الدخول في عالم بولس الرسول

 

المطران أنطوان عوكر

تهدف هذه المحاضرة، كما يُشير عنوانها، إلى التمهيد للدخول في عالم الرسول بولس، وتاليًا إلى التحضير لسائر المحاضرات. يُمكِننا الدخول إلى عالم هذا الرسول الكبير من خلال الموضوعات اللاهوتيّة والأخلاقيّة الأساسيّة التي يتطرّق إليها في رسائله. لكنّنا نعتبر أنّ الوصول إلى هذه الموضوعات يجب أنْ يتمّ في نهاية الدراسة التحليليّة للرسائل وليس تمهيدًا لها ولعالم بولس.

هناك مصادر متعدّدة لاستقاء المعلومات عن بولس الرسول وعن عالمه. أبرزُ هذه المصادر هي أعمال الرسل والرسائل والتقليد الآبائيّ والمنحولات التي تتطرّق بشكل أو بآخر إلى حياة بولس وفكره[1]. سوف تنحصر معالجتنا للموضوع بكتب العهد الجديد وحدها (أي أعمال الرسل والرسائل) مع الإشارة إلى أهمّيّة التقليد والمنحولات التي تكشف كيفيّة فَهم الرسول بولس وامتدادات فِكره في القرون الأولى للمسيحيّة.

انطلاقًا من كتاب أعمال الرسل، تبرز زاويتَان للدخول في عالم الرسول بولس: اهتداؤه (دعوته) ورحلاتُه التبشيريّة التي أسّس خلالها الكنائس وعاد إلى زيارتِها. أمّا الرسائل فَتُشكّل عالمًا في حدِّ ذاته. لن ندخل في تحليلِها أدبيًّا واستخلاص أفكار بولس الواردة فيها أو المشكلات المطروحة عليه… سنكتفي بعرضٍ سريع لها ولأبرز ما يُقال بشأنِها، من دون الدخول في تفاصيل مضمونها. خلاصة القول : يُقسم موضوعنا إلى ثلاثة أقسام: دعوة بولس، رحلاتُه وبخاصّة عظاتُه التبشيريّة خلالها، الرسائل التي تُنسب إلى التقليد البولسيّ.

  1. دعوة بولس وتأثيرها على لاهوتِه

يروي كاتب سفر أعمال الرسل[2] الحدث الذي حصل لشاول–بولس[3] على طريق دمشق ثلاث مرّات (أعمال 9؛ 22؛ 26) مع بعض الاختلافات في ما بينها[4]. نجد أيضًا ذكرًا لبعض الأحداث التي حصلت على طريق دمشق في بعض رسائل بولس، وبخاصّة في الفصل الأوّل من الرسالة إلى أهل غلاطية. سوف نستعرض أبرز الأحداث الواردة في الفصل التاسع من أعمال الرسل، مُركّزين على تأثيرِها اللاهوتيّ على فكرِ بولس الرسول.

يرد أوّل ذكر لشاول في كتاب أعمال الرسل في نهاية الفصل السابع عند رَجم اسطفانس. أراد لوقا أن يُجذّرَ دعوة بولس في حدث موت اسطفانس. مِن أجل فَهم معنى هذا الذكر، علينا أنْ نتطرّق إلى مفهوم “الرسول” عند لوقا. عندما أراد بطرس اختيار بديل ليهوذا الإسخريوطي، وضع مقياسًا أساسيًّا لهذا الاختيار قَبل التمييز بالصلاة والقرعة. والمقياس هو: “هُناك رجالٌ صحِبونا طوال المدّة التي أقام فيها الربُّ يسوع معنا، مُذ أنْ عمّدَه يوحنّا إلى يومَ رُفِعَ عنَّا. فيجبُ إذًا أنْ يكونَ واحدًا منهُم شاهدًا معنا على قيامَتِه” (أع 1: 21-22). لا ينطبق هذا المقياس على بولس[5]، لأنّه لم يرَ يسوع في حياتِه الأرضيّة ولم يرَ موتَه، ولكنّه اختَبَرَ القائم من الموت فحسب. لكي يملأ هذا النقص، جعلَ لوقا شاولَ حاضرًا في موت اسطفانس الذي يُشبِه إلى حدٍّ بعيد موت يسوع. فالجملتان اللتان قالهما اسطفانس تتوازيان مع كلمات يسوع على الصليب في إنجيل لوقا. رأى اسطفانسُ يسوعَ قائمًا عن يمينِ الله (أع 7: 55-56)[6]. وعند رَجمِه قالَ: “رَبِّ يسوع، تقَبَّل روحي” (أع 7: 59) التي تتوازى مع “يا أبتِ، في يَدَيك أجعَلُ روحي” (لو 23: 46)؛ ثمّ قال: “يا ربّ، لا تَحسُب عليهِم هذه الخطيئة” (أع 7: 60) التي تتوازى مع “يا أبتِ اغفِرْ لهم، لأنّهم لا يعلمون ما يَفعلون” (لو 23: 34). فَبولس الذي لم يرَ موتَ يسوع، رأى موتَ مؤمِن يُشبِه موتَ يسوع. وأتت رؤيتُه للقائم من الموت استكمالاً لقانون الإيمان بيسوع المسيح: “مات وقام”؛ وتاليًا يستطيع بولس أنْ يقول: “أنا شاهد على هذه الحقيقة”.

تبدأ رواية الفصل التاسع بإظهار شاول حانقًا مُقتِّلاً لِتلاميذ الربّ، فيقصد عظيم الكهنة في أورشليم ويطلب منه رسائل إلى مجامع دمشق حتّى يُنكِّلَ بالسائرين على الطريقة المسيحيّة. يبدو واضحًا مضمون هذا العمل الذي يقوم به شاول. على الصعيد التاريخيّ، يُفسَّر عمل شاول بالسلطان المُعطى من قبل الرومان لعظيم الكهنة على المجامع اليهوديّة. أمّا على الصعيد اللاهوتيّ، فيأخذ بُعدًا أعمق وهو أنّ السلطة التي قتلت يسوع تُتابع عملها بقتل أتباعِه. وعمل شاول يندرج في إطار مُتابعة ما قام به آباؤه في الإيمان: قتلُوا يسوع باسم الشريعة، فَعلَيه أيضًا أنْ يقتل أتباع يسوع للسبب نفسه. وفيما كان يسعى للقيام بعملِه التنكيليّ، ظهرَ له يسوع وقد قام من الموت. هذا الظهور للقائم من الموت قاد شاول إلى قَلْب المقاييس: لو كان عظماء الكهنة على حقّ في قَتلِهم يسوعَ باسم الشريعة، لما قام يسوع أو لَما أَقامَ الله يسوع من بين الأموات. أمّا وأنّ يسوع قام، فهذا يُبرهِن أنّ عظماء الكهنة على خطأ، وتفسيرَهم للشريعة مغلوط. بمعنى آخر، ظهور القائم من الموت لبولس جَعَله يتحوّل من الشريعة القاتلة إلى بُطلان أحكامها وتفاسيرها المغلوطة، وصولاً إلى تفسيرها الصحيح في ضوء القائم من الموت.

