الأمبراطوريّة الرومانيّة أيّام القدّيس بولس

الأستاذ كريستيان الحلو

  1. موجز الأوضاع السياسية والإدارية والاجتماعية والاقتصادية في الامبراطورية الرومانية في القرن الأول

في سنة 31 ق.م. تسلّم أوغسطس الحكم في روما التي كانت امبراطوريتها تضمّ جميع المناطق المحيطة بالبحر المتوسط حيث المرافئ الكبرى التي تميّزت بنشاط اقتصادي كثيف. وكان هدف السلطة الرومانية الدفاع عن هذه المناطق وتأمين المواصلات فيها وسلامتها، فعمّها “السلم الروماني” وأصبح البحر المتوسط بحيرة داخلية أطلق عليها الرومانيون تسمية Mare Nostrum أي بحرنا.

أ. “السلم الروماني” (Pax romana)

سمّي أيضًا “سلم أوغسطس” (Pax Augusta) لأن الامبراطور استفاد لتأمينه من سأم الشعب بعد فترة من الحروب الأهلية التي دامت حوالي عشرين عامًا. ارتكز أوغسطس في فرض سلمه على قيم مادية ومعنوية لحماية الحضارة الرومانية وأسّس نظامًا سياسيًّا وإدرايًّا أعطاه حقًّا مطلقًا في إدارة الدولة وراقبها لأنّه كان مقتنعًا أن روما بحاجة إلى سيّد يحدّ من كارثة تنافس الطامعين بالسلطة. كما أصلح الجهاز الإداري للدولة ورتّب النظام الضريبي الذي كان سببًا أساسيًّا للتململ الشعبي فضبطهما بصرامة لمنع التجاوزات.

 تعرّض “السلم الروماني” لبعض الاهتزازات في الداخل على أثر ثورات محلية قُمعت سريعًا، وعلى الحدود على أثر غزوات بعض الشعوب المجاورة للامبراطورية، لكنّها لم تعكّر صفو حياة المجتمع الروماني. لذلك لا يمكن إغفال الطابع العسكري “للسلم الروماني” الذي اقتضى وجود جيش لتنظيمه وتثبيته، فنعمت المناطق الرومانية بالأمن المادي والمعنوي الطويل الأمد. “فالسلم الروماني” وجّه الحضارة الرومانية نحو صون نظام اجتماعي مؤاتٍ للطبقات الميسورة عن طريق تشجيع الإنتاج والتبادل التجاري. فازدهرت المدن وطرق المواصلات التي تربطه بعضها ببعض وتربطها بالأرياف. فالجيش الروماني كان الأداة القويّة لانتشار “السلم الروماني” والحضارة الرومانية في القرن الأول.

ب. الإدارة الامبراطورية

في أوروبا امتدت أراضي الامبراطورية من الجزر البريطانية غربًا حتى البحر الأسود شرقًا بمحاذاة نهري الراين والدانوب. في أفريقيا سيطرت روما على كل المناطق المأهولة بمحاذاة الصحراء، أمّا في آسيا فوصل الوجود الروماني إلى حدود الصحراء العربية وبلاد ما بين النهرين.

لم يكن لهذه المناطق الشاسعة الوضع القانوني ذاته. فسكان إيطاليا كانت لهم امتيازات “المواطنين الرومانيين”، كما أُعطيت هذه الامتيازات إلى المستعمرات الرومانية (وهي أراضٍ مُنحت إلى المحاربين القدامى) وإلى بعض المدن الحرّة. من ناحية أخرى، ارتبطت روما بمعاهدات مع بعض المناطق التي احتفظت باستقلال ذاتي، كمملكة هيرودودس. أمّا مصر فكانت ملكًا خاصًّا للامبراطور.

كانت أراضي الامبراطورية الأخرى ملكًا للشعب الروماني الذي احتلّها بقوّة السلاح وما كان يحقّ لسكّانها استغلالها إلاّ عن طريق دفع بعض الضرائب. وقد قُسّمت هذه الأراضي إلى نوعين : المقاطعات التي يرتبط حكمها بمجلس الشيوخ، والمقاطعات التي يرتبط حكمها بالامبراطور. الأولى يحكمها proconsul يساعده questor للشؤون المالية، أمّا الثانية فيحكمها شيوخ معيّنون من قبل الامبراطور. وكان هناك مقاطعات ثانوية يحكمها praefectus أو procurator بصلاحيات محدودة، بخاصة على الصعيد القضائي.

