مفهوم الزواج في كُتُب العهد الجديد

المطران أنطوان عوكر

الزواج عَمَل يقوم به الإنسان منذ بدء الخليقة؛ وهو وسيلة استمراره على الأرض. إنّه وَضع بشريّ عرف تطوّرات متعدّدة بحَسَب التقاليد والأعراف والقبائل والديانات… والمسيحيّةُ كان لها نظرة خاصّة أيضًا، إلى مفاهيمه الأخلاقيّة واللاهوتيّة والأسراريّة اختلفت في بعض الأحيان بحسب الكنائس، لكن منطلقة من كتب العهد الجديد. تجدر الإشارة هُنا إلى أنّ هذه الكتب لا تحتوي على طرح متكامل للزواج في كلّ أبعاده. فقد تطرّق يسوع إلى موضوع الزواج والطلاق في معرض جوابه عن سؤال من الفرّيسيّينَ؛ وبولس الرسول في سعيه إلى تنظيم الكنائس التي أسّسها يُعالج الزواج في مسائله الخلقيّة ويُعطيه بعض أبعاده اللاهوتيّة.

أتوقّف عند بعض هذه المناسبات الواردة في كتب العهد الجديد، مُظهرًا أنّها تحتوي طرحًا واضحًا يُظهر كيف “مسحَنَت” هذه الكتب الحقيقة البشريّة هذه أي الزواج. متّبعًا في معالجة الموضوع البنية الجدليّة الكلاسيكيّة: الطرح، الطرح المعاكس، فاستخلاص (Thèse, antithèse, synthèse).

أتطرّق في القسم الأوّل إلى الأقوال المباشرة التي تتحدّث عن الزواج في النظرة المسيحيّة كوحدة غير قابلة للحلّ. في المُقابل، يُعالج القسم الثاني الكلام على الطلاق. ويأتي القسم الثالث ليستخلص الأبعاد الكريستولوجيّة للزواج المسيحيّ وأسراره.

أوّلاً ـ الزواج كوحدة غير قابلة للفسخ (في كتب العهد الجديد)

متّى 19: 1-8

مرقس 10: 1-9

1ولمّا أتَمَّ يَسوعُ هذا الكلامَ، تَرَكَ الجَليلَ وجاءَ إلى بِلادِ اليَهودِيَّةِ مِنْ عَبرِ الأُردُنِ. 2فتبِعَتْهُ جُموعٌ كبيرةٌ، فشَفاهُم هُناكَ. 3ودَنا إلَيهِ بَعضُ الفَرّيسيّينَ وسألوهُ لِيُحرِجوهُ: «أيَحِلُّ لِلرَّجُلِ أنْ يُطلِّقَ ا‏مرأتَهُ لأيِّ سَبَبٍ كانَ؟» 4فأجابَهُم: «أما قَرأْتُم أنَّ الخالِقَ مِنَ البَدءِ جعَلَهُما ذكَرًا وأُنثى 5وقالَ: لذلِكَ يَترُكُ الرّجُلُ أباهُ وأُمَّهُ ويَتَّحِدُ با‏مرأتَهِ، فيَصيرُ الاثنانِ جسَدًا واحدًا؟ 6فلا يكونانِ اثنينِ، بل جسَدٌ واحدٌ. وما جمَعَهُ اللهُ لا يُفرِّقُهُ الإنسانُ». 7وسألَه الفَرّيسيّونَ: «فلِماذا أوصى موسى بأنْ يُعطيَ الرَّجُلُ ا‏مرأتَهُ كِتابَ طَلاق فتُطلَّقُ؟» 8فأجابَهُم يَسوعُ: «لِقساوَةِ قُلوبِكُم أجازَ لكُم موسى أنْ تُطلِّقوا نِساءَكُم. وما كانَ الأمرُ مِنَ البَدءِ هكذا.