مِن جهة أُخرى، قول يسوع: “شاول، شاول، لماذا تضطهدُني؟” فَتَح لشاول بُعدًا كنسيًّا أساسيًّا. شاول داخِلٌ إلى دمشق لاضطِهاد المسيحيِّينَ، فإذا بيسوع القائم من الموت يقول له “لماذا تضطهدُني” عِوض أنْ يقول له “لماذا تضطَهد أتباعي؟” هذا التماثُل جعل بولس يفهم ماهيّة الكنيسة كجسد المسيح. كان لهذا المفهوم الكنسيّ تأثير كبير على لاهوت بولس الأسراريّ والروحيّ (مواهب الروح وأهدافها) والأخلاقيّ، فنراه يستعمل هذه الصورة في أبرز رسائله[7] دلالةً على فعاليّتِها في أهداف الحياة المسيحيّة الحقّة. وهذا التماثل جعَله يُجاهد ليُكمِّلَ في جسدِه ما نقص من آلام المسيح: “يَسُرُّني الآنَ ما أُعاني لأَجلِكم فأُتِمُّ في جَسَدِي ما نَقَصَ مِن شَدائِدِ المسيح في سَبيلِ جَسَدِه الَّذي هو الكَنيسة” (كول 1: 24)[8].

وَبَعدُ، نظرة شاملة لحدث طريق دمشق تجعَلنا نفهم طَرحًا لاهوتيًّا أساسيًّا في فكر بولس وهو مفهوم “النعمة” ومبدأ “حيث كَثُرَت الخطيئة فاضت النعمة”. في الواقع، أعمال بولس السابقة لحدث طريق دمشق لم تكن تستحقّ ظهور القائم من الموت، بل على العكس، كانت تستحقّ ضربةً قاتلة لإيقاف الاضطهاد. تأمُّلُ بولس بهذا الحدث جعله يفهم أنّ كلّ شيء “نعمة”، وأنّ خطاياه الكثيرة لم تحجب هذه النعمة التي أُفيضَتْ عليه. في المقابل، ما هو مطلوب منه هو تَقبّل هذه النعمة بالإيمان. فخلاصه تمّ بالجواب الإيمانيّ عن عطيّة النعمة السابقة. هذا الإيمان أضرمه بالجهاد الروحيّ والتبشيريّ في سبيل إنجيل الربّ يسوع. حَميّة بولس الفرّيسيّ وغَيرتُه على الشريعة تحوّلتا غيرة مُتّقدةً للإنجيل.

أخيرًا، إذا أردنا أنْ نفهم كيفيّة تصنيف بولس لهذا الحدث، علينا أنْ نقرأ وصفه في الرسالة إلى أهل غلاطية: “فَقد سمعتُم بسيرتي الماضية في ملّة اليهود إذ كنتُ أضطهدُ كنيسةَ اللهِ… ولكن لمّا حَسُنَ لدى الله الذي أفردني، مُذ كُنتُ في بطنِ أُمِّي ودعاني بنعمتِه أنْ يكشفَ لي ابنَه لأُبشِّرَ بِه بين الوثنيِّين…” (غل 1: 13-16). يُشير هذا الوصف بوضوح إلى أنّ بولس فهم هذا الحدث كدعوة نبويّة. فالتعابير المُستعملة هي تعابير دعوة نبويّة بامتياز. بمعنى آخر، لم يكن بولس يعي أنّه في صدد تغيير دين، بل اعتبر دعوتَه كدعوة الأنبياء في حياة شعب الله المختار. صرختُه صرخة نبويّة لإعادة فهم الشريعة، كلمة الله، على حقيقتِها؛ ويبقى اختباره للقائم من الموت أساسًا لكلِّ رسالتِه النبويّة هذه.

  1. خُطَب بولس بحسب أعمال الرسل خلال رحلاته[9]

تَحتلّ الخُطب ما يُقارب ثُلث كتاب أعمال الرسل: خُطَب لبطرس ويعقوب واسطفانس وبولس وغيرهم. لن ندخل في القراءة التاريخيّة ­ النقديّة التي تطرح مسألة صحّة نسبة هذه الخطب إلى الذين وُضِعَت على لسانهم أو أنّها من تأليف لوقا. مِمّا لا شكّ فيه أنّ للوقا تأثيرًا كبيرًا في صياغتِها النهائيّة، وأنّه حمَّلَها لاهوتَه الخاصّ، إضافة إلى فِكر الأشخاص المنسوبة إليهم.

إذا توقّفنا عند الخطب التي تفوّه بها بولس في أعمال الرسل، نجد أنفسنا أمام نَوعَين أساسيَّين: الخطبة أو العظة، من جهة، والدفاع أو المُرافعة[10]، من جهة أُخرى[11]. لن نتطرّق إلى مرافعات بولس، بالرغم من أنّها تحمل في طيّاتِها أبعادًا لاهوتيّة عميقة؛ ففيها يشهد بولس أمام الأمم والملوك لاسم يسوع المسيح وما عمله الربّ معه. ولأنّ هذه الدفاعات استذكارٌ للماضي، فهي لا تُضيف لاهوتًا جديدًا على ما قيل قَبلها. سنحصر دراستنا بالخُطب الثلاث التي قالها بولس قَبل اعتقالِه، في الفصل 21 من أعمال الرسل. لماذا هذا الخيار؟

في الواقع، نسعى في هذا القسم إلى الدخول في عالم بولس من خلال رحلاتِه التبشيريّة. يُمكِننا أن نرافقه في محطّات رحلاتِه وما عمله في كلّ مدينة زارها أو أقام فيها. لكنّ عرضًا كهذا قد يكونُ مُمِلاًّ وقد لا يحمل ميزة لوقا في عرضِه لهذه الرحلات. ارتأينا أن نُقارب هذه الرحلات من زاوية الخُطب التي قيلت فيها. لقد تفوّه بولس بخُطبٍ كثيرة خلال رحلاتِه؛ فالسياق السرديّ لهذه الرحلات يذكر خُطبًا وعظات متعدّدة لبولس[12]. لكنّ لوقا لم يحتفظ في كلّ رحلة من رحلات بولس الثلاث التبشيريّة إلاّ بخطبة واحدة فقط حَمَّلها منهجًا ولاهوتًا تبشيريَّين يختلفان باختلاف مَنْ تُوجَّه إليهم. في الرحلة الأولى[13] ترد خطبة موجّهة إلى اليهود في مجمع أنطاكية بسيدية (أع 13: 16ب-41)؛ في الرحلة الثانية[14] نجد خطبة موجّهة إلى الوثنيِّين في الأريوباغس في آثينة (أع 17: 22ب-31)؛ في الرحلة الثالثة[15] نقرأ خطبة موجّهة إلى شيوخ كنيسة أفسس في ميليطش (أع 20: 18ب-35). سوف ندرس بنية كلّ خطبة ومضمونها، وذلك لاستخلاص المنهج واللاهوت التبشيريّيَن الخاصَّين بِكلّ خطبة.