ج. المجتمع

يمكن التمييز بين المواطنين الرومانيين وأحرار المقاطعات والعبيد. كان لسكان روما الأحرار امتيازات وواجبات المواطنين الرومانيين، إذ يمكنهم المشاركة في اختيار الحكام، لا يدفعون الضرائب ويحاكمون أمام المحاكم الرومانية، كما انه لا يمكن تعذيبهم أو الحكم عليهم بأحكام شائنة كالصلب. توسّعت امتيازات المواطنية الرومانية لتشمل كامل الأراضي الإيطالية وبعض مدن المقاطعات.

انقسم المجتمع الروماني إلى ثلاث طبقات :

– طبقة الشيوخ (classe sénatoriale) المؤلفة من أفراد العائلات الثرية عقاريًّا. كانت مهمّتها تأمين استمرار التقاليد الرومانية. حدّ أوغسطس من صلاحياتها في مقابل زيادة امتيازاتها.

– طبقة الفرسان (classe équestre) المؤلّفة ممّن استطاع تأمين جواد في حال الحرب. فهي طبقة أثرياء حرب صاعدة، اختار منها الامبراطور كبار الموظفين مثل بيلاطوس.

– عامة الشعب (plèbe) تألّفت من المعلّمين والخطباء والأطباء والحِرفيّين والتجّار الأحرار.

د. السلطة الامبارطورية وعبادة الامبراطور

في سنة 27 ق.م. تولّى أوغسطس الـimperium، أي السلطة على جميع الأراضي التـي كانت تحت السلطـة العسكريـة؛ وفي سنة 23 ق.م. الـTribunicia Potestas اي السلطة السياسية؛ وفي سنة 12 ق.م. صفة الحبـر الأعظـم (pontifex maximus)، فأصبحت ممارسة السلطة بيد رجل واحد هو الأكثر ثراء والأكثر قوّة فوضع أوغسطس بذلك أسس نظام دام قرونًا وكان إداريًّا كبيرًا حكم بحكمة واعتدال.

كان أوغسطس عالمًا بأهميـة التقاليـد الوثنية في تثبيت السلم الداخلي، فقبل أن يكرّم كملك – كاهن وتقبّل فكرة تكليفه سلطة إلهية وتأليهه بعد الموت.

أدّى كلّ ذلك إلى قيام دولة قادرة على تأمين حدّ أدنى من الوحدة في العالم الروماني، عن طريق تأمين سبل حمايته وتوزيع المناصب فيه بعدل. والجدير بالذكر أن تطوّر تنظيم الدولة تزامن مع تعاظم السلطة الامبراطورية، إذ لا يمكن فهم الأوّل من دون الثاني، لأنّهما دعما بعضهما البعض.

هـ. الاقتصاد

أدّى “السلم الروماني” وانتظام الإدارة إلى استقرار اقتصادي أدّت مدينة روما فيه دورًا تنسيقيًّا، بخاصة على صعيد التبادل التجاري واتّساعه، مثل المبادلات التي حصلت بين لبنان ومدينة آرل (Arles) الفرنسية. فأصبح للعالم الروماني وحدة اقتصادية بعد أن أسّس وحدتيه السياسية والعسكرية.

ومن أهمّ أسباب هذا التطوّر التجاري تعدّد الإنتاج وحرّية التنقّل من أقاصي الامبراطورية إلى أقاصيها. وكانت الدولة قد بنت وطوّرت شبكة مواصلات لم تكن موجودة من قبل. كما ازدهرت التجارة البحرية والنهرية وبخاصة في المتوسط الذي حرّره الجيش الروماني من القراصنة.

  1. أهمّ المدن التي عاش وبشّر فيها القديس بولس

عزّزت الامبراطورية الرومانية الفكرة الهلّينستية بأن الحضارة شأن مديني. فالمدينة تسهّل العلاقات بين الناس وتنظّمها، وتسمح تاليًا بالتطوّر الاقتصادي والفكري، كما تجسّد الانضباط اللازم للدولة وتنشره، لأنّها قادرة على الدفاع عن نفسها ضد اللصوص وقطّاع الطرق.

وشجّع الحكم الروماني ماديًّا ومعنويًّا تمدين الامبراطورية، لان الواقع المُدني هو واقع سياسي، عسكري، إداري، اقتصادي، اجتماعي وثقافي. وروما هي المدينة بامتياز وبورجوازيّتها هي النخبة الرسمية في الامبراطورية. فهي مدينة امبراطورية ومركز إقامة الامبراطور الذي يعظَّم فيها، لأنها تشهد على ثرائه وقوّته. وهي المثال الأعلى للمدن الأخرى التي جهدت للتشبّه بها.