1وقامَ يَسوعُ مِنْ هُناكَ وجاءَ إلى بلادِ اليهوديَّةِ مِنْ عَبرِ الأُردُنِ، فأقبلَت إلَيهِ الجُموعُ وأخَذَ يُعَلِّمُهُم كعادَتِهِ. 2فدَنا بَعضُ الفَرّيسيّينَ وسَألوهُ ليُحرِجوهُ: «أيَحِلُّ لِلرَّجُلِ أنْ يُطَلِّقَ ا‏مرَأتَهُ؟» 3فأجابَهُم: «بماذا أوصاكُم موسى؟» 4قالوا: «أجازَ موسى لِلرَجُلِ أنْ يَكتُبَ لا‏مرأتِهِ كِتابَ طَلاق فتُطلَّقُ». 5فقالَ لهُم يَسوعُ: «لِقساوَةِ قُلوبِكُم كَتبَ لكُم موسى هذِهِ الوصيَّةَ. 6فمِنْ بَدءِ الخَليقَةِ جَعلَهُما اللهُ ذكَرًا وأُنثى. 7ولذلِكَ يَترُكُ الرَّجُلُ أباهُ وأُمَّهُ ويتَّحِدُ با‏مرأتِهِ، 8فيَصيرُ الاثنانِ جسَدًا واحدًا. فلا يكونانِ ا‏ثنَينِ، بل جَسدٌ واحدٌ. 9وما جَمَعَهُ اللهُ لا يُفَرِّقُهُ الإنسانُ».

في أيّام يسوع، كانت هُناك تفاسير يهوديّة عديدة لشريعة كتاب تثنية الاشتراع التي تسمح بأن يُطلّق الرجل امرأته إذا وَجد فيها “عيبًا” (أمرًا غير لائق)[1]. فسَّرَت مدرسة شمّاي “الأمر غير اللائق” بمعنى محدود ومحصور بالزنى والمسلك المنحرف. أمّا تَفسير مدرسة هيلال والمُمارسات الشائعة، فكانت واسعة تشمل كلّ نوع من الحجج، حتّى الواهية منها (كَحرق طبخة)، التي تؤدّي إلى طلاق قانونيّ.

أراد الفرّيسيّون إجبار يسوع على أخذ موقف ليتّهموه إمّا بالتطرّف والصرامة وإمّا بالتراخيّ المفرط، فيُثيرون الشعب عليه. سألوه: “هل يحلّ للرجل أن يُطلّق امرأته؟”[2]؛ ومتّى يُضيف على سؤالهم: “لكلّ سبب (علّة)”[3]. تخطّى يسوع هذه الاعتبارات التفسيريّة المدرسيّة ورَجع إلى أساس الزواج الوارد في سفر التكوين. الارتباط الزواجيّ غير قابل للانفساخ؛ ليس هناك من تسويغ شرعيّ للطلاق. الله نَفسُه أنشأَ الرّباط الزواجيّ، فلا يُمكن لأيّ تدبير بشريّ أن يحلَّ زواجًا صحيحًا. “مِن البدء لم يكن هكذا”، الطلاق لم يكن مسموحًا. يَعود يسوع إلى ما نُسمّيه اليوم “روح المُشرِّع” فيُركّز على أن الطلاق لم يكن من فكر الله عندما خلق الرجل والمرأة، وأنشأ الزواج، وجعله مؤسّسة مرتبطة بجوهر الخلق. ليس عدم انحلال الزواج خاصّةً جديدة؛ إنّه متجذّر في طبيعة الزواج البشريّة وهو من عمل الخالق. جَعل يسوع إرادة الخالق في مقابل شريعة موسى. إرادة الخالق مُطلقة، وعليها يرتكز يسوع في تعليمه. في المُقابل يُعارض يسوع ما قالته شريعة موسى في الطلاق لأنّها مرتبطة بقساوة قلب الإنسان: إنّها تحاول تنظيم هذه القساوة وحسب، أي تنظيم الانحراف الأساسيّ لشعب الله: غلاظة الأعناق، ولا تصل إلى تغيير في الإنسان الداخليّ.

أمّا عند الرسول بولس، فهناك فصل كامل، الفصل السابع من الرسالة الأولى إلى أهل كورنثوس، يُعالج فيه موضوع الزواج على صعد مختلفة، لا بُدّ من العودة إليه لفهم أبعاد الزواج الأخلاقيّة والرعائيّة. أتوقّف هنا عند الآيتَين 10-11 من هذا الفصل: ” 10وأمَّا المُتَزوِّجونَ فوَصيَّتي لهُم، وهيَ مِنَ الرَّبِّ لا مِنِّي، أنْ لا تُفارِقَ المرأةُ زَوجَها، 11وإنْ فارَقَتْهُ، فلْتَبقَ بِغَيرِ زَوجٍ أو فَلتُصالِحْ زَوجَها، وعلى الزَّوجِ أنْ لا يُطَلِّقَ امرأتَهُ”.