الخطبة الأولى (أع 13: 16ب-41)[16]

16فقامَ بولُس فأَشارَ بِيَدِه وقال : “يا بَني إِسرائيل، ويا أَيُّها الَّذينَ يَتَّقونَ اللهَ اسمَعوا: 17إِنَّ إِلهَ هذا الشَّعْب، شَعْب إِسرائيلَ، اختارَ آباءَنا ورَفَعَ شَأنَ هذا الشَّعبِ طَوالَ غُربَتِه في أَرضِ مِصْر. ثُمَّ أَخرَجَهم مِنها بِقُدرَةِ ساعِدِه. 18ورَزَقَهم طَعامًا نَحوَ أَربَعينَ سنَةً في البَرِّيَّة، 19ثُمَّ أَبادَ سَبعَ أُمَمٍ في أَرضِ كَنْعان وأَورَثَهم أَرضَها، 20مُدَّةَ نَحوِ أَربِعِمِائةٍ وخَمسينَ سَنة. وجَعَلَ لَهُم بَعدَ ذلك قُضاةً حتَّى النَّبِيِّ صَموئيل. 21ثُمَّ طَلَبوا مَلِكًا، فَجَعَلَ اللهُ لَهُم شاُولَ بْنَ قَيْس، مِن سِبْطِ بَنْيامينَ مُدَّةَ أَربَعينَ سَنة. 22ثُمَّ خَلَعَه وأَقامَ لَهُم داودَ مَلِكًا، وشَهِدَ له بِقولِه: وَجَدتُ داودَ بْنَ يَسَّى رَجُلاً يَرتَضيه قَلْبي وسيَعمَلُ بِكُلِّ مما أَشاء. 23ومِن نَسْلِه أَتى اللهُ إِسرائيلَ بِمُخَلِّصٍ هو يسوع، وَفقًا لِوَعدِه. 24وسَبَقَ أن نادى يوحَنَّا قبلَ مَجيئِه بِمَعْمودِيَّةِ تَوبةٍ لِشَعبِ إِسرائيلَ كُلِّه. 25ولَمَّا أَوشَكَ يوحَنَّا أَن يُنهِيَ شَوطَه قال: مَن تَظُنُّونَ أَنِّي هو؟ لَستُ إِيَّاه. هاهُوَذا آتٍ بَعدي ذاكَ الَّذي لَستُ أَهلاً لأَن أَفُكَّ رِباطَ حِذائِه.

26″يا إِخوَتي، يا أَبناءَ سُلالَةِ إِبراهيم، ويا أُيُّها الحاضِرونَ هُنا مِنَ الَّذينَ يَتَّقونَ الله، إِلَينا أُرسِلَت هذه الكَلِمَة، كَلِمَةُ الخَلاص. 27فَإِنَّ أَهلَ أُورَشَليمَ ورُؤَساءَهم لم يَعرِفوه وحَكَموا علَيه فأَتَمُّوا ما يُتْلى مِن أَقوالِ الأَنبِياءِ في كُلِّ سَبْت. 28ومع أَنَّهم لم يَجِدوا سَبَبًا يَستَوجِبُ بِه المَوت، طَلَبوا إِلى بيلاطُسَ أَن يَقتُلَه. 29وبَعدَما أَتَمُّوا كُلَّ ما كُتِبَ في شأنِه، أَنزَلوه عنِ الخَشَبَة ووَضَعوهُ في القَبر. 30غَيرَ أَنَّ اللهَ أَقامَه مِن بَينِ الأَموات، 31فتَراءَى أَيَّامًا كَثيرةً لِلَّذينَ صَعِدوا معَه مِنَ الجَليلِ إِلى أُورَشَليم. وهُمُ الآنَ شُهودٌ له عِندَ الشَّعب.

32″ونَحنُ أَيضًا نُبَشِّرُكُم بِأَنَّ ما وُعِدَ بِه آباؤُنا 33قد أَتَمَّه اللهُ لَنا نَحنُ أَبناءَهُم، إِذ أَقامَ يَسوعَ كما كُتِبَ في المَزمورِ الثَّاني:

أَنتَ ابني، وَأَنا اليَومَ وَلَدتُكَ.

34وأَمَّا أَن أَقامَه مِن بَينِ الأَمواتِ ولَن يَعودَ إِلى الفَساد، فقَد ذَكَره في قَولِه: سأُعطِيكُم خَيراتِ داوُدَ المُقَدَّسَة، الخَيراتِ الحَقيقيَّة. 35لِهذا قالَ في آيَةٍ أُخْرى: لن تَدَعَ قُدُّوسَكَ يَنالُ مِنهُ الفَساد. 36على أَنَّ داود، بَعدَما عَمِلَ لِقَصْدِ اللهِ في عَصرِه، رَقَدَ وضُمَّ إِلى آبائِه، فنالَ مِنه الفَساد. 37وأَمَّا الَّذي أَقامَه الله فلَم يَنَلْ مِنهُ الفَساد.

38فاعلَموا، أَيُّها الإِخوَة، أَنَّكم عن يَدِه تُبَشَّرونَ بِغُفرانِ الخَطايا، وأَنَّ كُلَّ ما تَستَطيعوا أَن تُبرَّروا مِنه بِشَريعةِ موسى، 39بِه يُبَرَّرُ مِنه كُلُّ مَن آمَن. 40فاحذَروا أَن يَحِلَّ بِكُم ما وَرَدَ في كُتُبِ الأَنبِياء:

41أُنظُروا أَيُّها المُستَخِفُّون

إِعجَبوا وتَوارَوا.

فإِنِّي لَصانِعٌ في أَيَّامِكم صُنْعًا

لو حَدَّثَكم بِه أَحَدٌ لَما صَدَّقتُم”.

تُوضِح الآيتان اللتان تسبقان هذه العظة مناسبتها: دَخل بولس وبرنابا مجمع اليهود في أنطاكية بسيدية وجلسا. وبعد تلاوة الشريعة والأنبياء طَلبَ منهما رؤساء المجمع “كلمة تحريض” للشعب. أتت هذه الخطبة من بولس كجواب على هذا الطلب: إنّها كلمة وَعظ في مجمعٍ يهوديّ بعد تلاوة نصوص من الشريعة والأنبياء.