حوّلها أوغسطس إلى مدينة من رخام بعد أن تسلّمها مدينة من الأجر. وقد تنافس خلفاؤه على إعلاء شأنها من بعده عن طريق الإنشاءات العمرانية والأبنية العامة، مثل الميدان الأكبر (circus maximus) الذي بلغ طوله 600 م وعرضه 200 م واتّسع لمئتين وخمسين مقعدًا، والكولوسيوم (Colisée)، وحمّامات الامبراطور ترايانوس التي بلغ طولها 340 م وعرضها 330 م، وساحة (forum) الامبراطور نفسه التي اشتملت على سوق تجارية من خمسة طوابق ومكتبتين واحدة يونانية وأخرى لاتينية، عدا عن أقواس النصر والمعابد والقصور والمراسح. فأصبحت بذلك عاصمة العالم عن حقّ وبلغ عدد سكّانها حوالي المليون نسمة في القرن الأوّل.

كما تحوّلت الامبراطورية إلى ورشة واسعة خرجت خلالها المدن من أسوارها لتتوسّع في السهول حيث شُيّدت الأحياء الجديدة، مبشّرة بحقبة من الازدهار لم تعرفها من قبل. وانتشرت المستعمرات (colonies) وهي مدن بنيت بحسب تصميم عقلاني يشبه المعسكرات مع شارعين رئيسيين Decumanus Maximus وCardo Maximus يفصلان بين أحياء شُيّدت على شكل مربعات متساوية.

اختلفت المدن بعضها عن بعض، من حيث عدد أبنيتها وعظمتها والنسق الزخرفي المتّبع فيها. لا يوجد مثلاً أي شبه بين بعلبك أو تدمر من جهة وتيمغاد (Timgad) أو كولونيا من جهة أخرى. لكن هذه الاختلافات يغلب عليها ميل عام ناتج عن الإحساس بالانتماء إلى مثال مديني جامع أظهر وحدة شاملة لا شك فيها ولا جدل حولها. في مثل هذه المدن عاش القدّيس بولس وبشّر.

أ. طرسوس

قال بولس : “أنا رجل يهودي من طرسوس قيليقية، مواطن مدينة غير مجهولة” (أعمال 21: 39).

تقع طرسوس على بعد 15 كلم من الشاطئ الجنوبي لتركيا في منطقة كيليكيا، على ضفاف نهر طرسوس أو كيدنوس (Cydnos) بحسب تسميته القديمة، وعلى مفترق طرق تجارية مهمّة عدّة، تربط الأناضول بسوريا.

هي اليوم مركز تجاري يضمّ حوالي 180 ألف نسمة. أسّسها الحثّيون حوالي سنة 1400 ق.م. ثم احتلّها الأشوريون حوالي سنة 850 ق.م. لكنّها ثارت عليهم سنة 696 ق.م. فخرّبها الملك سنحريب. احتلّها الفرس وأصبحت مركزًا لمرزبانة سنة 400 ق.م.

دخلها الاسكندر المقدوني سنة 333 ق.م. وكاد أن يقضي فيها نحبّه على أثر حمّى أصابته بعد أن استحمّ في مياه نهر كيدنوس. خلال العهد السلوقي أصبحت مركزًا فكريًّا ازدهرت فيه الفلسفة الرواقيّة (stoïcisme) وكان فيها مكتبة احتوت على مئتي ألف مخطوط. احتلّها الرومانيون سنة 104 ق.م. ثم منحوا سكّانها امتيازات المواطنية الرومانية سنة 66 ق.م. وأصبحت عاصمة مقاطعة كيليكيا سنة 64 ق.م. فعرف مرفأها ازدهارًا كبيرًا واشتهرت بصناعاتها النسيجية. التقى فيها أنطونيوس بكليوبترا سنة 41 ق.م. لأوّل مرّة، كانت بداية لتحالفهما في ما بعد.

ب. أورشليم

قال بولس : “أنا رجل يهودي وُلدت في طرسوس من قيليقية، على أنّي نشأت في هذه المدينة (أورشليم)، وتلقّيت عند قدمي جملائيل تربية موافقة كل الموافقة لشريعة الآباء” (أعمال 22 : 3).

