الآتية، مع العلم أنّ الطبيعة قد ربطت الزواج والحبّ الزوجي بنقل هذه الحياة، والإنسان كائن علائقي : يقيم الرجل علاقة متبادلة مع المرأة وهو مرتبط بالأنا الآخر. فالزواج هو البعد الأوّل لعيش هذا الرباط وهذه المشاركة بين الرجل والمرأة. أمّا المشروع الإلهي الآخر فهو مشروع امرأة الناصرة، العذراء والأمّ في تمام الأزمنة.

ويعود قداسة البابا الراحل يوحنّا بولس الثاني في رسالته إلى الأسر إلى التعمّق في نص سفر التكوين الثاني. فالثنائيّة الأصليّة هذه تجعل الرجل والمرأة يعيشان في شركة زوجيّة أو في عهد يتبادلان فيه العطاء والتقبّل. إنّ الزواج هو أساس خير الأسرة العام[9]. وثمرة هذه الثنائيّة الأصليّة هي الأمومة والأبوّة، والعائلة هي المجتمع الإنساني الأوّل، تولد حالما يتحقّق عهد الزواج، الذي ينقل الزوجين إلى شركة محبة وحياة ثابتة. الزواج السريّ هو معاهدة أشخاص في المحبّة، والحبّ لا يمكن تعميقه والحفاظ عليه إلا بالحبّ.

يؤكد الكاردينال راتسنغر، عام 2004، قبل أن يصبح بابا روما[10] انطلاقًا من تك 2 : 4-25، أهميّة التميّز الجنسيّ بين الرجل والمرأة. وخلق المرأة يميّز البشريّة كحقيقة ذات علاقة، والجسد البشريّ مطبوع بطابع التذكير والتأنيث منذ البدء. وهو يتمّ منذ البدء بصفة الزوجيّة، أي بإمكان التعبير عن الحبّ، هذا الحبّ نفسه الذي به يصبح الإنسان ـ الشخص، عطاء. والجسد مدعوّ، في سر الخلق بالذات، إلى الوجود في إنماء الأشخاص. الزواج هو البعد الأوّل للوجود معًا، أو الوجود للآخر. أمّا تشويش هذه العلاقة فهو نتيجة الخطيئة وتضيع فيه المساواة والاحترام والحبّ.

أمّا كرامة الأشخاص بالنسبة إلى الرجل والمرأة فهي تتحقّق كتكامل فيزيولوجيّ وسيكولوجيّ وأنتولوجيّ، ما يؤدّي إلى وحدة للاثنين متناغمة ومنطقية؛ كما أنّ الميل الجنسيّ هو عنصر أساسيّ للشخصيّة ونوع من أنواع وجوده، وتجلّيه واتصاله بالآخرين وبشعوره وتعبيره عن الحبّ البشريّ وعيشه له، والقدرة على الحبّ هي انعكاس الله ـ المحبة وصورته.

الكنيسة تعرض أيضًا قوّة المسامحة وبذل الذات بالرغم من الجروح والظلم أحيانًا والألم. الزواج هو طريق القيامة، إذ إن الله محبة. فكلّ موت على الذات والقيامة للآخر طريق يقودنا إليه.

 

[1]  يوحنا بولس الثاني، كرامة المرأة، منشورات اللجنة الأسقفية لوسائل الإعلام، جل الديب، 1988، عدد 6، ص 21.

[2] يوحنا بولس الثاني، رسالة إلى الأسر، منشورات اللجنة الأسقفية لوسائل الإعلام، جل الديب، 1995، عدد 6، ص 13-14.

[3]  المرجع السابق، ص 29.

[4]  مجمع عقيدة الإيمان، رسالة حول تعاون الرجل والمرأة في الكنيسة والعالم، منشورات اللجنة الأسقفية لوسائل الإعلام، جل الديب، 2004، ص 10.

[5] المرجع السابق، ص 11.

[6]  المرجع السابق، ص 21.

[7] “كل من ضاجع بهيمة فليقتل قتلا”، لاويين 18 : 23؛ التثنية 27 : 21 “ملعون من يضاجع بهيمة”.

[8]  يوحنّا بولس الثاني، كرامة المرأة، المرجع السابق، ص 25.

[9]  يوحنّا بولس الثاني، رسالة إلى الأسر، المرجع السابق، ص 16.

[10]  مجمع عقيدة الإيمان، تعاون الرجل والمرأة، المرجع السابق، ص 8.