تُقسم هذه العظة إلى ثلاثة أقسام (آ 16ب-25؛ آ 26-37؛ آ 38-41)، يبدأ كلّ واحد منها بتوجّهٍ مباشر يُستعمل فيه المنادى (الآيات 16ب و26 و38). يسرد القسم الأوّل أجزاء مُختارة من تاريخ إسرائيل تنتهي كتابيًّا بداود الملك، صاحب الوعد، الذي من نسله يتحدّر يسوع، وتُختَتم تقليديًّا بيوحنّا المعمدان الذي يُعلن مجيء المسيح المنتظر. يحتوي القسم الثاني إعلان “كلمة الخلاص”، إعلان تحقيق الوعد لداود بشخص يسوع الذي صُلب ومات وقُبِر وأقامَه الله من بين الأموات. وهذا التحقيق مشهود له مِن قِبل الرسل الذين عاينوا قيامة يسوع ومِنْ قِبَل الكتب (مز 2: 7؛ أش 55: 3؛ مز 16: 10). يأتي القسم الثالث لِيُطبِّق كلمة الخلاص في واقع المستمعين. إنّه التحذير النهائيّ المعهود في نهاية العظة بحسب التقليد اليهوديّ.

تجدر الملاحظة أنّ هذه العظة البولسيّة الموجّهة إلى اليهود وإلى الذين يتّقون الله تتشابه في خطوطها الكبيرة مع عظات بطرس[17] الموجّهة أيضًا إلى الفئات نفسها. تُظهر هذه العظة إذًا أنّ بولس تابع المنهاج نفسه الذي اتّبَعته الكنيسة الأولى في بشارة العالم اليهوديّ والدائرين في فلكِه. تنطلق هذه البشارة من الكتب، تُظهر تحقيقَ انتظارات هذه الكتب بشخص يسوع، وتنتهي بالدعوة إلى التوبة والسير بحسب هذه الطريقة الجديدة.

الخطبة الثانية (أع 17: 22ب-31)

22فوَقَفَ بولُسُ في وَسَطِ الأَرْيوباغُس وقال: “يا أَهلَ آثينة، أَراكُم شَديدي التَّدَيُّنِ مِن كُلِّ وَجْه. 23فإِنِّي وأَنا سائِرٌ أَنظُرُ إِلى أَنصابِكُم وَجَدتُ هَيكَلاً كُتِبَ علَيه: إِلى الإِلهِ المَجْهول. فَما تَعبُدونَه وأَنتُم تَجهَلونَه، فذاكَ ما أَنا أُبَشِّرُكم بِه.

24إِنَّ اللهَ الَّذي صَنَعَ العالَمَ وما فيه، والَّذي هو رَبُّ السَّماءِ والأَرض، لا يَسكُنُ في هَياكِلَ صَنَعَتها الأَيدي، 25ولا تَخدُمُه أَيدٍ بَشَرِيَّة، كما لو كانَ يَحتاجُ إِلى شيَء. فهو الَّذي يَهَبُ لِجَميعِ الخَلْقِ الحَياةَ والنَّفَسَ وكُلَّ شَيء.

26فقَد صنَعَ جَميعَ الأُمَمِ البَشَرِيَّةِ مِن أَصْلٍ واحِد، لِيَسكُنوا على وَجْهِ الأَرضِ كُلِّها، وجَعلَ لِسُكناهُم أَزمِنَةً مَوقوتَة وأَمكِنَةً مَحْدودَة، 27لِيَبحَثوا عَنِ اللهِ لَعَلَّهم يَتَحَسَّسونَه ويَهتَدونَ إِلَيه، معَ أَنَّه غَيرُ بَعيدٍ عن كُلٍّ مِنَّا.

28ففيهِ حَياتُنا وحَرَكَتُنا وكِيانُنا، كما قالَ شُعَراءُ مِنكم: فنَحنُ أَيضًا مِن سُلالَتِه. 29فيَجِبُ علَينا، ونَحنُ مِن سُلالَةِ الله، أَلاَّ نَحسَبَ اللاَّهوتَ يُشبِهُ الذَّهَبَ أَوِ الفِضَّةَ أَوِ الحَجَر، إِذا مَثَّلَه الإِنْسانُ بِصِناعتِه وخَيالِه.

30فقَد أَغْضى اللهُ طَرْفَه عن أَيَّامِ الجَهْل وهو يُعلِنُ الآنَ لِلنَّاسِ أَن يَتوبوا جَميعًا وفي كُلِّ مَكان، 31لأَنَّه حَدَّدَ يَومًا يَدينُ فيه العالَمَ دَينونَةَ عَدْلٍ عن يَدِ رَجُلٍ أَقامَه لِذلكَ، وقد جَعَلَ لِلنَّاسِ أَجمَعينَ بُرهانًا على الأمْر، إِذ أَقامَه مِن بَينِ الأَموات”.

بُولس وَحدَه في آثينة. ثار ثائره إذ رأى المدينةَ تملأها الأصنام. فراح يُخاطب كلَّ يومٍ في ساحةِ المدينةِ مَنْ يلقاهُم فيها، مُبشِّرًا بيسوع والقيامة. قَبض عليه بعض الفلاسفة وساروا به إلى الأريوباغس مُستفسرين عن التعليم الجديد الذي يعرضه.

ينطلق بولس في مقدّمة خطبتِه (آ 22ب-23) مِمّا عاينه في آثينة: أنصابٌ عديدة وبينها واحد لإلهٍ مجهول. يمتدح تدَيُّنَ أهل آثينة، مُستعمِلاً أسلوبًا بلاغيًّا يجذب مُستمعيه. وبعد ذلك يُمهّد لموضوعِه: الكشف عن هويّة هذا الإله المجهول الذي يعبدُه أهل آثينة وهم يجهلونَه. في الواقع ما سيعرضه بولس في هذه الخطبة ليس كشفًا لهويّة هذا الإله المجهول بقدر ما هو دحض لمفهوم عبادة الأصنام. يستعمل بولس في جسم الخطبة (آ24-29) البنية الجدليّة المعروفة: الطرح والطرح المُعاكس والخلاصة.

ينطلق بولس في المرحلة الأولى (آ 24-25) من مبدإ أنّ الله خالقَ العالم وما فيه والذي هو ربُّ السماء والأرض، لا يحتاج إلى شيء. تاليًا يأتي طَرح بولس الأساسيّ: الله لا يسكن هياكل من صنع الأيدي، ولا تخدمه أيدٍ بشريّة. بمعنى آخر، ليس للبشر أنْ يصنعوا له مَسكنًا. لكن على العكس من ذلك، وهذه هي المرحلة الثانية من جدليّة بولس (آ 26-28)، الله يُسكنُ البشر على وجه الأرض ويدعوهم إلى معرفتِه “الطبيعيّة”. فإنّه هو خالق البشر أجمعين من أصل واحد وحدّد لهم أزمنة وأمكنةً، وهو قريبٌ من الجميع. ويستشهد بولس بشعراء ينتمون إلى ثقافة المستمعين، ليؤكّد أنّ الانسان ينتسبُ إلى الله.