ذُكرت أورشليم للمرّة الأولى في نصوص مصرية تعود إلى حوالي 1900 ق.م. في القرن الحادي عشر ق.م. كان يسكنها شعب كنعاني من اليابوسيين طردهم الملك داود وبنى فيها قصره ورفعها إلى مرتبة الحاضرة الدينية سنة 1004 ق.م. أمّا الملك سليمان فبنى فيها الهيكل الأوّل في السنة الرابعة لحكمه بمساعدة حيرام ملك صور. في القرن الثامن أجرى فيها الملك حزقيا أعمالاً عمرانيّة وبخاصة على صعيد جرّ المياه وتوسيع الأسوار. دخلها الملك البابلي نبوخذ نصّر الثاني سنة 597 ق.م. وهدم الهيكل وسبى أهلها إلى بابل. وفي سنة 538 سمح قورش ملك الفرس لليهود بالعودة إلى ديارهم فبنوا الهيكل الثاني بين سنتي 520 و515.

بعد حملة الاسكندر حكمها البطالسة ثم السلوقيون. وفي سنة 167 أقدم أنطيوخوس الرابع ملك السلوقيين على تخريب الهيكل وتدنيسه، فأقام فيه تمثالاً للإله زفس ودمّر الكتب المقدّسة والأسوار ومنع الاجتماعات الدينية. أدّى ذلك إلى ثورة المكابيين بين سنتي 164 و142 ق.م.

وفي سنة 63 ق.م. احتلّ بومبيوس أورشليم فدخل الجيش الروماني إلى الهيكل وقتل الكهنة. وبعد أن فرض الرومانيون سيطرتهم على كامل أرض فلسطين قام الملك هيرودس بسلسلة من الأعمال العمرانية في أورشليم، كان أهمّها بناء قلعة أنطونيا لتحصين الدفاع عن الهيكل الذي بدأ بإعادة بنائه سنة 20 ق.م. في أيّام المسيح بلغ عدد سكان المدينة بين 50 الفًا و100 ألف نسمة.

عُقد فيها أوّل مجمع مسيحي سنة 48 لتحديد العلاقات بين المسيحية الناشئة واليهودية، وتقرّر خلاله عدم فرض الختان على المسيحيين الجدد. اندلعت فيها ثورة سنة 66 قام بها المتطرفون اليهود وقتلوا كبار الكهنة والحامية العسكرية الرومانية. بنتيجة ذلك حاصرها الامبراطور الروماني تيطُس بين شهري نيسان وأيلول من سنة 70 ثم دخلها ودمّرها وأحرقها. عاد إليها اليهود وأعادوا بناءها. لكن ثورة أخرى أدّت إلى احتلالها مجدّدًا من قبل الامبراطور هدريانوس سنة 132، فحوّلها إلى مدينة وثنية سمّاها Colonia Aelia Capitolina سنة 135.

ج. دمشق

قال بولس : “فقلت : ماذا أعمل، يا ربّ، فقال لي الربّ : قم فاذهب إلى دمشق… فاقتادني رفقائي باليد حتّى وصلت إلى دمشق” (أعمال 22 : 10-11).

منذ القديم استفاد الإنسان من تدفّق نهر بردى من سلسلة جبال لبنان الشرقية لإيجاد أهم واحة اصطناعية قابلة للزراعة في سوريا، وهي دمشق التي يبلغ عدد سكانها اليوم حوالي خمسة ملايين نسمة، ذكرتها كتابات ايبلا المسمارية التي تعود إلى 3000 سنة ق.م. وابتداءً من القرن الحادي عشر أصبحت عاصمة للدولة الآرامية فاستفادت ممّا أثّر به الآراميون من طرق تحسين استغلال الأرض والريّ، فازدهرت وأصبحت سوقًا للبدو. وقعت تحت حكم الأشوريين والبابليين والفرس. بعد وفاة الاسكندر أصبحت تحت حكم السلوقيين الذين حولوها إلى مدينة يونانية. وفي سنة 64 ق.م. حوّل القائد بومبيوس سوريا إلى مقاطعة رومانية فبدأت دمشق فترة من الازدهار الاقتصادي لم تعرفه من قبل، بسبب “السلم الروماني” الذي ضبط البدو في الداخل وأمّن موردًا جديدًا للثروة، إذ إنّ الجيوش الرومانيّة التي كانت تعسكر ما وراء نهر الفرات في مواجهة الفرس كانت بحاجة إلى القمح والزيت والخمر. فتقدّمت الزراعة بعدما حُصّنت  ضد غزوات البدو وبعدما أنشئت سدود جديدة  للريّ. أعطيت لقب “مستعمرة رومانية” أيّام الامبراطور سبتيموس ساويروس في أواخر القرن الثاني وأصبحت مركزًا لمقاطعة سوريا الفينيقية.