بولس الرسول، الذي تنشَّأ على المذهب الفرّيسيّ، يُخالف بشكل صريح شريعة موسى بإعطاء الحقّ للرجل بأن يُطلِّق امرأتَه. وفي هاتَين الآيتَين يختصر بولس جوهر تعليم الربّ يسوع في شأن الزواج : زواج واحد غير منفصل ولا يُطاوله أيّ استثناء.

ثانيًا ـ مفهوم “الطلاق” في كتب العهد الجديد

مُقابل هذه “القاعدة” العامّة للزواج التي تنفي الطلاق بمفهومنا الحاليّ للكلمة أي المفهوم اليهوديّ، نجد نَصَّين متشابهَين في الأناجيل لا يردان إلاّ في التقليد المتَّاويّ (مَنْ طلّق امرأته إلاَّ لِعلّة الزنى: متّى 5: 3 و19: 9)، ونصًّا آخر من 1 كور 7 (آ12-16) هو في أساس ما يُسمّيه القانونيّون “الإنعام البولسيّ”. ما هو معنى هذه الاستثناءات؟

متّى 5: 32: أمّا أنا فأقولُ لكُم: مَنْ طلَّقَ ا‏مرأتَهُ إلاَّ في حالَةِ الزِّنَى يجعلُها تَزْني، ومَنْ تَزوَّجَ مُطلَّقةً زنَى.

متّى 19: 9: أمّا أنا فأقولُ لكُم: مَنْ طلَّقَ ا‏مرأتَهُ إلاّ في حالَةِ الزِّنى وتزَوَّجَ غَيرَها زنى.

هَل يُريد متّى أن يقول إنّ الطلاق بمعناه المعروف مسموح به، حتّى للمسيحيّين، في حال زنى أحد الزوجَين؟ لقد كُتب الكثير في تفسير هذَين النصَّين. في الواقع، إنّ الكنائس البروتستانتيّة والأرثوذكسيّة والكاثوليكيّة اختلفَت في تفسيرهما. اختصارًا، ترى الكنائس البروتستانتيّة في الآيتَين استثناءً فعليًّا. والكنيسة الأرثوذكسيّة سَمَحت بإعادة الزواج في حال زنى أحد الزوجَين. أتوقّف هنا عند بعض التفاسير التي أُعطيَت لهذين النصَّين وكيف فُهِما في الكنيسة الكاثوليكيّة.

لا بُدّ أوّلاً من مقاربة إزائيّة للنَّصَّين.

متّى 5: 32: أمّا أنا فأقولُ لكُم: مَنْ طلَّقَ ا‏مرأتَهُ إلاَّ في حالَةِ الزِّنَى يجعلُها تَزْني، ومَنْ تَزوَّجَ مُطلَّقةً زنَى.

لوقا 16: 18: مَنْ طَلَّقَ ا‏مرأتَهُ وتَزوَّجَ غَيرَها زَنى، ومَنْ تزَوَّجَ ا‏مرأةً طَلَّقَها زَوجُها زَنى.

متّى 19: 9: أمّا أنا فأقولُ لكُم: مَنْ طلَّقَ ا‏مرأتَهُ إلاّ في حالَةِ الزِّنى وتزَوَّجَ غَيرَها زنى.

مرقس 10: 11-12: فقالَ لهُم: «مَنْ طلَّقَ ا‏مرأتَهُ وتَزوَّجَ غَيرَها زنى علَيها، وإنْ طَلَّقتِ ا‏مرأةٌ زوجَها وتَزوَّجت غيرَهُ زَنَت».

يُمكننا أن نفترض، انطلاقًا من هذه المقاربة الإزائيّة، أنّ الجملتَين لا تعودان ليسوع التاريخيّ. هذا لا يعني أنّ متّى أراد إدخال ممارسة جديدة أو استثناءً على قرار غير مشروط قاله يسوع. بكلّ بساطة، صاغَ متّى عبارَتَيه لِيُجيب عن إشكاليّة خاصّة بجماعته المتهوّدة التي يتوجّه إليها.

على أساس هذه الخلفيّة اليهوديّة للنصّ، سعى بعض المُفسّرين إلى البحث عمّا يفهمه اليهوديّ بكلمة “زنى”. فكلمة زنى لا تعني فقط خيانة المرأة أو العلاقات الجنسيّة غير الشرعيّة أو زواج اليهوديّة بالوثنيّ؛ إنّها تعني أيضًا الزيجات والعلاقات المخالفة لنواهي الفصل 18 من سفر اللاويّين.