على أساس هذه المقابلة، يستخلص بولس في المرحلة الثالثة (آ 29) أنّ انتساب الإنسان إلى الله يُلغي مبدأ عبادة الأصنام. فاللاهوت لا يُمثَّلُ بأيّ مادّة، لأنّ المادّة مَهما ثمنَتْ تبقى مخلوقة، ويبقى الذي مثَّلها أيضًا مخلوقًا.

من هنا يُمكننا أنْ نستنتج أنّ عبادة الأصنام عمل أثيم، ويستدعي تاليًا ارتدادًا عنه. بهذه الدعوة يختم بولس خطبته (آ 30-31). فالله، بحسب هذه الخاتمة، يتكلّم اليوم: يُعلن الآن للناس أنْ يتوبُوا؛ فقد أغضى طَرفَه عن الجَهل الماضي ويدعو البشر إلى العبادة الحقيقيّة. ويبقى أساس هذه الدعوة وهذه الدينونة وهذه العبادة الحقيقيّة، رَجلٌ اسمه يسوع مات وأقامَه الله ليكون ديّانًا عادلاً، ودعوةً إلى التوبة الحقيقيّة والمعرفة الحقيقيّة لله. تجدر الإشارة إلى أنّ ذكر يسوع يأتي في الخاتمة وحدها.

يُبرِز بولس في هذه الخطبة منهاجًا اتّبعَه المُرسلون في بشارة الوثنيِّين. ينطلق إعلان البشارة ومضمونها من المُسلّمات المقبولة لديهِم. ولكن، إن غابت الاستشهادات المباشرة من العهد القديم، فالتلميحات واضحة: مفهوم الله الخالق، الخلق من أصل[18] واحد، البشر من سلالة الله إذ هُم مخلوقون على صورة الله كمثالِه… بمعنى آخر، انطلق بولس من المعطيات المشتركة بين التقليد اليهوديّ والمرتكزات الوثنيّة لإظهار مفهوم الوحي الحقيقيّ. وجوهر البشارة لا يكتمل إلاّ بالوصول إلى إعلان سرّ الخلاص الذي تمّ بيسوع المسيح القائم من الموت.

الخطبة الثالثة (أع 20: 18ب-35)

18فلَمَّا قَدِموا إِلَيه قالَ لَهم: “تَعلَمونَ كَيفَ كانَت مُعامَلَتي لَكُم طَوالَ المُدَّةِ الَّتي قَضَيتُها مُنذُ أَوَّلِ يَومٍ وَطِئتُ فيه أَرضَ آسِيَة. 19فقَد عَمِلتُ لِلرَّبِّ بِكُلِّ تَواضُع، أَذرِفُ الدُّموع وأُعاني المِحَنَ الَّتي أَصابَتْني بِهَا مَكايِدُ اليَهود. 20وما قَصَّرتُ في شَيءٍ يُفيدُكم، بل كُنتُ أَعِظُكم وأُعَلِّمُكم في الأَماكِنِ العامَّةِ والبُيوت. 21فكُنتُ أُناشِدُ اليَهودَ واليونانِيِّينَ أَن يَتوبوا إِلى الله ويُؤمِنوا بِرَبِّنا يسوع.

 

22هاءَنذا الآنَ ماضٍ إِلى أُورَشَليم أَسيرَ الرُّوح، لا أَدري ماذا يَحدُثُ لي فيها. 23على أَنَّ الرُّوحَ القُدُسَ يُؤَكِّدُ لي في كُلِّ مَدينَةٍ أَنَّ السَّلاسِلَ والشَّدائِدَ تَنتَظِرُني. 24ولكِنِّي لا أُبالي بِحَياتي ولا أَرى لها قيمةً عِنْدي، فحَسبي أَن أُتِمَّ شَوطي وأُتِمَّ الخِدمَةَ الَّتي تَلَقَّيتُها مِنَ الرَّبِّ يسوع، أَي أَن أَشهَدَ لِبِشارةِ نِعمَةِ الله.

 

25وأَنا أَعلَمُ الآنَ أَنَّكم لنِ تَرَوا وَجْهي بَعدَ اليَوم، أَنتُمُ الَّذينَ سِرتُ بَينَهم كُلِّهم أُبَشِّرُ بِالمَلكوت. 26لِذلكَ أَشهَدُ اليَومَ أَمامَكم أَنِّي بَرِيءٌ مِن دَمِكم جَميعًا، 27لأَنِّي لم أقَصِّرْ في إِبلاغِكم تَدبيرَ اللهِ كُلَّه.

 

28فتَنَبَّهوا لأَنفُسِكم ولِجَميعِ القَطيعِ الَّذي جَعَلَكُمُ الرُّوحُ القُدُسُ حُرَّاساً لَه لِتَسهَروا على كَنيسَةِ اللهِ الَّتي أكتَسَبَها بِدَمِه.

 

29وأَنا أَعلَمُ أَن سيَدخُلُ فيكم بَعدَ رَحيلي ذِئابٌ خاطِفَة لا تُبقي على القَطيع 30ويَقومُ مِن بَينِكم أَنفُسِكم أُناسٌ يَتَكلَّمونَ بِالضَّلال لِيَحمِلوا التَّلاميذَ على اتِّباعِهم. 31فَتَنبّهوا واذكُروا أَنِّي لم أَكُفَّ مُدَّةَ ثَلاثِ سنَواتٍ، لَيلَ نهار، عن نُصْحِ كُلٍّ مِنكم وأَنا أَذرِفُ الدُّموع.

 

32والآنَ أَستَودِعُكُمُ اللهَ وكَلِمَةَ نِعمَتِه وهُو القَادِرُ على أَن يَشيدَ البُنْيان ويَجعَلَ لَكمُ الميراثَ مع جَميعِ المُقَدَّسين.

 

33ما رَغِبتُ يَومًا في فِضَّةٍ ولا ذَهَبٍ ولا ثَوبٍ عِندَ أَحَد، 34وأَنتُم تَعلَمونَ أَنَّ يَدَيَّ هاتَينِ سَدَّتا حاجَتي وحاجاتِ رُفَقائي 35وقَد بَيَّنتُ لَكم بأَجْلى بَيان أَنَّه بِمِثْلِ هذا الجَهْدِ يَجِبُ علَينا أَن نُسعِفَ الضُّعَفاء، ذاكرينَ كَلامَ الرَّبِّ يسوعَ وَقَد قالَ هو نَفْسُه: “السَّعادَةُ في العَطاءِ أَعظَمُ مِنها في الأَخْذ”.