أقام فيها القدّيس بولس بعد ارتداده وبشّر فيها بين اليهود الذين سعوا إلى قتله، إذ كان لهم نفوذ كبير فيها وكان عددهم في تلك الأيام حوالي 50 ألفًا.  “ولمّا انقضت بضعة أيام تشاور اليهود ليغتالوه… فسار به تلاميذ ليلاً ودلّوه من السور في زنبيل” (أعمال 9 : 23-25). إذ كان لدمشق سور بطول 1500 م وعرض 750 اخترقته سبعة أبواب.

د. أنطاكية

“فمضى (برنابا) إلى طرسوس يبحث عن شاول، فلمّا وجده جاء به إلى أنطاكية، فأقاما سنة كاملة… وفي أنطاكية سمّي التلاميذ لأوّل مرّة مسيحيين” (أعمال 11 : 26).

أنطاكية اليوم هي عاصمة مقاطعة الهاتاي (Hatay) التركية وتقع على الضفة الجنوبية للمجرى الأسفل لنهر العاصي على بعد حوالي 20 كلم من البحر وتضمّ حوالي 75 ألف نسمة. تجاهلت الشعوب القديمة موقعها حتّى أيّام السلوقيين. ففي سنة 300 ق.م. قرّر سلوقس تشييدها تلبية لضرورات سياسية وتجارية وأطلق عليها اسم أبيه أنطيوخوس وجعلها عاصمة للامبراطورية السلوقية. ساق إليها البرّ تجارة المدن الشرقية، فكانت محطّ القوافل العراقية التي أتتها بالبلح، والعربية التي أتتها بالبخور، والسورية التي أتتها بالسلاح والمصنوعات الخشبية المزخرفة. كما أتاها الملاحون من الجزر اليونانية وروما والمدن الفينيقية.

وبعد وصول بومبيوس سنة 64 ق.م. حوّل الرومانيون منطقة أنطاكية إلى مقاطعة رومانية وأعطوها امتياز “المدينة الحرّة”. فاتّسعت ونازعت روما في الشهرة والغنى وأصبحت “عروسة الشرق” و”مدينة الأنوار” إذ بنى فيها اليونانيون والرومانيون عددًا وافرًا من الهياكل والمراسح والحمّامات والميادين والملاعب، جامعين فيها أعظم ما توصّلت إليه الحضارتان الشرقية والغربية، فكان شارعها الرئيسي يقطعها من الشرق إلى الغرب بطول 4 كلم. تقاطر إليها الناس من كل مرتبة وجنس وتوافد إليها أهل العزّ والثروة فأصبح عدد سكّانها حوالي 500 ألف نسمة وأصبحت المدينة الثالثة في الامبراطورية بعد روما والاسكندرية.

وصلها القديس بطرس حوالي سنة 40 وأقام فيها حوالي سبع سنوات وأسس فيها الكنيسة الأولى. كانت المركز الأمثل لكنيسة أرادت الانتشار بين الوثنيين، فاتّخذها بولس له معقلاًَ لمدة عشرين سنة ونقطة انطلاق لرسالته التبشيرية.

هـ. أيقونية

“فنفضا (بولس وبرنابا) عليهم غبار أقدامهما وذهبا إلى أيقونية” (أعمال 13 : 51).

هي اليوم مدينة كونيا التركية التي تضم حوالي 600 ألف نسمة. أسّسها الفريجيون في منطقة ليقونيا في الأناضول. تهلينت في القرن الثالث ق.م. فأصبحت مركزًا تجاريًّا مهمًّا أيّام السلوقيين واشتهرت بإنتاج الصوف. أصبحت “مستعمرة رومانية” أيّام الامبراطور هدريانوس.

و. لُسترة

“فلجآ (بولس وبرنابا) إلى مدينتين من ليقونية وهما لُستَرة ودَربة” (أعمال 14 : 6).

أسّسها أوغسطس في سنة 6 ق.م. ولم يبقَ منها اليوم سوى بعض الآثار المطمورة وبعض الحجارة المبعثرة وجزء من سور في قرية فقيرة تُدعى هاتور ساراي، على بعد حوالي 40 كلم جنوبي كونيا.

ز. فيليبّي

“… واتّجهنا… إلى فيليبّي وهي عظمى المدن في ولاية مقدونيا، ومستعمرة رومانية” (أعمال 16 : 11-12).