18 1وكلَّمَ الرّبُّ موسى فقالَ: 2«قُلْ لبَني إِسرائيلَ: أنا الرّبُّ إلهُكُم. 3كما يعمَلُ أهلُ مِصْرَ الّتي أقمتُم بها لا تعمَلوا، وكما يعمَلُ أهلُ أرضِ كنعانَ الّتي أُدخِلُكُم إليها لا تعمَلوا، وفي فرائِضِهِم لا تسلُكوا‌ 4بلِ اعمَلوا بأحكامي، واخضَعوا لفرائِضي واسلُكوا فيها، فأنا الرّبُّ إلهُكُم. 5فاحفظوا فَرائِضي وأحكامي فمَنْ عَمِلَ بها يحيا‌. أنا الرّبُّ. 6«لا يَقرَبْ أحدٌ إلى قريبِهِ في الرَّحِمِ لِكَشْفِ عَورتِهِ. أنا الرّبُّ. 7لا تَكشِفْ عَورةَ أبيكَ بكَشْفِ عَورةِ أمِّكَ. فهِيَ أمُّكَ، لا تَكْشِفْ عَورتَها. 8وعَورةُ زوجةِ أبيكَ لا تَكْشِفْها، فهيَ عَورةُ أبيكَ‌. 9وعَورةُ أُختِكَ ابنةِ أبيكَ أوِ ابنةِ أمِّكَ المولودةِ في البيتِ أو في خارجِه لا تَكْشِفْها‌. 10ولا تَكْشِفْ عَورةَ بنتِ ابنِكَ أو بنتِ ابنتِكَ. فهيَ عَورتُكَ. 11وعَورةُ بِنتِ زوجةِ أبيكَ المولودةِ مِنْ أبيكَ‌ لا تَكْشِفْها فهيَ أُختُكَ. 12وعَورةُ أختِ أبيكَ لا تكشِفْها فهيَ قريبةُ أبيكَ في الرَّحِمِ. 13وعَورةُ أختِ أمِّكَ لا تَكْشِفْها، فهيَ قريبةُ أمِّكَ في الرَّحِمِ. 14وعَورةُ عمِّكَ لا تَكْشِفْها، إلى امرأتِهِ لا تقترِبْ. فهيَ عمَّةٌ لكَ‌. 15وعَورةُ كنَّتِكَ لا تَكْشِفْها، فهيَ زوجةُ ابنِكَ‌. 16ولا تَكْشِفْ عَورةَ زوجةِ أخيكَ، فهيَ عَورةُ أخيكَ‌. 17وعَورةُ امرأةٍ وابنتِها لا تَكْشِفْ. ولا تأخذِ ابنةَ ابنِها ولا ابنةَ ابنتِها لتَكْشِفَ عَورتَهُما، فهُما قريبتاها في الرَّحِمِ. وهذا فَحْشٌ‌. 18ولا تأخذِ امرأةً معَ أختِها لتكونَ ضَرَّتَها وتَكْشِفَ عَورتَها معَها في حياتِها. 19«لا تَقرُبِ امرأةً في نجاسةِ طَمْثِها لِتكْشِفَ عَورتَها‌، 20ولا تُضاجعْ زوجةَ أحدٍ لِئلاَّ تتَنجَّسَ بِها‌.

بمعنى آخر، أراد متّى أن يقول للوثنيّ الذي صار مسيحيًّا أنّ عليه احترام الشريعة اليهوديّة في ما يخصّ مسألة الزنى. وهذا ما نراه بوضوح في الفصل الخامس عشر من أعمال الرسل حيث حافظ مجمع أورشليم على بعض المحرّمات اليهوديّة، ومنها الزنى.

13وبَعدَما خَتَما كلامَهُما، قالَ يَعقوبُ:… 19ولذلِكَ أرى أنْ لا نُثَقِّلَ على الذينَ يَهتدُونَ إلى اللهِ مِنْ غَيرِ اليَهودِ، 20بل نكتُبَ إلَيهِم أنْ يَمتَنعوا عَنْ ذَبائحِ الأصنامِ النَّجِسَةِ والزِّنى والحيوانِ المَخنوقِ والدَّمِ.

وهذا المعنى يؤكّده التبكيت المعروف لبولس الرسول في الفصل الخامس من الرسالة الأولى إلى أهل كورنثوس حيث يتحدّث عن زنى: رجل يعاشر امرأة أبيه.

إذًا، بحسب هذا المعنى لكلمة “زنى”، المسألة ليست مسألة خيانة زوجيّة تؤدّي إلى طلاق[4]، بل مسألة زواج لا يحترم محرّمات[5].