 

تتوجّه الخطبة الثالثة إلى “مسيحيِّين”، وتحديدًا إلى شيوخ الكنيسة التي في أفسس. تأتي هذه الخطبة بمبادرة شخصيّة من بولس الرسول: لا أحد يدعوه إلى الكلام كما في الخطبتَين السابقتَين (رؤساء المجمع أو بَعض الفلاسفة). يستدعي بولس هؤلاء الشيوخ ليُلقي عليهِم خطبةً وداعيّة يُحمِّلُها وصيَّتَه الأخيرة.

بنية هذه الخطبة محوريّة. تتدرَّج ثلاث مراحل متوازيّة في هذه الخطبة لتبرز الآية 28 كآية محوريّة. تُركّز الموازاة في المرحلة الأولى (آ 18ب-21 وآ 33-35) على مَعرفة شيوخ الكنيسة بِما عَمِله بولس. عرفُوا كيف كانت مُعاملته لهُم ومُعاناتُه وَعدم تقصيرِه في أيّ شيء يُفيدُهم. فَقَد وَعظَهم أوَّلاً بالكلام والدعوة إلى التوبة (القسم الأوّل من هذه المرحلة)، وثانيًا بالعمل الذي سعى من خلالِه أنْ يسدّ حاجتَه وحاجة رفاقِه (القسم الثاني من هذه المرحلة).

بعد الكلام على الماضي، تأتي المرحلة الثانية (آ 22-24 وآ32) لتتكلَّمَ على الحاضر، مُفتَتِحةً القِسمَين بكلمة “الآن”. الأفعال المُستعملة في هذه المرحلة هي في صيغة الحاضر. فبولس الذي يمضي لا يُبالي بحياتِه؛ حسبُه أنْ يُتمَّ الخدمة التي تلقَّاها من الربّ يسوع. في المُقابل، يُودع اللهَ الذين أوكِلُوا إلى خدمتِه لتشملهم النعمة ليثبُتوا في الشدائد والمصاعب وليرثُوا الملكوت.

وبعد الكلام على الحاضر، تأتي المرحلة الثالثة (آ 25-27 وآ 29-31) لِتكشف ما يعرفُه بولس بشأن المُستقبل. يبدأ القسمان في هذه المرحلة بالعبارةِ نفسِها “أنا أعلَمُ أنْ”؛ وهذه المعرفة مُعبَّر عنها في كِلتا الحالتَين بِفِعلٍ في صيغة المُستقبل. تطرح هذه المرحلة تجاذبًا مُستقبليًّا بين غياب وجهِ بولس عن التلاميذ وبين دخول ذئاب خاطفة عليهم من الخارج، وقيام مُضَلِّلين لهُم من الداخل.

أمّا الآية المحوريّة (آ 28)، فَتحتوي على التوجيه المطلوب من شيوخ الكنيسة التي في أفسس: التنبُّه الشخصيّ والجماعيّ والسهر على كنيسة الله التي اقتناها بدم ابنِه[19].

تحتوي هذه الخطبة جوابًا عن واقع كانت قد بدأت الكنائس الأولى تطرحه: كيفيّة العيش بعد رحيل الرسول المؤسِّس. يرتكز هذا الجواب أوَّلاً على تذكُّر الجَهد الرسولي الذي كان في أساس تأسيس هذه الكنائس، واتِّخاذِه مثالاً في الثبات. ومن ثمَّ يأتي عيش رغبة الرسول التي هي التفاعل مع نعمة الله في سبيل تثبيت البنيان الذي يَشيده الله. وعلى هذين الاساسَين (تذكُّر العيش الرسولي المؤسِّس، ورغبة المؤسِّس) يأتي مفهوم تنبيه الرسول وتحقيق مضمون هذا التنبيه لئلاّ يُفسِد أحدٌ أو شيء كنيسة الله.

نُشير أخيرًا إلى أنّ هذه الخطبة لم تستعمل استشهادات من العهد القديم وَلا من الشعراء والفلاسفة كما في الخطبتَين السابقتَين. فالمضمون يتوجّه إلى مسيحيِّين، وتاليًا تبقى الكلمة الأخيرة للربّ يسوع: “السعادة في العطاء أعظم منها في الأخذ”، أيّ التفاني في العطاء والجهاد من دون حساب.

أظهرت قراءتُنا لهذه الخطب الثلاث منهجيّات ثلاث اعتمدها بولس للتوجّه إلى أقسام العالم الثلاثة: كيفيّة إيصال البشارة إلى العالم اليهوديّ وإلى العالم الوثنيّ، وكيفيّة تثبيت العالم المسيحيّ في غياب الآباء المؤسِّسين. منهجيّات تُختصر بكلمة واحدة هي “الانثقاف”. ينطلق المُبشِّر مِمّا يفهمُه المُستمِع ومِمّا يعتبره من المُسلَّمات؛ لا يُساوم على حقيقة الإيمان وصحّة التعليم، بل يُوصِلهما بِصفاء ووضوح كُلِّيّ من خلال واقع المُستمعين ومفاهيمهم.

  1. رسائله[20]

يُقسم العهد الجديد إلى أربعة أقسام كبرى: الأناجيل وأعمال الرسل والرسائل والرؤيا. رسائل بولس هي جزء من الرسائل التي يحتويها العهد الجديد. هناك ثلاث عشرة رسالة تُنسب إلى بولس: إلى أهل روما، الأولى والثانية إلى أهل كورنتس، إلى أهل غلاطية، إلى أهل أفسس، إلى أهل فيلبّي، إلى أهل كولوسي، الأولى والثانية إلى أهل تسالونيكي، الأولى والثانية إلى تيموتاوس، إلى تيطس، إلى فيليمون. أمّا الرسالة إلى العبرانيّين، والتي ليست في الواقع برسالة، فهي بعيدة عن التقليد البولسيّ إن لاهوتيّاً أو أدبيّاً أو زمنيّاً.

تقليديّاً، تُقسم الرسائل المنسوبة إلى بولس إلى أربعة أقسام:

أ- الرسائل الكبرى وهي أربع: روما والأولى والثانية إلى كورنتس وغلاطية.

ب- رسائل الأسر وهي أيضاً أربع: أفسس وفيلبّي وكولوسي وفيليمون.

ج- الرسالتان إلى تسالونيكي.

د- الرسائل الرعويّة وهي ثلاث: الأولى والثانية إلى تيموتاوس وتيطس.

لم توضع نسبة أيّ من هذه الرسائل إلى التقليد البولسيّ على محمل الشكّ، أمّا نسبتها المباشرة إلى بولس في أثناء حياته فقد طُرحت في شأن العديد منها. كذلك طُرحت مسألة وحدة بعضٍ من هذه الرسائل (رسالة واحدة أم عدّة رسائل جُمعت لتؤلّف رسالة واحدة). هذه نظرة سريعة إلى المشاكل التي طُرحت في شأن الرسائل المنسوبة إلى بولس.