هي اليوم مدينة كافالا اليونانية وتقع على الشاطئ الشمالي لبحر إيجه في منطقة تراقية وتضمّ حوالي 150 ألف نسمة. احتلّها ملك مقدونيا فيلبّس الثاني سنة 356 ق.م. أعطاها اسمه وحصّنها. وفي سنة 42 ق.م. جرت فيها معركة حاسمة انتصر فيها أنطونيوس وأوكتافيوس على بروتوس وكاسيوس. أصبحت مستعمرة رومانية أيّام أوغسطس، كشفت حفريات أثرية بقاياها في القرن العشرين.

ح. تسالونيقي

“…وأتيا (بولس وسيلا) تسالونيقي” (أعمال 17 : 1).

هي ثاني مدن اليونان اليوم وتضمّ حوالي 400 ألف نسمة. أسّسها كاساندر ملك مقدونيا سنة 315 ق.م. وأعطاها اسم زوجته أخت الاسكندر المقدوني. دخلها الرومانيون سنة 68 ق.م. وجعلوها “مدينة حرّة” سنة 42 ق.م. فأصبحت أهمّ مركز تجاري في مقاطعة مقدونيا، نظرًا إلى موقعها على الطريق الرومانية Via Egnatia التي تربط الشرق بالغرب. تميّزت بطابعها العمّالي النشط واشتهرت بالصناعات النسيجية، كالخيم والسجّاد، التي عُرضت في أسواقها مع المنتجات الجلدية. اختلطت فيها شعوب عدّة من مقدونيين ويونانيين آسيويين وسوريين ومصريين ويهود ورومانيين، نظرًا إلى أهمية مرفإها التجاري ذي الموقع الفريد والحركة الكثيفة.

استفاد القدّيس بولس من هذه الأهمية لنشر الكلمة، إذ قال في رسالته الأولى إلى أهلها : “ذلك أنّه من عندكم انطلقت كلمة الرب، لا في مقدونية وآخائية وحدهما، بل انتشر خبر إيمانكم بالله في جميع الأماكن” (1 : 8).

وقد أبرزت الحفريات الأثرية هذه الأهمية، كاشفة عددًا وافرًا من أقواس النصر والمراسح والميادين التي ثبّتت محوريّة المدينة أيام بولس. 

ط. أثينا

“أمّا الذين رافقوا بولس، فقد أوصلوه إلى أثينا” (أعمال 17 : 15).

هي اليوم عاصمة اليونان وتضمّ حوالي عشرة ملايين نسمة. أسّسها البيلاجيون في القرن الرابع عشر ق.م. ثم أتتها مجموعة من الشعوب الأيونية فاتّسعت وتطوّرت ابتداءً من القرن الحادي عشر ق.م. كان نظامها ملكيًّا حتّى أوائل القرن السابع ق.م. حيث تحوّل الحكم ارستقراطيًّا بنتيجة ازدهار الصناعة والتجارة الذي أدّى إلى قيام طبقة جديدة سعت إلى مشاركة الاستقراطية  في الحكم، فعرفت المدينة نظامًا تسلّطيًّا قاده طغاة مدعومون من الطبقات الشعبية في القرن السادس ق.م. وفي أواخره كانت أثينا متقدّمة اجتماعيًّا وسياسيًّا على المدن اليونانية الأخرى، بفضل الحكمة التي تحلّى بها ارستقراطيّوها الذين قدّموا التنازلات اللازمة في الوقت المناسب، فخطت الخطوة الخيّرة نحو الديمقراطية. لكن هذه الديمقراطية لم تكن تعني سوى أقلية من سكّانها الذين بلغ عددهم حوالي 400 ألف في القرن الخامس، منهم 200 ألف عبد وحوالي 70 الف غريب. أمّا المواطنون الناشطون سياسيًّا فلم يتعدَّ عددهم 40 ألفًا، إذا ما استثنينا النساء والأطفال، فشكّلوا ارستقراطية كانت المسؤولة الوحيدة عن الشأن العام.

وصلت أثينا إلى ذروة قوّتها في القرن الخامس ق.م. لأسباب اقتصاديّة على الصعيدين الصناعي والتجاري، لأنّ العمل فيها كان مسموحًا للجميع بينما كان ممنوعًا على المواطنين الأحرار في غيرها من المدن، ما حدا بأحد المؤرّخين إلى القول إن “الديمقراطية الأثينية هي المدينة بأكملها التي تعمل”.

أدّت الحروب الميديّة مع الفرس في القرن الخامس ق.م. إلى جعلها حامية لجميع اليونانيين، فترأست حلف ديلوس سنة 477 ق.م. الذي ضمّ 150 مدينة فرضت عليها أثينا مساهمات مادّية استعملت لتشييد أبنيتها الفخمة أيّام بيريكلس بين سنتي 461 ق.م. و429 ق.م. وأهمّها أبنية الأكروبول المقدّسة كالبارثينون والإرِكتيون (Erechteion) والبروبيليه (Propylées) ومعبد أثنيا ومسرح ديونيزوس والساحة العامة (Agora) مركز الحياة السياسية، حيث كان القديس بولس يخاطب الناس.