في المقابل، لم يتبنَّ مفسّرون آخرون هذا المعنى الشامل لكلمة “زنى”، بل رأوا فيها خطيئة الخيانة الزوجيّة وحدها. لكنّهم ركّزوا على فكرة “ما جمعه الله لا يفرّقه الإنسان”؛ فالطلاق بالنسبة إليهم هو “نوع من الانفصال” كما كان يُمارس مَع الخاطئين في أوائل الكنيسة، انفصال في سبيل التكفير والتوبة. القسم الثاني من الجملة يؤكّد هذا المعنى:

متّى 5: 32: أمّا أنا فأقولُ لكُم: مَنْ طلَّقَ ا‏مرأتَهُ إلاَّ في حالَةِ الزِّنَى يجعلُها تَزْني، ومَنْ تَزوَّجَ مُطلَّقةً زنَى.

متّى 19: 9: أمّا أنا فأقولُ لكُم: مَنْ طلَّقَ ا‏مرأتَهُ إلاّ في حالَةِ الزِّنى وتزَوَّجَ غَيرَها زنى.

هناك تفاسير أخرى، لن أتطرّق إليها، ترتكز على أداتَي الاستثناء في آيتَي متّى وترى فيهما أداتَي توكيد أكثر منهما استثناء (حتّى في حالة الزنى؛ وإنْ في حالة الزنى: متّى 5: 32؛ متّى 19: 9).

خلاصة القول : الطلاق في مفهوم متّى هو انفصال وليس قَطع روابط الزواج، وإلاّ وقعنا في تناقض مع الآيات السابقة التي ألغت شريعة موسى في مسألة الطلاق، ومع القسم الثاني من الآية التي تُحرّم على الشريك الزواج تحت طائلة الزنى.

من جهة أخرى، هُناك استثناء بولسيّ لقاعدة عدم انحلال الزواج نجده في الآيات 12-16 من الفصل السابع في الرسالة الأولى إلى أهل كورنثوس. فبعد الكلام الذي توجّه فيه إلى المتزوّجين المسيحيّين حول رباط الزواج الذي لا يحلّ فيه الطلاق انطلاقًا من كلمة الربّ (آ 10-11)، يقول بولس مباشرة:

12وأمَّا الآخَرونَ، فأقولُ لهُم، أنا لا الرَّبُّ: إذا كانَ لأخٍ مُؤمن امرَأةٌ غَيرُ مُؤمِنَةٍ رَضِيَتْ أنْ تَعيشَ معَهُ، فَلا يُطَلِّقْها. 13وإذا كانَ لامرأةٍ مُؤمِنَةٍ زَوجٌ غَيرُ مُؤمِن يَرضى أنْ يَعيشَ مَعَها، فَلا تُطَلِّقْهُ. 14فالزَّوجُ غَيرُ المُؤمِنِ يتَقَدَّسُ بامرأتِهِ المُؤمِنَةِ، والمرأةُ غَيرُ المُؤمِنَةِ تتَقَدَّسُ بِزَوجِها المُؤمِنِ، وإلاَّ كانَ أولادُكُم أنجاسًا، معَ أنَّهُم مُقَدَّسونَ. 15وإنْ أرادَ غَيرُ المُؤمِنِ أو غَيرُ المُؤمِنَةِ أنْ يُفارِقَ فليُفارِقْ، ففي مِثلِ هذِهِ الحالِ لا يكونُ المُؤمِنُ أوِ المُؤمِنَةُ خاضِعَينِ لِرِباطِ الزَّواجِ، لأنَّ اللهَ دَعاكُم أنْ تَعيشوا بِسَلامٍ. 16فكَيفَ تَعلَمينَ أيَّتُها المرأةُ المُؤمِنَةُ أنَّكِ سَتُخَلِّصينَ زَوجَكِ؟ وكيفَ تَعلَمُ أيُّها الرَّجُلُ المُؤمِنُ أنَّكَ سَتُخلِّصُ زَوجَتَكَ؟

عندما يُعالج بولس مسألة “الزواج المختلط”[6]، يتكلّم بولس انطلاقًا من سلطته الخاصّة، سلطته الرسوليّة، فيسمح بالطلاق بعد أن يعرض الشروط المفترضة للوصول إلى هذا الحلّ.

إذا كان العيش ضمن الزواج المختلط يتمِّم دعوة الله التي هي العيش بسلام، يستبعد بولس الطلاق، جاعلاً من الطرف المؤمن أداةً لتقديس الطرف غير المؤمِن.