أ) الرسائل الكبرى

من جهة نسبتها المباشرة إلى بولس، لا نجد أيّ شكّ في صحّتها.

أمّا من ناحية الوحدة فقد أُثيرت في شأن الرسالة الثانية إلى أهل كورنتس وحدها. ففي هذه الرسالة نجد تناقضاً واضحاً بين الفصول 1-8 والفصول 10-13. ففي الأولى يتحدّث بولس بدموع كثيرة عن افتخاره بالكورنثيّين وعن أنّهم رسالته الحيّة المكتوبة بروح الله الحيّ على ألواح من لحم هي قلوبهم. إنهم ثابتون على الإيمان. أمّا في الفصول الأربعة الأخيرة من الرسالة فيتكلّم بولس على افتخاره ولكن بشكل آخر. إنّها فصول جدليّة تختلف اختلافاً كبيراً عن الأجواء التي سادت في الفصول الثمانية الأولى. أمّا الفصل التاسع من الرسالة فله إطار خاص. من جهة، نرى أنّ بولس يُكرّر الموضوع الذي كان قد عرضه في الفصل الثامن (موضوع جمع الهبات لفقراء أورشليم)؛ ومن جهة أُخرى نرى أنّ هذا الفصل لا يتوجّه إلى أهل كورنتس وحدهم بل إلى كنائس أخائية[21].

هذه الملاحظات جعلت معظم شرّاح الكتاب المقدّس يتّفقون على أنّ الرسالة الثانية إلى أهل كورنتس مؤلّفة من ثلاث رسائل مختلفة قد جُمعت في رسالة واحدة.

ب) رسائل الأسر

انطلاقاً من الاختلافات الواضحة في اللاهوت وفي الأساليب الكتابيّة بين الرسالتين إلى أهل أفسس وإلى أهل كولوسي من جهة والرسائل الكبرى من جهة أخرى، يعتبر الكثير من شرّاح الكتاب المقدّس أنّ الرسالتين إلى أهل أفسس وإلى أهل كولوسي ليستا لبولس. أمّا الرسالتان إلى أهل فيلبّي وإلى فيليمون فلا جدل حول نسبتهما المباشرة إلى بولس. فالرسالة إلى أهل فيلبّي، على الرغم من ذكر الأسر فيها، تبعد كلّ البُعد عن الرسالة إلى أهل أفسس والرسالة إلى أهل كولوسي؛ والموضوعات التي تتطرّق إليها هي الموضوعات التي تعالجها الرسائل الكبرى (كموضوع المتهوّدين الذين يريدون الجمع بين تطبيق الشريعة وموت المسيح وقيامته من أجل الخلاص؛ وموضوع قرب مجيء يوم الربّ). ويجعل معظم شرّاح الكتاب المقدّس تاريخ كتابتها قريباً من تاريخ كتابة الرسائل الكبرى (حوالي السنة 55) بينما يؤخّرون تاريخ كتابة الرسالتين إلى أهل أفسس وإلى أهل كولوسي إلى حوالي السنة 70، إي إلى ما بعد موت بولس.

طُرحت مسألة وحدة الرسالة إلى أهل فيلبّي. من الفرضيّات الأكثر قبولاً لتكوين هذه الرسالة هناك تصوّر يجعل منها ثلاث رسائل منفصلة ولكنّها تتقارب زمنياً وموجّهة كلّها إلى أهل فيلبّي. الرسالة الأولى هي فل 4: 10-20 والثانية هي فل 1: 1-3: 1أ و4: 2-9 والثالثة هي 3: 1ب-4: 1.

ج) الرسالتان إلى أهل تسالونيكي

هناك إجماع يجعل من الرسالة الأولى إلى أهل تسالونيكي أقدم وثيقة مسيحيّة وصلتنا. أيضاً، ليس هناك أيّ شكّ في نسبتها المباشرة إلى بولس وفي أنّها كُتبت حوالي السنة 50.

أمّا في ما يخصّ الرسالة الثانية إلى أهل تسالونيكي فهناك على الأقلّ موقفان. الأوّل يعتبرها تكملة للأولى، وبخاصةٍ في موضوع الاسكاتولوجيّا: إذا كانت الأولى تُركّز على الاسكاتولوجيّا الحاضرة القريبة فالثانية تأتي لتُبرز البُعد المستقبلي لها، مكمّلة ما قاله بولس في الرسالة الأولى. فالموقف الأوّل ينسبها إذًا إلى بولس. ولكن، في الواقع، تعالج كلّ من هاتين الرسالتين موضوع الاسكاتولوجيّا بتعابير مختلفة، وذلك بحسب الأسئلة التي كانت مطروحة. من هنا يأتي الموقف الثاني الذي يعتبر أنّ الرسالة الثانية إلى أهل تسالونيكي جاءت متأخّرة (في نهاية القرن الأوّل) فيفصلها عن الأولى ولا ينسبها مباشرة إلى بولس.

أمّا وحدة كلّ من هاتَين الرسالتين فلم يُشكّ فيها. 

د) الرسائل الرعويّة

تُسمّى الرسالتان إلى تيموتاوس والرسالة إلى تيطس بالرسائل الرعويّة، لأنها موجّهة إلى أشخاص لهم مسؤوليات في أماكن معيّنة، وهذه الرسائل تتحدّث عن هذه المسؤوليّات بالتحديد. كاتب هذه الرسائل يُعرّف عن نفسه بأنّه بولس. ولكن، إضافةً إلى المعطيات الأدبيّة واللاهوتيّة، هناك تنظيمات كنسيّة نستخلصها من خلال هذه الرسائل تشير إلى هيكليّة كنسيّة متطوّرة لا يُمكن إلاّ أن تكون متأخّرة تاريخيّاً. من هنا يعتبر معظم شرّاح الكتاب المقدّس أنّ الرسائل الرعويّة تتخطّى زمنيّاً بولس. أمّا من جهة الوحدة فليس هناك اعتراضات تُذكر.

خلاصة القول، هناك سبع رسائل على الأقلّ تُنسب مباشرة إلى بولس وهي: الرسائل الأربع الكبرى (الرسالة إلى روما والرسالتان إلى كورنتس والرسالة إلى غلاطية) والرسالة الأولى إلى تسالونيكي والرسالة إلى فيلبّي والرسالة إلى فيليمون. أمّا الرسائل الأُخرى (الثانية إلى تسالونيكي والرسالة إلى أفسس والرسالة إلى كولوسي والرسائل الرعويّة الثلاث: الأولى والثانية إلى تيموتاوس والرسالة إلى تيطس) والتي هي جزء من التقليد البولسيّ فيُمكننا أن نعتبرها على الأقلّ رسائل بولسيّة ثانية.