أدّت الامبريالية الأثينية إلى ثورات في المدن اليونانية التي تكتّلت ضدّها في حروب البيلوبونيز (Péloponnèse) فدخلها الاسبرطيون سنة 404 ق.م. وهدموا أسوارها وصادروا أسطولها وفرضوا عليها نظامًا عسكريًّا إرهابيًّا. ومن أهم مظاهر انحلال الديمقراطية الأثينية الحكم بالموت على سقراط سنة 399 ق.م. وبالرغم من سيطرة اسبرطة على المدن اليونانية بدأت أثينا باستعادة موقعها ابتداءً من سنة 395 ق.م. وبخاصة على الصعيد العسكري، بعد هزيمة الاسبرطيين البحرية سنة 376 ق.م. وتوقيعهم السلم معها سنة 371 ق.م. لكنها لم تستطع أن تستعيد هيمنتها السابقة فوقعت تحت حكم فيلبّس الثاني ملك مقدونيا سنة 338 ق.م. ثم دخلها الرومانيون سنة 86 ق.م. فتحوّلت إلى مركز فنّي، أدبي وفلسفي استقطب الشباب الروماني المثقّف.

لما وصلها بولس في بداية النصف الثاني من القرن الأوّل لم يكن مجدها قد خبا، لكن اليونان كانت أصبحت مقاطعة آخائية (Achaie) الرومانية التي تحولت إلى متحف لسيّاح تلك الأيام. فوجد الرسول نفسه وحيدًا في صحراء من الرخام البارد الذي غادرته الروح، ما حدا به إلى مخاطبة أهل تسالونيقي في رسالته الأولى قائلاً : “ولما فرغ صبرنا، فضّلنا البقاء وحدنا في أثينا” (3 : 1) التي أصبحت تشبه مدينة جامعية من القرون الوسطى.

ي. قورنتس

“وغادر (بولس) بعد ذلك أثينة فجاء إلى قورنتس” (أعمال 18 : 1).

هي مدينة يونانية تقع على بعد 15 كلم غربي أثينا على الخليج الذي يحمل اسمها وتضمّ حوالي 30 الف نسمة. أصبحت في القرن الثامن ق.م. أحد أهمّ مراكز الحضارة اليونانية القديمة نظرًا إلى موقعها الاستراتيجي بين بحرين والذي جعلها أيضًا مركزًا تجاريًّا مهمًّا، فوصلت إلى ذروة قوّتها حوالي سنة 600 ق.م. ونافست أثينا في التجارة البحرية. احتلّها فيلبّس الثاني ملك مقدونيا سنة 338 ق.م. ثم دخلها الرومانيون سنة 146 ق.م. وهدموها. أعاد يوليوس قيصر بناءها ابتداءً من سنة 44 ق.م. وأسكن فيها عبيدًا محرَّرين، من هنا تعدّديتها الإثنية. كما أجرى فيها ألعابًا رياضيّة دوريّة كل أربع سنوات جذبت إليها الناس من كل الأنحاء. أكمل أوغسطس سياسة قيصر وأصبحت المدينة عاصمة لمقاطعة آخائية الرومانية وتميّزت بفحشها وفسقها، وذاع صيت كاهنات الإلهة أفروديت, اللواتي مارسن البغاء المقدس فيها، في كلّ أنحاء العالم القديم.

أحب بولس قورنتس أكثر من أثينا، إذ إنّه “حيث كَثُرت الخطيئة فاضت النعمة” (روم 5 : 20). كما ذكّرته بأنطاكية من حيث إمكان نشر الرسالة.

ك. أفسس

“وصل بولس إلى أفسس” (أعمال 19 :1).

هي اليوم مدينة سلجوق التركية وتقع على مسافة حوالي 80 كلم جنوبي مدينة إزمير على الشاطئ الغربي لآسيا الصغرى في منطقة إيونيا.

تحرّرت من الفرس على يد الاسكندر المقدوني سنة 334 ق.م. وبعد وفاته سيطر عليها أحد قادته، ليزيماخوس (Lysimaque)، سنة 283 ق.م. فأعاد بناءها وأعطاها منفذًا مباشرًا على البحر وأحاطها بسور طوله 8 كلم، كما استقدم بعضًا من سكّان المدن المجاورة وأسكهنم فيها. في العهد الهلّينستي أصبحت أفسس أغنى مدن آسيا الصغرى وازدانت بالمراسح والملاعب والساحات العامّة.