أمّا إذا انطلقت مبادرة الفراق من الطرف غير المؤمِن، فبولس يسمح بالفراق، ويزيد موضحًا أنّ الطرف المؤمن لا يبقى مُرتبطًا. بالرغم من أنّ بولس لا يقول صراحةً باحتمال زواج الطرف المؤمن، فالنصّ واضح من جهة عدم خضوع المؤمِن لأيّ ارتباط زواجيّ، وتاليًا يُمكنه أن يعقد زواجًا آخَرَ صحيحًا[7]. في هذه الحال يُمكننا أنْ نقول بأنّ بولس يتكلّم على الطلاق بالمفهوم اليهوديّ التقليديّ، أي انحلال رباط الزواج.

نستخلص إذًا أنّ الطلاق في الزواج المختلط لا يصحّ إلاّ إذا أتت مبادرة الفراق من الطرف غير المؤمن. وهذا ضروريّ لفهم أبعاد الزواج المسيحيّ. لا يُمكنُ أبدًا للطرف المؤمِن أن يسعى إلى الطلاق؛ في هذه الحال لا يصحّ تطبيق “الإنعام البولسيّ”.

يظهر في النصّ أيضًا شرط آخر لِصحّة تطبيق “الإنعام البولسيّ”. ليس هُناك كلام واضح في النصّ بشأن ما نُسمّيه اليوم “الزواج المختلط”، أي زواج بين طرف مسيحيّ وآخر غير مسيحيّ. يتكلّم بولس على الذين تزوّجُوا قَبل ارتدادهم إلى المسيحيّة. بمعنى آخر، كان الزوجان وثنيَّين عند زواجهما، ومن ثمَّ اعتنق أحدهما المسيحيّة. فَهذا النوع من الزيجات والارتدادات كان لا بُدّ منه – وكان سائدًا – في أوائل المسيحيّة. فَكلّ ما قُلناه في شأن حلّ الرباط الزواجيّ يُطبَّق في مثل هذه الحالة وحدها.

خلاصة القول، لا يشكّل النصّان المتّاويّان[8] استثناءً لقاعدة عدم انحلال الزواج. أمّا الإنعام البولسيّ فيشكّل استثناءً واضحًا لهذه القاعدة وإنْ بشروط دقيقة[9].

لاهوتيًّا، يُثير الإنعام البولسيّ إشكاليَّةً تتطلّب حلاًّ. تكشف أقوال يسوع في الزواج أنّ الرباط الزواجيّ مُطلق وغير قابل للانفساخ؛ وهذه القاعدة مرتبطة بالخالق وبالخلق[10]. بينما نرى بولس، بسلطتِهِ الرسوليّة، وإن تكلّم على زواج غير مسيحيّ في الأصل، يتخطّى هذه القاعدة المرتبطة بالخالق وبالخلق. ما هو، تاليًا، المفهوم اللاهوتيّ الصحيح للزواج المسيحيّ؟ وبماذا يرتبط هذا المفهوم؟

ثالثًا ـ الزواج بين الخلق والعهد والخلاص

يعتبر الرسول بولس أنّ كلمة يسوع بشأنِ إرادة الخالق تجد قيمتها المطلقة في زواج المُعمّدين. هُناك إذًا مفهوم “مسيحيّ” للخالق وللخلق. بالطبع لا يُناقض بولس قَول يسوع؛ فهو على العكس يُجذّره في معناه الصحيح، في أبعاد المفهوم الأساسيّ الذي يتضمّنه هذا القول. فَفكرة “الجسد الواحد” التي أرادها الخالق في الزواج تُبرِز فكرة الوحدة وشراكة الحياة. وبالنسبة إلى المؤمن، وحدَة الإيمان محطّة جوهريّة في الزواج كجماعة؛ وحتّى إن تكلّم بولس على زواج طرفَين غير مؤمنَين وارتداد أحدهما، فالزواج المعقود يُحافظ على قيمته كلّها، شرط أن يقبل الطرف غير المؤمن بالحالة الزواجيّة وأَلاّ يجعل الطرف المؤمن يفقد “السلام”. فهذا العيش بسلام[11] هو دعوة الله الخالق للمتزوّجين. من هُنا، إذا لم تتوافر هذه الشروط، فالزواج يُحَلّ انطلاقًا من مبدئهِ الأساسيّ: الدعوة إلى عيش جماعة[12]، وعيشها بسلام. أمّا الإيمان فيُشكّل المعنى الجوهريّ والبنيويّ للزواج إلى حدّ أنّه إذا رفض الطرف غير المؤمن التعايش بسلام مع الطرف المؤمِن، يعتبر بولس أنّ هذا الزواج يُحَلُّ من تلقاء ذاته، وذلك من أجل المحافظة على حياة الإيمان للطرف المُعمَّد.