خاتمة

دَخلنا في عالم بولس الرسول من خلال دعوتِه وتأثير حدث دمشق على لاهوتِه، ومن خلال أسلوبِه التبشيريّ في أثناء رحلاتِه، ومن خلال التعرُّفِ إلى رسائِله وأبرز ما قيل فيها. تشكّل هذه المحطّات نقطة انطلاقٍ للتعمّق في فكر بولس الذي نستنتجه بعامّةٍ من الرسائل البولسيّة. نظرة سريعة إلى عناوين المحاضرات اللاحقة تُظهر أهمّ الموضوعات اللاهوتيّة والأخلاقيّة الواردة في هذه الرسائل. ترتكز دراسة هذه الموضوعات على النصوص التي تتطرّق إليها في الرسائل. قد تختلف منهجيّة هذه الدراسة بين اللاهوتيِّين والبيبليِّين: فاللاهوتيّ يُقارب نصوصًا من رسائل مختلفة تحتوي على موضوع واحد؛ أمّا البيبليّ فلا يجمعُ بينها إلاّ بعد دراسة كلّ نص في إطارِه الأدبيّ. ترتكز مقاربة شارح رسائل بولس على خلفيّة أنّ الرسائل هي كتابات ظرفيّة مرتبطة بمناسبة مُعيّنة تظهر من خلال قراءة مجمل الرسالة وتحديد دور النصّ المُعالَج في السياق السرديّ للرسالة. وإذا أردنا أنْ نوسّع هذه الملاحظة، يُمكِننا طرح موضوع الكلام على “لاهوت بولسيّ”؛ هل هُناك لاهوت بولسيّ، أم هُناك لاهوت مُرتبط بظروف مُعيّنة؟ بل أكثر من ذلك، كيف يُمكن لِلاهوتٍ ظرفيّ مُرتبط بحالة مُعيّنة في كنيسة مُحدّدة وفي زمان يسبقنا بألفَي سنة أنْ يكون عصريًّا يُحاكي تطلّعاتِنا المُستقبليّة؟

 

المراجع

نُدرِج هُنا المراجع العربيّة وحدها.

سيداروس، فاضل (الأب اليسوعيّ)، مدخل إلى رسائل القدّيس بولس، دار المشرق، دراسات في الكتاب المقدّس 17، بيروت 1989.

الفغالي، بولس (الخوري)، أعمال الرسل، مداخِل، دراسات، تأمّلات أبحاث، منشورات الرابطة الكتابيّة، دراسات بيبليّة 6، لبنان 1994.

الفغالي، بولس (الخوري)، القدّيس بولس كما في أعمال الرسل، منشورات الرابطة الكتابيّة، محطّات كتابيّة 32، لبنان 2008.

الفغالي، بولس (الخوري)، بولس الرسول بعد ألفَي سنة، منشورات الرابطة الكتابيّة، دراسات بيبليّة 36، لبنان 2008.

مجموعة محاضرين، أعمال الرسل، عنصرة كلّ العصور، منشورات الرابطة الكتابيّة، دراسات بيبليّة 10، لبنان 1995.

مجموعة محاضرين، بولس ورسائله، منشورات الرابطة الكتابيّة، دراسات بيبليّة 23، لبنان 2001.

مجموعة محاضرين، رسائل القدّيس بولس، سلسلة محاضرات، منشورات الجامعة الأنطونيّة، لبنان 1999.

[1]  راجع: الفغالي بولس (الخوري)، إمتداد الأدب البولسيّ في الأسفار المنحولة، منشورات الرابطة الكتابيّة، على هامش الكتاب 14، لبنان 2008.

[2]  تقليديًّا هو لوقا كاتب الإنجيل الثالث.

[3]  لا يرتبط تغيير الاسم في شخص شاول-بولس بتبديل الإيمان والدين. بقي اسمه شاول حتّى بعد اهتدائه إلى المسيحيّة. يتغيّر الاسم اليهودي ويُصبح رومانيًّا في أعمال 13: 9 في جزيرة قبرص. يُشير هذا التغيير إلى التوجّه الجديد الذي تأخذه بشارة بولس نحو العالم الوثنيّ. لن نُميِّز بين الاسمَين في محاضرتِنا.

[4]  لا مجال للتّطرّق إلى هذه الاختلافات في إطار محاضرتِنا.

[5]  يستعمل لوقا لقب “رسول” مرَّتَين فَقط ليصف بولس وبرنابا (أع 14: 4 و14). قَد يُفهَم هذا اللقب بمعنى “المُرسَل” وليس واحدًا مِنَ الرسُل بالمعنى الحَصريّ.

[6]  راجع أيضًا لو 22: 69.

[7]  راجع مثلاً: رو 12 و1 كور 12-14.

[8]  يستعمل إنجيل يوحنّا في مطلع الفصل الخامس عشر صورة “الكرمة والأغصان”، ولكنّها لا تأخذ أبعاد “الكنيسة جسد المسيح”، كما في رسائل بولس.

[9]  راجع: Quesnel, Michel, « Paul prédicateur dans les Actes des Apôtres », New Test. Stud. 47 (2001), pp. 469-481.

[10]  الدفاع أمام الجمع (أع 22: 1-21) وأمام الحاكم فيلِكس (أع 24: 10-21) وأمام الملك أغريبا (أع 26: 2-23).

[11]  هذا إذا استثنينا النوع التحريضيّ في العاصفة (أع 27: 21-26) والخطاب في اللقاء الأخير مع اليهود في روما (أع 28: 17-20).

[12]  راجع مثلاً خُطبًا لم يُذكَر مضمونها في أع 13: 5؛ 13: 43-44؛ 14: 1-3 وغيرها.

[13]  أع 13-14.

[14]  أع 15: 36 – 18: 22.

[15]  أع 18: 23 – 21: 16.

[16]  نصوص الخُطب الثلاث مأخوذة من ترجمة دار المشرق، المعروفة بالترجمة اليسوعيّة.

[17]  أع 2: 14-39؛ 3: 13-26؛ 4: 10-12؛ 5: 30-32.

[18]  قد يُفهم هذا التعبير اليونانيّ بصيغة المُذكّر (فيكون الخلق من رجلٍ واحد) أو بصيغة المُحايد (فيكون الخلق من مبدإ واحد).

[19]  تجدر الإشارة إلى أنّ هناك اختلافات بين المخطوطات القديمة بشأن هذه الترجمة؛ بحسب رأينا، الترجمة الحرفيّة هي كالآتي: “كنيسة الله التي اقتناها بدمِ الخاصِّ” (أي بدمِ الذي له، أي بدم ابنِه الخاصِّ).

[20]  راجع: مجوعة من المحاضرين، رسائل القدّيس بولس، سلسلة محاضرات، منشورات الجامعة الأنطونيّة، لبنان 1999، ص 13-17.

[21]  راجع الآيات الأولى من الفصل التاسع.