بعد موت ليزيماخوس تحالفت تارة مع البطالسة في مصر وطورًا مع السلوقيين في سوريا. وفي سنة 190 ق.م. وقعت تحت سيطرة الرومانيين الذين أوكلوا إدارتها إلى حليفتهم مملكة برغاما (Pergame)، التي أُلحقت نهائيّا بالدولة الرومانية مع أفسس سنة 133 ق.م.

عرفت أوج مجدها أيّام الامبراطور أوغسطس، فنعمت “بالسلم الروماني” والازدهار وأصبحت عاصمة لمقاطعة آسيا الرومانية فبلغ عدد سكّانها حوالي 200 ألف نسمة وغدت مصرف آسيا، فأمّها كل من احتاج إلى المال وازدادت غنىً فبنيت فيها الهياكل والمكتبات.

كانت أفسس، إلى جانب أورشليم وأثينا، من أهم المدن المقدسة في التاريخ القديم إذ اقترن اسمها بعبادة الإلهة أرطميس (Artémis) التي استمرت حوالي ألف سنة واعتُبر هيلكها (Artemision) من عجائب الدنيا السبع، يتوافد إليه حوالي 700 ألف شخص ربيع كل سنة للاحتفال بعيد الإلهة أرطميس، وكان طوله 190 م وعرضه 55 م يحوط به 127 عمودًا من الطراز الايوني.

أثار القديس بولس نقمة تجار تماثيل الإلهة أرطميس وكهنتها الذين تضرّروا من تحوّل العديد من سكّانها إلى المسيحية (أعمال 19 : 23-40).

ومن أهم معالم المدينة بقايا المنزل الذي سكنته العذراء مريم مع القديس يوحنا، وكنيسة على اسمها تعود إلى القرن الأوّل.

ل. صور

“فلقينا سفينة توشك أن تقلع إلى فينيقية، فركبناها وأبحرنا… واتّجهنا إلى سوريا، فوصلنا إلى صور… فأقمنا سبعة أيّام” (أعمال 21 : 2-4).

بعد انتصار الاسكندر على الفرس في معركة ايسوس سنة 33 ق.م. استقبلته المدن الفينيقية من دون مقاومة، باستثناء صور التي حاصرها سنة 332 ق.م. مدة سبعة أشهر ثم دخلها وقتل عددًا وفيرًا من سكّانها وباع الباقين كعبيد. تسلّمها السلوقيون سنة 198 ق.م. وخضعت لروما سنة 64 ق.م. حوّلها الامبراطور سبتيموس ساويروس إلى مستعمرة رومانية في أواخر القرن الثاني وشاد فيها الأبنية الضخمة، كقوس النصر وميدان سباق الخيل.

تردّد السيّد المسيح إليها وشفى في نواحيها ابنة المرأة الكنعانية (متى 15 : 21-28). وبعد موتـه بدأ اليهود باضطهاد المسيحييـن، فلجأ بعضهـم إليها، ما أثار غضـب الملك هيرودوس (أعمال 12 : 20). أتاها القدّيس بولس حوالي سنة 58 وأصبحت مركزًا لرئاسة أسقفية أواخر القرن الأوّل.

م. قيصرية فلسطين

“أعدّا للذهاب إلى قيصريّة… وليؤتَ أيضًا بدواب تحمل بولس لإيصاله سالمًا إلى الحاكم فيلكس” (أعمال 23 : 23-24).

هي مدينة فينيقية على شاطئ السامرة شمالي فلسطين. جعلها بومبيوس مدينة حرّة سنة 63 ق.م. ثمّ أعطاها أوغسطس إلى هيرودوس الذي سمّاها قيصريّة تكريمًا له، وأجرى فيها أعمالاً عمرانيّة كبيرة طيلة 12 سنة وأصبحت عاصمة لمملكته، ثمّ لمقاطعة فلطسين الأولى الرومانية في القرن الثاني. عرفت ازدهارًا كبيرًا بعد هدم أورشليم سنة 70.

سُجن فيها القديس بولس مدة سنتين قبل نقله إلى روما سنة 61. من المرجح أن بولس استُشهد في روما بقطع الرأس، بعد الحريق الشهير أيّام الامبراطور نيرون سنة 64، ودُفن تحت البازيليكا التي تحمل اسمه خارج أسوار روما. وقد أثبتت الحفريات الأثرية وجود رفاته في ذلك المكان.