بكلمة أخرى، تتجذّر ديمومة الزواج المُطلقة في المعموديّة. فعندما يتكلّم يسوع على إرادة الخالق، فإنّما يعتبر أنّ الزواج الذي هو في الأصل واقع بشريّ، يتطلّب علاقة دينيّة بالله. تتجلّى هذه العلاقة بالبُعد الخلاصيّ الذي يتحقّق فعليًّا بالمسيح وَيترسّخ في الإنسان بالإيمان والمعموديّة. فالزواج مُرتبط بالعهد. لذلك نرى في الفصل الخامس من الرسالة إلى أهل أفسس علاقة جوهريّة بين الزواج وعلاقة المسيح بالكنيسة.

21ليَخضَعْ بَعضُكُم لِبَعض بمخافةِ المَسيح. 22أيَّتُها النِّساءُ، ا‏خضَعنَ لأزواجِكُنَّ كما تَخضَعْنَ لِلرَّبِّ، 23لأنَّ الرَّجُلَ رأْسُ المرأةِ كما أنَّ المَسيحَ رأْسُ الكنيسَةِ، وهوَ مُخلِّصُ الكنيسَةِ وهِيَ جَسَدُهُ. 24وكما تَخضَعُ الكنيسَةُ لِلمَسيحِ، فلْتَخضَعِ النِّساءُ لأزواجِهِنَّ في كُلِّ شيءٍ. 25أيُّها الرِّجالُ، أحِبُّوا نِساءَكُم مِثلَما أحَبَّ المَسيحُ الكنيسَةَ وضَحَّى بِنَفسِهِ مِنْ أجلِها، 26ليُقَدِّسَها ويُطَهِّرَها بِماءِ الاغتِسالِ وبِالكَلِمةِ، 27حتى يَزُفَّها إلى نَفسِهِ كنيسَةً مَجيدَةً لا عَيبَ فيها ولا تَجَعُّدَ ولا ما أشبَهَ ذلِكَ، بَلْ مُقَدَّسَةً لا عَيبَ فيها. 28وكذلِكَ يَجبُ على الرِّجالِ أنْ يُحِبُّوا نِساءَهُم مِثلَما يُحبُّونَ أجسادَهُم. مَنْ أحَبَّ ا‏مرأتَهُ أحَبَّ نَفسَهُ. 29فما مِنْ أحدٍ يُبغِضُ جَسَدَهُ، بَلْ يُغذِّيهِ ويَعتَني بِه ا‏عتِناءَ المَسيحِ بالكنيسَةِ. 30ونَحنُ أعضاءُ جَسَدِ المَسيحِ. 31«ولذلِكَ يَتْرُكُ الرَّجُلُ أباهُ وأُمَّهُ ويتَّحِدُ با‏مرَأتِهِ فيَصيرُ الاثنانِ جَسَدًا واحدًا». 32هذا السِّرُّ عَظيمٌ، وأعني بِه سِرَّ المَسيحِ والكنيسَةِ. 33فليُحِبَّ كُلُّ واحدٍ مِنكُمُ ا‏مرأتَهُ مِثلَما يُحِبُّ نَفسَهُ، ولِتَحتَرِمِ المَرأةُ زَوجَها.

فشراكة الحياة التي يتكلّم عليها سفر التكوين[13] والتي هي في أساس ديمومة الزواج بحسب قَول يسوع، تكتسب معنًى أعمق، وتُرسِّخ ديمومة الزواج في الوحدة غير المنفصمة بين المسيح وكنيسته.

من هُنا يُمكننا القول بأنّ كلام بولس على الفسخ التلقائيّ للزواج المُختلط في حال طلب الطرف غير المؤمن الطلاق هو كلام لاهوتيّ بامتياز. إنّه يُظهر المعنى الأسراريّ العميق لزواج المُعمَّدين أو لزواج يكون فيه طرف واحد مُعمَّد. بكلمة أخرى، لا يرتبط كلام بولس في الرسالة الأولى إلى أهل كورنثوس بقول يسوع حول ديمومة الزواج وحده، بل يسوِّغ أيضًا كلمة يسوع مُفسّرًا مبدأها العميق (شراكة الحياة – جسد واحد – وعيش بسلام) وصولاً إلى تقديس (خلاص) عائليّ شامل (الطرف غير المؤمن والأولاد) أساسه الطرف المُعمَّد. وهذا يُظهر أنّ الخلاص بالمسيح، أي شراكة الحياة بالمسيح، لها الأوّليّة على الحياة الزوجيّة في حدّ ذاتها.

خاتمـــة

الزواج حقيقة أرضيّة؛ له معنى إنسانيّ وهو مدعوّ لأن يُعاش في الربّ. لا ينحصر الزواج بالمفهوم المسيحيّ بمستوى الخلق وحده، إنّه جزء من الأعمال الخلاصيّة، يتّخذ مفهومًا مُميّزًا في حياة المُعمّد. يتميّز الزواج بالتزام نهائيّ؛ إنّه قرار لمدى الحياة. تتجذّر ديمومته في إرادة الخالق وفي المعموديّة، وتجعل رباطه يتخطّى كُلّ طلاق. إنّها ميزة “السرّ” في اللاهوت المسيحيّ: حقيقة أرضيّة في كلّ أبعادها تُصبح جوهريًّا (داخليًّا) حقيقةً دينيّةً. تَحوّل لا نراه إلاّ في الأسرار الكنسيّة.

أمام صعوبة عيش متطلّبات هذا السرّ، صرخ التلاميذ في الماضي ويصرخ الإنسان المتروك لبشريّته اليوم: «إذا كانَت هذِهِ حالُ الرَّجُلِ معَ المرأةِ، فخَيرٌ لَه أنْ لا يتَزوَّجَ»[14]. في الواقع، عيش جوهر هذا السرّ هو عطيّة من الله؛ هكذا أجابهم ويُجيبُنا يسوع: «لا يَقبلُ هذا الكلامَ إلاّ الَّذينَ أُعطِيَ لهُم أن يَقبَلوهُ… فمَنْ قدِرَ أنْ يَقبَل فليَقبَلْ».

وبين هذه الحالة، حالة الصعوبة، وتلك الحالة، حالة النعمة، تأتي صرامة يسوع في الحكم (مَن نظر إلى امرأة ليشتهيَها فقد زنى بها في قلبه:[15]) وعذوبة غفرانه للزانية والعشّارين والخطأة[16].

 

[1] (24 1إذا تزَوَجَّ رَجُلٌ بامرَأةٍ ولم تَعُدْ تَجِدُ حُظوَةً عِندَهُ لِعَيبٍ أنكرَهُ علَيها، فعلَيهِ أنْ يكتُبَ لها كِتابَ طَلاقٍ‌ ويُسلِّمَهُ إلى يَدِها ويَصرِفَها مِنْ بَيتِهِ.) (راجع أيضًا متّى 5: 31 و19: 7)

[2] مرقس 10: 2.

[3] متّى 19: 3.

[4] يسوع غفر للزانية؛ إنّها خطيئة يُمكن الرجوع عنها.

[5] لاويّين 18.

[6] أحد الطرفَين فقط مسيحيّ.

[7] مع العلم أنّ بولس ينصح عامّة بالبقاء مثله (أي بدون زواج). يختلف المفسّرون بشأن موضوع زواج بولس. قَليلون هم الذين يعتقدون بأن بولس لم يتزوّج أبدًا. هُناك آخرون يعتقدون بأنّه تَرَمَّلَ وفضّل البقاء بدون زواج آخر. وهناك من يعتقد أنّه كان متزوّجًا – كما هي حال الشابّ اليهوديّ عامّة – ولكن بسبب ارتداده إلى المسيحيّة لم تشأ امرأته البقاء معه. يُمكن أن تكون هذه النظريّة الأخيرة أساسَ الإنعام البولسيّ.

[8] متّى 5: 32 و 19: 9.

[9] زواج طرفَين غير مَسيحيَّين وارتداد واحد منهما إلى المسيحيّة؛ مبادرة الطلاق تأتي من الطرف غير المسيحيّ.

[10] يصيران جسدًا واحدًا؛ ما جمعه الله لا يفرّقه الإنسان؛ لم يكن هكذا منذ البدء.

[11] هذا الخلاص!.

[12] جسد واحد.

[13] يصير الاثنان جسدًا واحدًا.

[14] متّى 19: 10.

[15] متى 5 : 27.

[16] المرأة الزانية في يوحنّا 8؛ المرأة الخاطئة في بيت سمعان: لوقا 7: 36-50.